حرب الخرطوم.. المواجهة الحتمية

لم يكن أكثر المتفائلين من السودانيين يتوقع أن تتأخر المواجهة العسكرية بين أفراد قوات الدعم السريع وبين الجيش منذ تأسيس مليشيات الدعم السريع في غرب السودان على يد الرئيس المعزول الجنرال عمر البشير في العام 2003م لمواجهة الحركات المسلحة هنالك، برغم وجود الجيش في تلك المناطق، وهو خطأ استراتيجي بكل تأكيد لم يتحسّب له البشير.

سرعان ما تعملقت قوات الدعم السريع على مرأى ومسمع المؤسسة العسكرية برمتها، حتى باتت تشكل خطراً ليس في الإقليم الغربي ولكن في كل السودان حين تمدّدت شرقاً وشمالاً وفي كل المؤسسات الحيوية في الخرطوم، بما فيها المؤسسات السيادية والقيادة العامة للقوات المسلحة نفسها بكل تاريخها المنضبط كقوة نظامية مغلقة لا تسمح بأي إنتساب غير نظامي لصفوفها، وهو ما فقدته للأسف مؤخراً مع فتح الباب على مصراعيه للحركات شبه العسكرية وإعطاء منتسبيها رتباً عسكرية ومنهم محمد حمدان دقلو الملقب بـ”حميدتي” نفسه، وهو شخصية مغمورة كان يعمل في مجال بعيد تماماً عن المجال العسكري، ولم يتمتع بأي تعليم نظامي ومع ذلك قفز بالزانة ليجد رتبة عسكرية بدرجة الفريق، وهذا يفتح الباب للتساؤل كيف وجد “حميدتي” هذه الفرصة، بل كيف استطاع أن يتغلغل داخل منشآت الدولة العسكرية ويستولي عليها بنعومة قبل أن يستخدم القوة العسكرية في محاولته لاختطاف “كيكة” الحكم بمفرده.

ما حدث في صبيحة الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023 من مواجهات مسلحة، حسب التوصيف الدستوري للدولة السودانية، يُعتبر تمرداً بائناً بينونة كبرى على الجيش، فالجيش هو المؤسسة العسكرية الرسمية، أما الدعم السريع فهو فصيل ضمن المكونات النظامية الخاضعة للقوات المسلحة بحكم التكوين والقانون، وانشق وتمرد مستغلاً وجوده داخل المواقع العسكرية المنتشرة في العاصمة الخرطوم، وهي مواقع ما كان ليحلم بمجرد دخولها لولا الفرصة المجانية الثمينة التي منحها له الجيش طواعيةً بالسماح بانتشار هذه القوات والتمدد داخلها، وهو خطأ أمن قومي فادح، ولعلّ ما فعلته مليشيات الدعم السريع بتمردها يُذكّرنا بانشقاق “الكتيبة 105” في توريت في منتصف الخمسينيات الماضية، أي قبل استقلال السودان، وهو التمرد الذي تناسل في ما بعد وأدى لانفصال الجنوب مع فارق موضوعي في كلتا الحالتين بطبيعة الحال، لكنه تمرد في الأساس لقوات نظامية استخدمتها قوى سياسية من وراء حجاب لتحقيق مآرب سياسية بحتة.

ها هي الحرب تدخل الشهر الرابع ولا بادرة تلوح في الأفق بحل المشكل الذي بدأ سياسياً وانتهى عسكرياً مزمناً يستعصي على الحلول وطاولات المفاوضات في المدى المنظور بينما المتضرر هو المواطن السوداني الذي تقطعت به السبل والنزوح إلى بلدان الجوار أو البقاء تحت القصف المدفعي في الخرطوم

كان الجميع يخشى حتمية لحظة المواجهة هذه خصوصاً بعد إسقاط عمر البشير وتداعيات ذلك، وبينها الأعداد الكبيرة التي أدخلتها قوات الدعم السريع إلى قلب الخرطوم والانتشار الكثيف لهذه القوات والتفافها حول العاصمة وتمددها لولايات الوسط وشمال السودان، وهي ولايات كانت بعيدة عن ميادين عمل هذه القوات تماماً، ففي عهد النظام السابق وبرغم كل شيء، كان الدعم السريع محدود القدرات محصوراً في رقعة جغرافية بعينها، لكن الثورة المختطفة أتاحت له زيادة قدراته المالية والبشرية، بل صار قائد المليشيا نائباً لرئيس الجمهورية بمباركة ودعم قوى الثورة الجماهيرية التي طرحت نفسها بديلاً في الساحة السياسية السودانية، فأخطاء (عملقة) “حميدتي” وقواته لا يقع وزرها على الجيش فحسب، ولكن تشاركه قوى الثورة في “تحالف الحرية والتغيير” التي باتت تمثل مؤخراً الجناح المدني لقوات الدعم السريع ولا تجرؤ على إدانة تمرد هذه القوات على الجيش وعلى المواطن بل وممارسة العنف ضد المواطنين وممتلكاتهم.

