

آنذاك ترسّخ التحالف القويُّ بين الصهيونية والقوى الرأسمالية الكولونيالية الغربيّة. هذا التحالف ما يزال قائماً مع فارق انتقال المركز الإمبريالي بعد الحرب العالمية الثانية من أوروبا إلى الولايات المتحدة. هذا التحالف العدواني يستهدف العرب جميعاً. يُريدُ الإمعان في تقسيم ما تقسَّم بعد سايكس – بيكو. وينتقل من التقسيم إلى التفتيت، كي تشتعل في بلاد العرب براكين الحروب الطائفية والمذهبية والعشائرية والجِهويّة والعرقية، فتتمهَّد الأرض لإنشاء “إسرائيل الكبرى” من الفرات إلى النيل. ولا ننسى أبداً خطورة ما أعلنه في هذا السياق، وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر عام 1973 عندما قال باسم الإدارة الأميركية وباسم كلِّ صهاينة العالم: “إننا نحتاج إلى مئة عام من الحروب بين السنَّةِ والشيعة في بلاد العرب”. وقبل رحيله [عام 2023] كرَّر كيسنجر مقولاته متحدِّثاً عن حرب عالمية ثالثة يجري فيها “تدمير العرب كلِّهم“، كي تكون “إسرائيل الكبرى” هي الدولة المركزيَّةُ في الشرق، وفقاً للتصوّرات الإسقاطية التَـلمودية. وقد لفَّقُوا كثيراً في هذا المجال، فادَّعوا أنَّ “تابوت العهد” و”قبر السيد المسيح” موجودان تحت الأهرامات خلافاً لكل الحقائق التاريخية.
مصرُ هي قِبْلةُ العرب الإستراتيجية. لا وزن للعرب من دونها. ولا ترتاح مصر، ولا تستطيع الاضطلاع بدورها الرياديّ والقومي والحضاري عندما ينفرط العقد العربي من حولها، سواء من جهة آسيا أو من جهة أفريقيا. وهذا ما هو حاصل الآن من بلاد الشام إلى اليمن إلى الخليج إلى ليبيا والسودان…إلخ. ولهذا فإننا نخاف على مصر بقدر ما نثِقُ بها. ونعلِّق الآمال على شعبها وقوتها الحضارية بقدر ما نزداد عمقاً في وعي التحدّيات الخطيرة التي تحيط بنا، ولا سيما التفاصيل التطبيقية الحديثة للمشاريع الأميركية – الصهيونية التي تستهدف تغيير خريطة الشرق. وهذا ما ردَّدهُ في الآونة الأخيرة مرَّات عديدة بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب على مِنوالِ مَنْ سبقَهما منَ الرؤساء الأميركيين وزعماء الصهاينة. هذه الأهداف تتحوَّل راهناً من خُطةٍ لدى الدولةِ الأميركية العميقة، ولدى الكيان الاستيطاني الإسرائيلي، ودوائرِ البنتاغون ومئطمةِ “إيباك”– تتحوَّلُ – إلى برامج سياسية توضع على سكَّة التطبيق.
