لا يُمكِن لمعركة أخلاقية وحضارية أن تكون.. جزئيّة!

قد تقتلُ جيوشُ المستعمرين بعضَ الأنفس الجسمانيّة. ولكنّها في الغالب لا تقتلُ إنسانيّتك أو وعيَك بشكل مباشر. وقد تحتلّ جحافلُ جيوشهم بعض الأراضي هنا وهناك، ولكنّها نادراً ما تحتلّ بشكل مباشر: إدراكَك، وآليّةَ تكوينك لرأيك الخاصّ والحرّ.

قد تسرقُ بعض دول الاستعمار والاستكبار جزءاً من نفطك وغازك ومائك، ولكن يصعب عليها أن تسرقَ، بشكل مباشر: منظومَتك الفلسفيّة والعقائديّة والأخلاقيّة.

بالتّأكيد، إنّ المعارك: (1) الفكريّة، (2) والثّقافيّة، (3) والأخلاقيّة.. هي الأكثر أهميّةً وعمقاً وتأثيراً على المدى البعيد. فمنَ الممكن أن ندّعيَ ـ مع بعضٍ من الجرأة الإيجابيّة ـ إنّ المعارك العسكريّة والأمنيّة المباشرة هي من باب “الجهاد الأصغر” بالنّسبة إلى أوطاننا وأمّتَنا العربيّة والإسلاميّة. أمّا المعارك الفكريّة والثّقافيّة والأخلاقيّة: فلا رَيب في أنّها أقرب إلى باب “الجهاد الأكبر”.

نعم، القضيّة جدّيّة وخطيرة إلى هذا الحدّ، ويمكننا أن نجزمَ ـ أو نكاد ـ أنّ التّاريخ الإنساني يُغلّب الانتصارات الحضاريّة على الانتصارات العسكريّة في نهاية الأمر. فكم من الأمم تَغلب بجيوشها، ولكنّها تفشل حضاريّاً، لتندمج في نهاية الأمر ضمن حضارة المنهَزمين عسكريّاً! (راجع مثلاً: قصّة الرّومان مع الإغريق إلى حدٍّ بعيد، وقصّة المغول مع المسلمين – أيضاً إلى حدٍّ بعيد.. أو بالأخصّ: قصّة القبائل الجرمانيّة الغازِية مع الإمبراطوريّة الرّومانيّة).

لطالما ترقّبتُ وانتظرتُ انطلاقَ ورشةٍ فكريّة ـ ثقافيّة – حضاريّة “مقاوِمة” ومن هذا النّوع، وبهذا الطّموح والحجم، كالتي حاول البدءَ بها ـ مثلاً ـ السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر. وأنا شخصيّاً سعيدٌ جدّاً بالتّموّجات الإيجابيّة التي أثارها خطاب السّيد حسن نصرالله مؤخّراً في ما يخص القيم الأسرية والأخلاقية.

بطبيعة الحال، إنني لَمِن المؤيّدين لهذا الطّرح عموماً، ولا تردّدَ في هذا النّوع من “الجهاد”: تماماً كما لا يجوز التّردّدُ والتّخلّفُ في جهاد البندقيّة والقذيفة والصّاروخ.

ولكن، هناك ما يُقلق داخلي: في قلبي وفي وسواسي. وأنا الذي عشت فترة طويلة نسبيّاً في الغرب، ولا زلت أختلط مع بيئات لبنانيّة واسعة (جدّاً) تعيشُ ضمن الإطار الفكري-الثّقافي-الأخلاقي الغربي عمليّاً. وقد شهدتُ فيما شهدتُ، خصوصاً عام 2012، في فرنسا وعن قُرب: المعركة حول السّماح قانوناً بالزّواج المثلي، والهزيمة النّكراء التي مُني بها المعارضون لهذا النّوع من الزّواج، حتّى ولّوا الأدبار هاربين (برغم الإمكانات الهائلة والجمهور ـ اليميني خصوصاً والمسيحي ـ الواسع جدّاً).

من الأسباب الرّئيسيّة لهذه الهزيمة، برأيي: تخطّي “النّموذج الفلسفي الكُلّي” السّائد، لهذه المعركة الثّقافيّة والأخلاقيّة والسّياسيّة “الجزئيّة”.

بتعبير آخر: في مثال الزّواج المِثلي في فرنسا تحديداً كنّا، وفي الأغلب، أمام جهة تتحرّك في إطار “نموذج كُلّي” واضح المعالم (هي الجهة المؤيّدة “للزّواج للجميع”، والتي تسبح مع تيّار الحداثة – وما بعد الحداثة – اللّيبرالي الطّابع، لا عكسَه ولا عكسَ هوى المنظومة الرأسماليّة). أمّا الجهة المقابلة (وهي الجهة المعارضة لمشروع “الزّواج للجميع”) فكانت كمن يريد أن يسبح ضدّ التّيّار العظيم: لكن فقط، من خلال جزئيّة معيّنة.

