في خطابه الأول عن السياسة الخارجية في 4 شباط/ فبراير2021، قال الرئيس الأميركي جو بايدن “سنتصدى بشكل مباشر للتحديات التي تشكلها الصين، أخطر منافس لنا”، وأضاف “سنواجه إنتهاكات الصين الاقتصادية وسنتصدى لتحركاتها العدوانية وتعديها على حقوق الإنسان والملكية الفكرية والحوكمة العالمية، لكننا مستعدون للعمل مع بيجينغ عندما يكون من مصلحة أميركا القيام بذلك”. قبله، كان وزير خارجيته أنتوني بلينكن، أكثر جزماً عندما قال في جلسة المصادقة على توليه حقيبة الخارجية في مجلس الشيوخ، إنه “لا يوجد شك في أن الصين تمثل التحدي الأخطر أمام واشنطن”، مقارنة بأي بلد آخر.
وفي أول قرار تنفيذي بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، حطّت مجموعة حاملة الطائرات “تيودور روزفلت” الهجومية في بحر الصين الجنوبي، بذريعة تعزيز “حرية البحار”، في وقت يثير فيه التوتر بين الصين وتايوان قلق واشنطن بعدما اعلنت تايبه عن توغل كبير لقاذفات قنابل ومقاتلات صينية في منطقة تابعة لها بجوار جزر براتاس. وحذر الجيش الأميركي من أن سفنه الحربية ستكون “أكثر حزماً” في الرد على أي تجاوزات للقانون الدولي، مشيراً على وجه الخصوص إلى طموحات بيجينغ بالتوسع في بحر الصين الجنوبي.
لم يكن هذا التحرك الأميركي هو الأول من نوعه، إذ سبق أن وقعت حادثة بين القوات البحرية الأميركية والصينية في أواخر آب/ أغسطس الماضي في أرخبيل باراسيل المتنازع عليه ايضاً في البحر نفسه الذي بات واحداً من ابرز النقاط الساخنة في العالم.
ويطالب العملاق الأسيوي بكل جزر بحر الصين الجنوبي تقريباً، وهي مطالبات تضعه منذ قرون في نزاعات قانونية وسياسية وسيادية مع دول أخرى في المنطقة بينها فيتنام، ماليزيا، الفيليبين، بروناي وتايوان. وتحاول واشنطن الافادة من هذه النزاعات لامتلاك المزيد من الاوراق الأسيوية في مواجهة خصمها الأكبر والأخطر دولياً.
وكان المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني اقر في كانون الثاني/ يناير الماضي قانوناً جديداً استفزازيا لهذه الدول، يسمح بموجبه لخفر السواحل بـ”إطلاق النار على القوارب الأجنبية” في بحري الصين الجنوبي والشرقي. تزامن ذلك مع سعي الصين إلى فرض سيادتها على أجزاء كبيرة من الجزر والشعاب المرجانية، وتعزيز قدرتها على مراقبة الأنشطة في بحر الصين الجنوبي، وهو ما خلق توترات لبيجينغ مع جيرانها اولا ثم مع واشنطن التي ترى في تحركات الأولى “تهديداً لاستقرار المنطقة وحرية الملاحة في البحر”.
تفضل الصين سلوك درب المفاوضات الثنائية المباشرة مع الاطراف الاخرى، ولكن جيرانها يقولون إن ثقل الصين الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي والعسكري يمنحها تفوقا غير عادل في مفاوضات كهذه
ويربط بحر الصين الجنوبي العالم البحري للشرق الاقصى بمنطقة شبه القارة الهندية. هو بحر متجزّئ من المحيط الهادي ويمتد من سنغافورة ومضيق ملقة إلى مضيق تايوان. وتبلغ مساحته ثلاثة ملايين ونصف المليون كيلومتر مربع، ما يجعله من أكبر بحار العالم بعد البحر الأبيض المتوسط، وأكثرها كثافةً وزخمًا بحركة السفن التجارية العملاقة. ويساوي النفط الآتي من المحيط الهندي عبر مضيق ملقه باتجاه شرق آسيا مرورًا ببحر الصين الجنوبي حوالي ثلاثة أضعاف الكمية التي تعبر قناة السويس، ونحو 15 مرة مقارنة بالكمية التي تعبر قناة باناما. أضف إلى ذلك أن نحو ثلثي إمدادات الطاقة لكوريا الجنوبية و60 في المئة لليابان و80 في المئة لتايوان تأتي عبره.