ليبيا تعيش صراعات الانقسام. السودان كذلك. وكلاهما حول مصر، فضلاً عن أطماع إثيوبيا، وعن تربُّصاتِ تركيا التي تريدُ توسيعَ دورها برَّاً وبحراً. أمَّا بلاد الشام فقد تقطّعت أوصالها: سوريا الدولة سقطت، وحلَّ مكانها الاقتتالُ الطائفي والعرقي، وهي مهدَّدة بالتقسيم الناري السريع من الجنوب المحتل إسرائيلياً، ومن الشمال والشرق المحتلين أميركيّاً وتركيَّاً. وبجانبِ سوريا يشهد العراق غَلياناً خطيراً، ويعيش لبنان إرهاصاتِ الانفجارِ والتفكك
هذه البرامج تتجدَّدُ سنوياً، وبصورةٍ خاصَّةٍ، منذ أنْ أقرَّ الكونغرس الأميركي عام 1980 مشروع “المستشرق” الصهيوني برنارد لويس لتقسيم وتدجين كل الدول العربية. [كان “برنارد لويس” مستشاراً معلناً في البنتاغون ومستشاراً غير معلن في البيت الأبيض]. وما لا يُغْفَلُ عن معانيهِ ذواتِ الأبعادِ المستقبليةِ في تلك الحِقبة، هو أن إقرارَ الكونغرس خطةَ التقسيم ِوإشعالِ الحروب في منطقتنا تمَّ قبل انتهاء عام على توقيع اتفاقية “كامب دايفيد” عام 1979، الأمر الذي حملَ رسالةً واضحة بأنَّ الولايات المتحدة والصهيونية والكيان الإسرائيلي طعنَتْ كلُّها فكرة السلام، وأرادتْ أن تقول للعالم إنَّ مفهوم السلام عندها هو مجرَّد تكتيك مقنَّع. أمَّا الهدفُ البعيدُ فهو توسيعُ الاحتلالِ، والإمساكُ بالموقع ِالإستراتيجيّ للبلادِ العربيةِ، ومصادرةُ ثرواتِها وارتهانُها إلى أجلٍ غير مسمَّى. قد يقولُ هذا أو ذاك في قطار المثقفين والسياسيين والإعلاميين المُدَجَّنينَ: إنَّ هذه المشاريعَ تندرجُ في سياق مواكبةِ العصر، وهي لا تستهدفُ العرب الذين قصَّرُوا، بل تدفعهم إلى مثل هذه “المواكبة”. ويدّعون أيضاً أنَّ هذه المخططات لا تستهدف مصر الآن.
بإزاءِ ذلك نسألُ هؤلاءِ أنْ يقرأوا خلفيَّات ما حصل في سنواتِ العقد المنصرم . ليبيا تعيش صراعات الانقسام. السودان كذلك. وكلاهما حول مصر، فضلاً عن أطماع إثيوبيا، وعن تربُّصاتِ تركيا التي تريدُ توسيعَ دورها برَّاً وبحراً. أمَّا بلاد الشام – التي ترتبط إستراتيجيَّاً ببلاد الكنانة منذ المصريين القدماء – فقد تقطَّعتْ أوصالـُها: سوريا الدولة سقطت، وحلَّ مكانها الاقتتالُ الطائفي والعرقي، وهي مهدَّدة بالتقسيم الناري السريع من الجنوب المحتل إسرائيلياً، ومن الشمال والشرق المحتلين أميركيّاً وتركيَّاً. وبجانبِ سوريا يشهد العراق غَلياناً خطيراً، ويعيش لبنان إرهاصاتِ الانفجارِ والتفكك الطائفي، والخِلافات العميقة حول الهوية، فيما الاحتلال الإسرائيلي يجثم فوق جنوبه ويمتدُّ إلى مشارف سهل البقاع، ويمسك بالجبال الشرقية من تلال حرمون – جبل الشيخ، ويهاجم العاصمة بيروت ومحيطها ساعة يشاء. وفي فلسطين على حدود مصر وامتدادها الطبيعي، يرتكب الصهاينة برعاية أميركية أكبر إبادة جماعية في هذا العصر، ثمَّ ينبري دونالد ترامب ومن تحت إبطه نتنياهو لِيَطْرَحَا تهجير الفلسطينيين إلى مصر من ناحية سيناء، ما يعني في وقت واحدٍ محاولةَ الإجهازِ نهائياً على القضيةِ الفلسطينيةِ، والتمهيد للتخريب الديموغرافي في