ضجيج التاريخ.. وصمت الجغرافيا

"الأرشيف استدعاء وليس تخزيناً". هكذا يُلخّص دبلوماسي عربي عمل في عواصم عربية وغربية، حوارنا في السياسة والاجتماع والاقتصاد. طبعاً لم يخلُ الحوار من السؤال اللازمة في كل حديث عن دور الصحافة في نشر المعرفة. غير أن جرس الجملة ظلّ عالقاً في ذهني. تلخيصه الذكي فتح الباب واسعاً أمام رصد العلاقة بين التاريخ والجغرافيا. ولأن حوارنا أخذ يمتد إلى موضوعات تدور كلها حول ثنائية التاريخ والجغرافيا، تذكرت لوهلة أننا لم نأتِ على ذكر كلمة جيوبوليتيك. كأننا كنا نبحث عن معنى أكثر عمقاً من سطحية بعض التحليلات المتداولة في عالم السوشيل ميديا. 

كيف لنا أن نفهم هذه العلاقة المُركبة بين التاريخ والجغرافيا؟

لعل أنسنة العلاقة تُفسّر شيئاً من الأخطاء المتكررة من قبل سياسيين يعتقدون أن التاريخ يُمكن استمالته بعيداً عن الجغرافيا. المصيبة أن بعضهم يعتقد أن التاريخ يمكن صناعته بشكل آلي، بينما يُردّد المفكر كارل ماركس أن الناس يصنعون تاريخهم بيدهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، فالظروف ليسوا هم من يختارونها بل هي عبارة عن تراكم يمتد من الماضي إلى الحاضر.

يعني ذلك أن التاريخ كائنٌ حيٌ يتنفس ويتحرك. التاريخ متزوج من الجغرافيا. وقد اختار الزوجان منذ اتمام مراسم الزفاف بينهما أن يجعلا كوكب الأرض بيتاً لهما. عاشا في ثبات ونبات لا يخلو من مشاكل وخيانات زوجية لطالما كان يرتكبها التاريخ، صاحب الكاريزما الخلاّقة واللاهث خلف الغواية. يُمارس الخيانة مع البشر باستمرار. هؤلاء البشر يقدمون أجزل الهدايا معتقدين أن التاريخ سيترك خليلته ويتزوج منهم. بينما تقف الجغرافيا، الحرم المصون، مجسدة أسمى معاني الصبر ومتمسكة بالمقولة التقليدية “بكرة رح يرجع لعندي عالبيت”.

هي محقة في اعتقادها هذا. والسذاجة ليست من طبعها وهي من تحداها الزمن من دون نجاح. هي تعرف أنها مسألة وقت. سرعان ما يمل التاريخ من نزواته فيخرج من علاقته المحرمة بكل سلاسة.

في لحظات عديدة وقف المؤرخون عاجزين عن وصف الجغرافيا (الزوجة). حتى أطلق عليها المؤرخ الشهير هيغل وصف “مكر التاريخ”، على اعتبار أن للتاريخ طبيعة جدلية تحكمه.

بالرغم من كل ذلك، يُضرب للجغرافيا تعظيم سلام. هي تتحمل خيانات التاريخ لها. تصبر وتعمل بصمت. الحقيقة هي أن الجغرافيا شخصية قديرة. تتميز بالكبرياء ولا تنجر إلى الموبقات. هي واضحة، فاضحة، كاشفة، لا يهزها ريح. صلفة من دون بجاحة. فصيحة من دون كلام. عاطفية من دون تزلف. والتاريخ يعرف ذلك. من أجل ذلك تربعت الجغرافيا سيدة حرة مستقلة على باقي صنوف المعرفة. فهي قمة الفكر الاستراتيجي وذروة الدراية والإدارة.

في العالم العربي، لم أجد اهتماماً بهذه العلاقة كما وجدته عند مؤرخي مصر. على رأسهم العبقري والجغرافي المصري جمال حمدان الذي وضع  أحد أهم المراجع في هذا المجال. في موسوعته الباذخة عن شخصية مصر وعبقرية الجغرافيا، يصف العلاقة وكأنه طبيب نفسي يلجأ إليه الأزواج لمناقشة علاقاتهم الشخصية والاجتماعية ومشاركة أسرارهم العميقة. فصّفص جمال حمدان هواجس التاريخ الصاخبة وفك شيفرة صمت الجغرافيا.. فاستنطق العلاقة بين الزوجين.

يُضرب للجغرافيا تعظيم سلام. هي تتحمل خيانات التاريخ لها. تصبر وتعمل بصمت. الحقيقة هي أن الجغرافيا شخصية قديرة. تتميز بالكبرياء ولا تنجر إلى الموبقات. هي واضحة، فاضحة، كاشفة، لا يهزها ريح. صلفة من دون بجاحة. فصيحة من دون كلام. عاطفية من دون تزلف. والتاريخ يعرف ذلك

لكن هذه الأنسنة تدفعنا إلى السؤال الفلسفي الجدلي: هل التاريخ يُعيد نفسه؟ مرة أخرى أجد نفسي لا أستطيع حسم المسألة. التاريخ جدلي وحركي بطبعه والجغرافيا ثابتة ومتناقضة بشخصيتها. التضاريس تصنع شخصيات بحرية ونهرية وجبلية وغيرها. مما يزيد من عنصر الغواية عند البشر. أليس هناك من يقول إنه كلما إقترب الناس من الماء، نهراً أو نبعاً أو بحراً أو شلالاً، كانوا أكثر طراوة وسلاسة، وكلما ابتعدوا نحو الجبال الصخرية الجرداء إزدادوا بأساً وبطشاً وقوة؟

لن ينتهي النقاش بين التاريخ والجغرافيا ولا عن سر العلاقة التي تحكمهما. يضع إبن خلدون في مقدمته الشهيرة التاريخ في مقام جليل. ينعته بأجمل الأوصاف، فهو الفن الذي “تتداوله الأمم والأجيال وتُشد إليه الركاب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال”. ويذهب كثيرون من جماعة “الحتمية الجغرافية” إلى التأكيد على ترابط العلاقة بين طبائع البشر والبيئة الجغرافية التي نشأوا فيها.

قررت أن أستعين بـ”صديقين”. يقول الأول، وهو رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل الحاصل على جائزة نوبل للآداب عن مؤلفه التاريخي “يُعيد التاريخ نفسه لأن الحمقى لم يفهموه جيداً”. ويقول الثاني، وهو رئيس فرنسا شارل ديغول مخاطباً الكاتب العربي محمد حسنين هيكل: “انظر يا مسيو هيكل (إلى الخريطة أمامهما). هذه مساحة العالم العربي وهذه مساحة إسرائيل، الهزيمة التي لحقت بكم مؤقتة بطبيعة الجغرافيا والحقائق السكانية فوقه، ومن ينظر عندكم إلى الخريطة لا بد أن يستشعر ثقة في مسار المستقبل”.

هو جدل مفتوح والمهم ألا يقع الإنسان في فخ التفسيرات الضيّقة. عندها تتحول العلاقة بين التاريخ والجغرافيا إلى أرشيف للتخزين لا للاستدعاء.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط ضيف ثقيل على البيت الأبيض
طارق زيدان

كاتب سعودي

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  "الغاز" و"عُقَد" العَقد المصري.. استجرار "التطبيع"!