يذكر أن الدعم السريع تاريخياً منذ نشأته غير مرحب به لا في الأوساط الشعبية ولا السياسية حيث ارتبط في أذهان الناس بالترويع والعنف وأطلقت عليه الذاكرة الشعبية إسم “الجنجويد”، وهو مصطلح يعني باللهجة الدارجة (جن يركب جواداً ويحمل جيم ثري)، ولذلك مثّلت هذه الجماعات في بداية تكوينها أسطورة في غرب السودان، وكانت أخبارها المتقطعة تصل لماماً إلى الخرطوم البعيدة عن مواقعهم في أقصى غرب دارفور، ولم يكن أكثر المتشائمين يتوقع تمددهم الدراماتيكي حتى يصل إلى محاولة الاستيلاء على الخرطوم واستباحتها، وبرغم أنّ “حميدتي” قائد هذه المليشيات كان خاضعاً للبشير ولم تكن لديه طموحاته الذاتية على النحو الذي رأيناه بعد سقوط البشير في ثورة ديسمبر/كانون الاول 2018م، وهي الثورة التي اختطفتها جهات سياسية معينة غير مفوضة من الشارع الذي ابتدر الثورة بقطاعاته المختلفة وتضحيات شبابه العُزّل، ولكن هذه الواجهات السياسية التي امتطت ظهر الثورة أجهضتها تماماً وهي تستعين بالمكونات العسكرية وفي مقدمتها قوات الدعم السريع ووقفت غالبية هذه الواجهات السياسية خلف محمد حمدان دقلو وقدمته مدافعاً عن الثورة المختطفة في حقيقة الأمر، وهي ثورة لم تكتمل خالصة لتطلعات الشارع واستقراره كما هو شأن ثورات سابقة فجرتها الجماهير السودانية في تاريخها الوطني المشهود منذ أكتوبر/تشرين الأول 1964م وأبريل/نيسان 1985م.

وحين أنشأ البشير قوات حرس الحدود في بواكير الألفية الجديدة تحت مسمى حرس الحدود للقيام بواجبات أمنية محدودة ضد ما كانت تسميه الحكومة في أقصى اطراف السودان الغربي (بالشفتة) وهم مجموعات قبلية مسلحة متفلِّتة ليست لها أهداف سياسية وقتها لكنها تطورت بمرور الوقت مع وجود البيئة القبلية ودعوات التهميش التاريخية التي عايشتها تلك المناطق المتداخلة مع دول غرب أفريقيا، وهو صراع متجذر في السودان ضمن ما تطلق عليه الدوائر الأكاديمية “صراع المركز والهامش”، وهذا الصراع أنتج الواقع الذي تدحرج إليه السودان اليوم عبر تمرحلات تاريخية منطقية استولدته هذه الصراعات حتى أسفر عن الحرب التي اجتاحت العاصمة السودانية في نهاية المطاف، كما نراها اليوم.

إقرأ على موقع 180  "صفقة الضرورة".. جرعة أوكسجين في تابوت الاتفاق النووي

تطورت قوات حرس الحدود التي أشرنا إليها آنفاً مسنودة بالعشائرية تحت قيادة الزعيم القبلي موسى هلال، وهو من أبناء عمومة “حميدتي” دون أن تُنبّه إلى مخاطر ذلك حكومة البشير التي كانت تراها ذراعاً لكبح المتفلتين والحركات المسلحة في ما بعد، ثم تمكن هذا الفصيل من النمو بعد أن آلت قيادته للعميد وقتها محمد حمدان دقلو الذي راودته طوحات السلطة والثروة ليمتلك موارد مالية ضخمة وشركات جعلت من قوات الدعم السريع قوة اقتصادية ضاربة بمقاييس الاقتصاد السوداني ثم استخدمت مقدراتها المالية لتعزيز قدراتها العسكرية وتسليح أفرادها، لكن النمط العشائري للقوات كان هو طابعها المميز، وظلّ ملازماً لها إلى أن صار قائدها “حميدتي” برتبة الفريق حذو الحافر مع قادة القوات المسلحة ذوي التأهيل النظامي المتدرج، وهكذا صار الدعم السريع نداً قوياً وليس شريكاً في المنظومة العسكرية السودانية فحسب التي تمثل فيها القوات المسلحة ركيزة تليدة في حماية البلاد وفق دستورها وعقيدة تكوينها قبل أكثر من مائة عام هي عمر الجيش الوطني الرسمي.

