

كلا المحكمتين تسعى إلى ترسيخ مبادئ القانون الدولي، إلا أنه لكل منهما رؤية مختلفة لمفهوم العدالة، وطريقة مغايرة في تحقيقها، وأطرافاً متباينة في مخاطبتها.
وقد سُعدت، خلال تخصصي بالقانون الدولي في لاهاي، بزيارة كلتا المؤسستين، حيث رأيت بأم عيني كيف يتحول القانون من نظريات أكاديمية إلى أدوات فعلية لتحقيق العدالة على الساحة العالمية.
محكمة العدل الدولية، التي تُعرف بأنها الذراع القضائي الأساسي للأمم المتحدة، تتولى البت في النزاعات القانونية بين الدول، سواء تعلقت بالحدود أو السيادة أو تفسير المعاهدات. إنها تعمل على ترسيخ القانون بين الدول من خلال قرارات ملزمة، لكنها تعتمد على رغبة الدول في الانصياع، إذ أنها لا تملك وسائل تنفيذ قسرية.
أما المحكمة الجنائية الدولية، التي أُنشئت عام ٢٠٠٢ بموجب نظام روما الأساسي، فهي تعكس وجهًا آخر للعدالة، أكثر حساسية وإنسانية، حيث تُعنى بمحاكمة الأفراد المسؤولين عن أخطر الجرائم: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
تطرح هذه المحكمة رؤية أكثر تطوراً للعدالة، تقوم على مبدأ عدم الإفلات من العقاب، حيث لا تعترف بالحصانة، ولا تستثني أحداً من المحاسبة، حتى لو كان رئيس دولة أو قائداً عسكرياً.
بينما تؤكد محكمة العدل الدولية على أن احترام القانون بين الدول ممكن من خلال الحوار والالتزام، تُذكّرنا المحكمة الجنائية الدولية بأن العدالة للفرد، خصوصًا في مناطق النزاع، تبقى رهينة إرادة سياسية عالمية غير مستقرة
على عكس محكمة العدل الدولية، يُمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تتحرك تلقائياً، أو بناءً على طلب من مجلس الأمن، أو حتى بإحالة من دولة عضو، مما يجعلها أداة فاعلة لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم الجسيمة التي تُهدّد السلم والأمن العالميين.
لكن العدالة الدولية، وبرغم سموها، ما تزال تصطدم بالواقع السياسي. والمثال الأوضح على ذلك هو القرار الأخير الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، على خلفية اتهامات بارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة. وبرغم جدية هذا القرار، فإن زيارة نتنياهو الرسمية إلى المجر بعد صدور المذكرة أظهرت هشاشة تنفيذ هذه الأحكام، وبخاصة عندما ترفض بعض الدول التعاون، وخير مثال على ذلك حكومة المجر التي أعلنت نيتها الانسحاب من المحكمة، في موقف يُبرز التحديات التي تواجهها العدالة عندما تتعارض مع المصالح السياسية.
لا يمكن إغفال دلالة هذا المشهد. فبينما تؤكد محكمة العدل الدولية على أن احترام القانون بين الدول ممكن من خلال الحوار والالتزام، تُذكّرنا المحكمة الجنائية الدولية بأن العدالة للفرد، خصوصًا في مناطق النزاع، تبقى رهينة إرادة سياسية عالمية غير مستقرة.
إن زيارتي لهاتين المحكمتين لم تكن مجرّد تجربة تعليمية، بل لحظة وعي حقيقية بحدود القوة القانونية في نظام دولي تتجاذبه المصالح. ومع ذلك، ما تزال هاتان المؤسستان تمثلان بارقة أمل في أن العالم، وبرغم كل شيء، ما يزال يعترف بأن القانون يجب أن يسمو فوق القوة، وأن العدالة يجب أن تطال الجميع، أفرادًا كانوا أم دولًا.