هل هناك “محمّد باقر الصّدر” جديد يحاول إكمال مشاريع “فلسفتنا” و”اقتصادنا” بالإضافة: إلى اجتماعنا..  لكن أيضاً: أخلاقنا وأحزابنا ومواطَنتنا ومؤسّساتنا ودولتنا.. وتكافؤ فرصنا وكرامة فردنا.. وسلامة أحيائنا من المُرابين والمُقامِرين  وما إلى ذلك؟

في الواقع، كان هؤلاء، من معارضي الزّواج المثلي في فرنسا، يمشون ضدّ أنفسهم عمليّاً وفي الأعم الأغلب: فلا هم يُعارضون “النّموذج الكلّي” الذي تطرحه الحداثة – وما بعد الحداثة – اللّيبراليّة الفرديّة (الطّاغية)، ولا هم خارجَه في أغلب المسائل الأخرى دون الزّواج المثلي (اعلاماً واقتصاداً واجتماعاً وعائلةً وديناً وقيَماً وفلسفةً وسياسةً داخليّة وخارجيّة إلخ.).

لذلك، فقد جرفهم التّيّار الحضاري الكُلّي المهيمِن: جرفَ النّهر العظيم لشجرةٍ وحيدةٍ يابسةٍ وسطَ الماء. تخالُ نفسَها صخرةً وما هي من الصّخر بشيء.

خُلاصةُ ما أودّ التّشديد عليه في هذا السّياق هي: إنّني أخاف أن يحصُل مع شعوبنا اللّبنانيّة والعربيّة والإسلاميّة، تمامَ الذي حصل مع هؤلاء الفرنسيّين (وقد كنت منهم بطبيعة الحال). فقبل أن ندخلَ في معركة كهذه، مرتاحي البال ومطمئنّي القلب:

(1) هل نحن متأكّدون بأنّها ليست معركةً ضدّ فسادٍ جُزئي (دون غيره من أنواع الفساد وفي كلّ المجالات)؟

(2) هل نحنُ متأكّدون من “نموذجنا الحضاري الكلّي” البديل؟ وأينَ هو؟ وكيفَ يتمّ تسويقه من خلال الأساليب والتّقنيّات الحديثة؟ وهل يتمّ تقديمه بشكل جذّابٍ ومغرٍ ومنافِس؟

(3) على المستوى الإسلامي تحديداً: هل هناك “محمّد باقر الصّدر” جديد يحاول إكمال مشاريع “فلسفتنا” و”اقتصادنا” (بالإضافة: إلى اجتماعنا..  لكن أيضاً: أخلاقنا وأحزابنا ومواطَنتنا ومؤسّساتنا ودولتنا.. وتكافؤ فرصنا وكرامة فردنا.. وسلامة أحيائنا من المُرابين والمُقامِرين  وما إلى ذلك)؟

النّداء الصّادق

هل نريد الانتصار على العدوّ والمستعمِر فقط من النّاحية الأمنيّة والعسكريّة وبعض من النّواحي السّياسيّة، أم أنّ مشروعَنا هو الانتصار من النّواحي السّابقة، لكن مع تقديم نموذجٍ حضاريٍّ بديلٍ جدّي؟ هل القضيّة هي مجرّد قضيّة أمن وعسكر وبعض من النّضال السّياسي، أم أنّ علينا الانتصار، كما ذكرنا: فكريّاً، وثقافيّاً، وأخلاقيّاً قبل أيّ شيء آخر (وفي نهاية المطاف)؟

إقرأ على موقع 180  في وداع اليزابيث.. سجّلْ أنا لستُ عربياً!

أعتقد، يقيناً، بأنّنا ـ أقلّه في خطّ الإمام موسى الصّدر والسيّد محمد باقر الصّدر والإمام روح الله الخميني ـ من المدرسة الثّانية. لذلك، فمن المهمّ أن نقاومَ من خلال نموذج حضاريّ بديل وجدّي، لأنّ نموذج الفرديّة اللّيبراليّة الحالي (الحداثي وما بعد الحداثي) لا يتّفق مع نموذجنا المثالي للحضارة.

ولكنّ ذلك لا يعني الهجوم من محاور جزئيّة فقط. مثل: أن نقومَ على الانحراف الفلاني دون الانحراف الفلاني، أو الفساد الأخلاقي الفلاني دون الفساد الأخلاقي الفلاني، أو أن نناقش المفهوم الحداثي الجزئي الفلاني دون المنظومة الحداثيّة الفرديّة-اللّيبراليّة ككلّ.

علينا، برأيي الصّادق والمُخلص، أن نكون كصاحب “فلسفتنا” و”اقتصادنا”: أي من المستقرِين (من “استقراء”) لمفاهيمنا ونظريّاتنا العامّة والبديلة. وهذا يعني، كما رأينا: الشّؤون الجنسيّة والأسريّة طبعاً، لكن أيضاً، شؤون دولة المستقبل، ومؤسّسات المستقبل، واقتصاد المستقبل، وماليّة المستقبل، وأسواق المستقبل، ومجتمع المستقبل.. والمنظومة الفكريّة والثّقافيّة العامّة للمستقبل.

وإلّا، فصدّقوني (والله أعلم): المعركة خاسرة من الآن. لأنّ شبابَنا لا يرَون، حتّى اليوم، بديلاً جدّيّاً ـ مقنعاً وشاملاً ومُغرياً ـ للنموذج الفردي اللّيبرالي الحداثي الغربي (لا مضموناً ولا إعلاماً ولا تسويقاً)!

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  موسى الصّدر.. في الطريق نحو بناء الدّولة المعاصِرة (٢)