ويحتوي بحر الصين الجنوبي على نحو 7 مليارات برميل نفط كاحتياطي مؤكد، إلى نحو 900 تريليون متر مكعب من الغاز الطبيعي، فيما يعتقد الصينيون أن باطنه يحتوي على كميات من النفط تفوق أي منطقة في العالم ما عدا السعودية، فضلاً عن ثروة سمكية هائلة قادرة على اشباع مئات الملايين من الذين يعيشون حوله.
وتمر عبر بحر الصين الجنوبي تجارة بحرية يبلغ حجمها خمسة تريليونات دولار سنويا. وتدعي الصين وتايوان بأن الواجهة البحرية بأكملها تتبع لهما. بينما تتنازع الصين مع تايوان وإندونيسيا حول المياه شمال شرق جزر ناتونا. وتتنازع مع الفيليبين وتايوان حول الشعاب سكاربورو شول، وتختلف مع فيتنام وتايوان حول المياه الواقعة غرب جزر سبارتلي وملكية جزر باراسيل، كما تتنازع مع فيتنام وتايوان وبروناي وماليزيا والفيليبين حول ملكية جزر اخرى. وتختلف ماليزيا وكمبوديا وتايلاند وفيتنام حول مناطق في خليج تايلاند، وسنغافورة وماليزيا على طول مضيق جوهور ومضيق سنغافورة.
وتفضل الصين سلوك درب المفاوضات الثنائية المباشرة مع الاطراف الاخرى، ولكن جيرانها يقولون إن ثقل الصين الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي والعسكري يمنحها تفوقا غير عادل في مفاوضات كهذه. وتحاجج بعض الدول بأن على الصين التفاوض مع منظمة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”. ولكن الصين تعارض هذا المنحى وتصر على حقها بالسيطرة على البحر بأسره، فيما تنقسم منظمة “آسيان” في ما بينها حول سبل حل الخلافات.
وفي ظل هذه الفوضى من الخلافات والتناقضات، عزّزت الصين وجودها في البحر ببناء الجزر والدوريات البحرية، ولكن الولايات المتحدة تعترض على التضييق على حرية الملاحة، وادّعاء السيادة غير القانونية من جميع الأطراف، وفي الواقع فان هذا الاعتراض موجّه للصين تحديداً. لذا فان جميع هذه الدول من دون الصين ترحب بوجود أميركي عسكري في المنطقة.
كل هذه الاسباب جعلت هذا البحر بُؤرة من بؤر التوتر الساخنة في العالم، خصوصًا بعدما تحوّلت الصين الى قوة اقتصادية عملاقة والمستثمر الرئيسي في دول جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وبعدما صارت تكتلاً سياسيا واقتصاديا وعـسكريا قائما بذاته، ينافس التكتلات الدولية الأخرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان والهند والآسيان.
وتتهم الصين الولايات المتحدة بالعمل على الحدّ من انطلاقتها خارج أراضيها حتى تُحافظ على تفوّقها والاحتفاظ بهيمنتها العالمية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، فتعمد الى حبس الصين بالسيطرة على متنفسها البحري وخصوصا بحر الصين الجنوبي، الذي صار يُعتبر المسرح الرئيسي للتنافس بين الولايات المتحدة والصين، بل ربما يكون هو مسرح الصراع المقبل بينهما، لا سيما بعدما أعادت الصين هيكلة قوتها العسكرية، وبنت قوة بحرية متفوقة قادرة ليس فقط على حماية مياهها الإقليمية واللصيقة ومنطقتها الاقتصادية الخالصة، بل أيضا على صيانة مصالحها الحيوية التى أصبحت منتشرة فى جميع أنحاء العالم.
