“الغرفة 46”.. أسرار “أبو نضال” بلسان عاطف أبو بكر

تعود معرفتي وصداقتي بالدكتور عبد الحسين شعبان لسنوات مضت، ذلك أن والدي كان حريصاً على إقتناء مؤلفاته التي زيّنت رفوف مكتبة بيتنا في القامشلي في شمال شرق سوريا. لذلك، لا أتفاجأ بهذا الرجل الذي أعتبره معيناً لا ينضب وخزاناً لمعلومات لا تقف حدودها عند عالمنا العربي فحسب وإنما العالم ككل.

منبته العائلي والنجفي واجتهاده وتجربته الحزبية وأسفاره ومعارفه وقراءاته؛ هذه كلها وغيرها جعلت عبد الحسين شعبان إنساناً موسوعياً بامتياز. ندر أن تخوض معه في موضوع إلا وتجده يُقدّم أفكاره بلغة العلامة العارف. وأينما تمددت في الأسئلة ستجده يُلم بالكثير من تفاصيل العراق وسوريا ولبنان وباقي دول المشرق العربي، كما مغربه.. لا بل يمكنك أن تذهب بعيداً معه نحو هافانا وبراغ وموسكو وعدن وصنعاء والقاهرة والعديد من العواصم.. إنه رجل لا يتوقف عن القراءة والإجتهاد والترحال والبحث الدؤوب.

ينشغل بالنا عندما يغيب أحياناً الدكتور عبد الحسين شعبان، فإذ به يختفي لأجل أن يحتفي بكتاب جديد وبعنوان مفاجىء، فتقول لنفسك ما أعظم أن يلوذ إلى نفسه أحياناً وما أجمل أن يكون حاضراً دائماً بيننا.

تاريخ الرجل وعلاقاته الممتدة في أرجاء العالم تؤهله لخوض غمار الكتابة الفكرية والسياسية والأدبية.

***

مؤخراً؛ صدر للدكتور عبد الحسين شعبان كتاب “الغرفة 46، سرديات الإرهاب.. خبايا وخفايا” (*)، وانا أتبحر في صفحاته الأنيقة وفصوله التسعة، تذكرت نصاً لطيفاً للمؤلف المسرحي الإسباني الشهير إنريكي جارديل بونشيلا يقول فيه: “إذا تمكنت من قراءة مادة مكتوبة دون تعب كبير فهذا معناه أنه تم بذل جهد كبير عند كتابة هذه المادة”.

والدكتور شعبان بذل جهداً كبيراً في نقل الحوار السري الذي سجله مع عاطف أبو بكر قبل خمسة وعشرين عاما في مكان ما لكن الثابت أنها غرفة في فندق تحمل الرقم (46)..

“سرديات الإرهاب.. خبايا وخفايا ” عنوان جذّاب يأخذك بيدك حتى تتعرف من خلال عاطف أبو بكر على شخصية عربية إكتنفها الغموض، وأقصد هنا صبري البنا (أبو نضال) الذي قاد تنظيماً يسمى حركة “فتح ـ المجلس الثوري”. وكان أبو بكر من أقرب شخصيات التنظيم إلى مؤسسه الذي اشتهر باسم “أبو نضال” ولعل هذا النوع من الحوارات السرية يكون جاذباً جداً للقراءة في خضم عناوين كثيرة تطالعنا بها دور النشر العربية، ومعظمها غير جدير بالقراءة، فتصبح قراءة مثل هذا الكتاب “سلاحاً نواجه به”، حسب تعبير الروائي التشيكي ـ الفرنسي ميلان كونديرا.

وهذا الكتاب (الغرفة 46) عبارة عن حوار طويل مُفخخ بالأسرار والخفايا والخبايا سجله الدكتور شعبان مع عاطف أبو بكر وبقي حبيس الأدراج ربع قرن ولم يفرج عنه إلا مؤخراً.