مصر، وتهديد وحدتِها التاريخية، كونُها في أيِّ لحظة يمكن أن تكون رافعةً للعرب. ولهذا السبب الإستراتيجي بالذات لم تَطـْوِ الإداراتُ الأميركيةُ المتعاقِبة أوراقَ برنارد لويس الذي اقترح تقسيم مصر إلى أربع دولٍ [وردَتْ في مشروعه تسميةُ أربعةِ تقسيمات: دولة سيناء وشرق الدلتا/ دولة مسيحية في مصر الوسطى- الإسكندرية/ دولة نُوبيّة – أسوان/ ودولة إسلاميّة – القاهرة ومحيطها]. كما لم تطـْوِ الترامبيّةُ النفَسَ الاستعماري المتواصل مثلما كان عند الفرنسيين والبريطانيين فها هو دونالد ترامب يُطالب بالمرور المجَّاني للسفن الأميركية في قناة السويس مدّعياً زُوراً بأنَّ لأميركا فضلاً على قناة السويس، وهي كانت قد شُقَّتْ قبل أكثر من قرن يوم كانت بلادُه غارقةً في الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب. أمَّا الكيان الإسرائيلي فهو طبعاً في الخطِّ نفسه، ولا يوجدٌ مراقب عاقلٌ لم يلحظْ تصاعدَ حملةِ الإعلام ِالصهيونيّ على مصر، إضافةً إلى ما دارَ غير مرة في “الكنيستْ”. وعندما نرصد هذه الحملة في السياسة والإعلام نلاحظ ما يأتي:
أولاً؛ بالرغم من “معاهدة كامب ديفيد” يعيش الكيان الإسرائيلي خوفاً قوياً من الجذور الحضارية لدولة مصر الواحدة. وينظر إليها دائماً بوصفها جبهتهُ الجنوبية ولا سيّما أنَّ “كامب ديفيد” لم يتمكَّن – بعد نحو نصف قرن – من غرس فكرة قبول “إسرائيل” في وجدان الشعب المصري. ما زالت بالنسبة إليه كياناً عدوانيّاً دخيلاً. ولهذا بالضبط يخاف الكيان الإسرائيلي.
ثانياً؛ يخشى الكيان الإسرائيلي من الجيش المصري، ويحاول عبر الولايات المتحدة إيقاف تطوُّرِه. لكن هذا الجيش تطوَّر كثيراً وهو جزءٌ من المجتمع المصري، ولا يستطيع أحدٌ أنْ يسلخَه عنه. هذه هي حقيقة التاريخ التي دفعتِ “الكنيسِتْ”، ولا سيّما في الشهرين الماضييْن إلى المطالبة بسحب القوات المصرية المعزَّزة من سيناء. وترافقت هذه المطالبة باتهام مصر بأنَّها تخرق اتفاقيّة السلام، وبتلميحات عسكرية مستقبلية باستهداف المنشآت الحيوية المصريّة. وإذا كانت هذه التلميحات غير مرتقبة راهناً، فإنَّها تعكس الذهنيّة العميقة لدى الكيان الذي يمكن أنْ يُظهرَها عملياً في أي لحظة انعطافية جديدة في المنطقة.
ثالثاً؛ يخشى الكيان الإسرائيلي من دور الإعلام المصري، فهو يتصرَّف بهدوء من دون أن ينزلقْ إلى تبنِّي الدعاية الفكريّة والتبريرية لإسرائيل التي تمنّت ذلك بعد كامب ديفيد فخابت تمنيّاتها. ويخشى الكيانُ أيضاً من القوة الحضارية الكامنة في وجدان الشعب المصري. ولهذه العواملُ كلِّها بات الصهاينة ينظرون إلى كامب دايفيد بوصفه مرحلة عابرة، ويُخطّطون لما بعده.
إذاً، ما الذي يخططهُ الصهاينة لمصر؟ ما سبق ذكره يُمثِّلُ الأهدافَ بعيدةَ المدى، وأهمُّها وَحدةُ دولةِ مصر. الأميركيون والإسرائيليون يستهدفون هذه الوحدة. ولا يريدون مصر واحدة. والشعب المصري يعرف ذلك. ويا ليت العرب يقفون معها وقفة اقتصادية وتاريخية، لتكون رافعتهم قبل أنْ يسقُطوا جميعاً. لهذا كلِّه نخاف على مصر بقدر ما نثق بها.