هـل يمكن للدولة صاحبة النظام الحديدي والتي صارت مصنع العالم وموطن اكبر كتلة بشرية، وصاحبة ثاني أكبر قوة عـسكرية فى العالم، ان تكون دولة حبيسة؟
ولأجل محاولة لجم التمدد الصيني، تحالفت الولايات المتحدة مع معظم الدول المطلة على البحر، وغذّت الخلافات والتوتّرات في وجه الصين، لتجعل هذه الدول بحاجة إليها، فتخيفها من تفوّق الصين. وتحالفت خصوصًا مع الدول التي تتحكّم بمفتاح البحر، أي بمضيق ملقه الواقع بين جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة بأندونيسيا، وأجرت تدريبات مشتركة مع هذه الدول تتعلق بالسيطرة على المضيق الذى يُعتبر المنفذ الوحيد للصين إلى المحيط الهندي ومن ثم إلى بحار ومحيطات العالم، كما شجّعت حلفاءها الجدد لا سيما فيتنام والفيليبين على احتلال أكبر عدد من الجزر المتناثرة فى أرجائه حتى تلك التى لا تزيد مساحتها عن كيلومترات قليلة.
ويخطط سلاح البحرية الأميركي لتحديث أسطوله بسفن أصغر وأكثر مرونة ويمكن حتى تحريكها عن بعد بهدف التفوق إستراتيجياً على سلاح البحرية الصيني الذي “ازداد حجم قواته الحربية بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال عقدين فقط”.
ولعل طريقة تعامل الأميركيين مع أحداث ميانمار الأخيرة تعطي بعض الجواب. هناك سلطة منتخبة حاول الأميركيون الإستثمار فيها لسنوات. يحدث إنقلاب عسكري، هو تتويج لمسار من النفوذ الصيني المتصاعد في هذه المنطقة، ولا تحرك الولايات المتحدة ساكناً. فقط بيانات تنديد!
وبرغم كل الضجيج الأميركي، فان العقلانية تفترض ان الحرب ليست قادمة، ذلك ان الصين ليست معنية بخوض حروب واستنزاف طاقاتها وقدراتها التي سمحت لها بالتقدم الاقتصادي والصناعي، لا سيما أن خسائرها المادية والمعنوية في حرب تشارك فيها الولايات المتحدة ستكون هائلة. كذلك فان الدول الصغرى التي لا حول لها ولا قوة في مواجهة جارها العملاق تفضل الاتكاء على الحماية الاميركية وتبحث عن حلول ديبلوماسية تحافظ على الاستقرار وتحفظ ماء وجهها السيادي.
بالمقابل، فإن الولايات المتحدة ليست معنية ايضاً بحرب مع الصين، حتى لو كانت بالوكالة، لا سيما في ظل الحاجة الى اصلاح البيت الداخلي الأميركي والعلاقات مع الحلفاء، بعدما أصابتهما تصدعات كبيرة في عهد الرئيس دونالد ترامب، لكن قلق واشنطن من الصعود السريع للمارد الصيني يحتم عليها ابقاء الضغط على بيجينغ عبر استراتيجيات جديدة، أبرزها تشكيل جبهة مناهضة للصين مع حلفاء الولايات المتحدة الآسيويين مع أهمية تعزيز التحالف مع الأوروبيين، قبل الشروع في احتواء الصين، وهذا الأمر إلتفت إليه التقرير الأخير لمجموعة الأزمات الدولية، بدعوته إدارة بايدن إلى إدارة التوترات الإستراتيجية التي ستنشأ بين الصين والولايات المتحدة بصورة دائمة.
كل ما يجري في بحر الصين الجنوبي يهدف لإبقاء الجميع في حالة توجّس من اندلاع حرب فعلية لا يريدها أحد، فتصبح هذه المنطقة أسيرة حالة اللاحرب واللاسلم، اي عدم الاستقرار، لكن هـل يمكن للدولة صاحبة النظام الحديدي والتي صارت مصنع العالم وموطن اكبر كتلة بشرية، وصاحبة ثاني أكبر قوة عـسكرية فى العالم، ان تكون دولة حبيسة؟