قبل هذا الكتاب، أصدر الباحث والكاتب البريطاني باتريك سيل كتاباً بعنوان “أبو نضال بندقية للإيجار ـ المناضلون في خدمة الموساد”(1992)، تحدث فيه عن الاسطورة الاجرامية التي دوّخت العالم لأكثر من عشرين سنة واستخدمته الأنظمة العربية والغربية ولم يوجه ضربة واحدة لهدف اسرائيلي!

الغموض كان سمة ابو نضال الأساسية. لذا، يُعد كتاب “الغرفة 46” مرجعاً لأي قارئ يبحث في القضية الفلسطينية وما أفرزت من ظواهر وما فرّخت من تنظيمات، من دون التنكر إلى تراث كبير من التضحيات لأحزاب وقوى شكّلت اللبنة الأولى للمقاومة وظلت حتى يومنا هذا أمينة للقضية الفلسطينية.

يشرح كتاب عبد الحسين شعبان الفرق بين التنظيمات التي تدعو للتحرر وإعادة الحق المغتصب وبين هذا التنظيم الذي شكّل العنف والإرهاب إحدى سماته الأساسية دون مراعاة الجانب الإنساني والأخلاقي الذي كان سمة معظم حركات التحرر الثوري في العالم، وهو يسلط الضوء على شخصية أبو نضال (صبري البنا) من بداياته إلى نهاياته مرورا بانشقاقه عن التنظيم الأم، أي حركة فتح بزعامة ياسر عرفات وصولاً إلى أعمال التنظيم وقدراته المالية والأمنية وعلاقاته مع الكثير من الأنظمة في العراق وسوريا واليمن وليبيا والسودان ومصر والجيش السري الأرمني وأجهزة أوروبا الشرقية في زمن حلف وارسو!

جوانب عدة من شخصية ابو نضال يكشفها عاطف أبو بكر، وبينها ضحالة الرجل ثقافياً وسياسياً وعلاقاته المتشعبة مع الأنظمة العربية والدولية والشبكات الإرهابية في العالم، كما يفرد مساحة للمرحلة العراقية التي تعتبر مرحلة دقيقة انتهت بمقتله في بغداد في ظروف غامضة قبيل الغزو الأمريكي للعراق (2003) بشهور قليلة وصولاً إلى القول إن موته بهذه الطريقة دليل قاطع على كمية الأسرار التي كان يحملها فكان لا بد من اسدال الستار النهائي على التنظيم وزعيمه!

ولا يغفل الدكتور شعبان إلقاء الضوء على الظروف التي مرّ بها عاطف أبو بكر الرجل الذي اعتمد المؤلف على شهادته كمادة أساسية للكتاب. ويزيد الكتاب غنى عدد من القصائد التي تضمنها للراوي الذي يتمتع بشخصية ثقافية ناضجة جدا استطاعت أن تعيد صياغة ذاتها وفق مساءلة ومراجعة دقيقة للماضي.

ويعطي شعبان حيزاً من كتابه لمناقشة قضية الإرهاب الدولي، ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، ويشرح لنا أن هناك أكثر من مائة تعريف للإرهاب الدولي، في تعبير واضح عن نقاشات بدأت ولم تنته إزاء هذا المفهوم الذي حاول البعض من خلاله طمس دور حركات التحرر والمقاومة الحقيقية في العالم، ويشرح لنا أيضاً تعريفه للإرهاب بوصفه جريمة لا تعترف بحدود أو تتقيد بجنسية أو جنس أو دين أو وطن أو انتماء عندما يكون موجهاً ضد الأبرياء.

إقرأ على موقع 180  بين بايدن وإردوغان.. "سيف الوقت" لا يرحم محمد شياع السوداني!

(*) كتاب “الغرفة 46 سرديات الإرهاب” للدكتور عبد الحسين شعبان كتاب جدير بالقراءة وأن يتصدر مكتباتنا؛ من إصدارات دار الرافدين بطبعة أنيقة من 300 صفحة، وتولى تصميم غلافه الفنان العراقي عمران القيسي.

Print Friendly, PDF & Email
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  اتفاق "اوبك+": خفض الانتاج لا يصلح ما أفسده "الوحش الخفي"