لم يفطن القادة السياسيون طوال فترات حكم البشير إلى مخاطر إستيلاد قوة محاذية للجيش النظامي إلى أن سقط النظام في ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 وبعدها وجدتْ قوات “حميدتي” الساحة خالية بفعل الهتاف الثوري المشحون ضد الجيش وقياداته بما فيهم البرهان نفسه الذي كان من الصف الثاني وقتها إبان إنطلاقة الثورة الشعبية. وتجدر الإشارة إلى أنّ البرهان نفسه كان من (صُنّاع) “الجنجويد” في أقاصي غرب السودان قبل أن ينقلب السحر على الساحر.

بعد الثورة، خاضت القوى السياسية المختلفة معركة سياسية ضد الجيش مستخدمةً فيها العاطفة الجمعية للجماهير المتعطشة لشعارات الديموقراطية والحرية، واصطفت في صراع مكتوم بعد سقوط حكومة البشير في أبريل/نيسان 2019 إلى جانب قوات الدعم السريع وقائدها “حميدتي” في مواجهة الجيش الذي كان الشارع معبأ ضده باعتباره كان حاكماً طوال ثلاثين عاماً بالإضافة لاتهام قادته بالأيديولوجيا الراديكالية الموالية لحزب البشير (المؤتمر الوطني) الذي كانت هتافات الشارع ترفض مشاركته في العملية السياسية، وهو ما جعل الثورة ككل لا تخلو من الاحتقان وانصرف الجميع بما فيهم الجيش نفسه للاستقطاب وبقيت الفترة الانتقالية في مهب الريح.. هكذا ترك الجميع الديموقراطية خلفهم في (بسطام) حال أبي يزيد البسطامي.. وتقاتلت الاحزاب بكل فشلها القديم على ديموقراطية مزعومة بعيداً عن الحوار، طابعها- كدأبها- الاستقطاب والتعبئة والتعمية، وتحالفوا سراً وعلانية مع قوات هي في واقع الأمر قوات متمردة على الدولة وعلى الدستور وعلى الشارع، واستخدموا في ذلك شعارات مربكة ومضحكة حين يقف قادتهم اليوم يتحدثون عن ديموقراطية “الجنجويد” ولا يرعوي القوم حتى وإن احترقت روما فما تعودنا من أحزابنا إلا صراعات الكراسي والمآسي.

هكذا أدى الاستقطاب الحاد لانفجار الأوضاع صبيحة الخامس عشر من أبريل/نيسان الماضي وها هي الحرب تدخل الشهر الرابع ولا بادرة تلوح في الأفق بحل المشكل الذي بدأ سياسياً وانتهى عسكرياً مزمناً يستعصي على الحلول وطاولات المفاوضات في المدى المنظور بينما المتضرر هو المواطن السوداني الذي تقطعت به السبل والنزوح إلى بلدان الجوار أو البقاء تحت القصف المدفعي في الخرطوم.

صحيح أن الحرب ستنتهي بانتصار الجيش على صنيعته (قوات الدعم السريع) برغم الخسائر التي سيتكبدها لكن الحقيقة الأخيرة هي أنّ حرب الخرطوم العاصمة وما صاحبها من فظائع ميدانية ستزيد من تعقيدات المشهد السوداني في المستقبل، وستكون لها هزات ارتدادية عنيفة إجتماعياً في المقام الأول وعلى قبائل بعينها ابتدرت خطاب عنصري بغيض وهذه نقطة لا تخلو من الخطورة مطلقاً، وستتبعها بالضرورة هزات إرتدادية سياسية وعسكرية واقتصادية أكثر عنفاً.

Print Friendly, PDF & Email
محمد قسم الله محمد إبراهيم

أكاديمي وكاتب صحفي من السودان

Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  السودان.. من تحدي الوجود إلى إنجاز النهوض