في تاريخ حياته، وقد سطَّرها في مؤلفاته الكثيرة، فأدلى بشهادته، وأجَادَ التصريح والجرأة، وإن أخفى الكثير مما لا يُقَال، على دروب مهنة البحث عن المتاعب، وإتعاب الآخرين عندما “تسيّد” جريدة “السفير” كمالك ومؤسس ورئيس تحرير لها وزميل وكاتب من طراز رفيع، و”أستاذ” بلا منافس. لقد حفر طلال سلمان إسماً سيبقى لغزاً مستحيلاً في المهنة المكتوبة، وسؤالاً محيّراً: لماذا قرّر إغلاق “السفير”؟
في الأول من كانون الثاني/يناير عام 1986، انتقلت للعمل في جريدة “السفير”. ترحيبٌ لائقٌ من الأستاذ طلال في مكتبه بحضور أحد مدراء التحرير الأستاذ باسم السبع. كان إسمي ونشاطي المهني قد سبقني إليه. وفي لقائنا ذاك اليوم، أفصح رهانه على صحافية كان يقرأ لها من قبل أن يعرفها. تحقيقاتها الميدانية كانت تُعيد تذكيره ببداياته الأولى في المهنة، ومثلها في الحوارات مع أهل السياسة. كنت ممن يرون في خوض تجربة العمل مع أسرة “السفير” كمن ينال وساماً مبكراً في عمله.. لم أخذل طلال سلمان، وكيف لي أن أخذل رجلاً يُقدّس مهنة المتاعب، ويُتقن شروطها أيضاً، والتي تبدأ بألفها وبائها بأن تكون “نص مجنون”.. كيف لا، والحرب الأهلية كانت ما تزال تقصف سنوات أعمارنا، وتُحيلَهَا أياماً معدودات. وكيف لا، وعدونا الإسرائيلي ما يزال يحتل نصف مساحة الوطن في جنوبه وبقاعه الغربي قبل أن يحرره المقاومون الشرفاء، فيكتب الأستاذ طلال إحدى لمعاته الوقّادة في ذاك المانشيت: “الجنوب يُحرّر الوطن”.. كيف لا وفلسطين ما تزال تحت احتلال صهيوني/ استيطاني/عنصري/إرهابي. كيف لا وما يزال شعب فلسطين مضرجاً بالدماء، والشتات، وظلم الأبعدين والأقربين. كيف لا، وأحلامنا كانت ما تزال طرية في التطلع لبناء وطن خالٍ من طائفية بغيضة، ومزيّنة بأفكار تقدمية، ترنو إلى دولة شفافة بمؤسساتها.
هذا ما كانته رسالة “السفير”.. هذا ما كَاَنهُ الأستاذ طلال سلمان. لقد حوّل صفحات جريدته إلى صفحات مفتوحة متنوعة الآراء، ولكن تحت سقف القضية الأم وهي فلسطين. فاستضاف كتّاباً من المحيط إلى الخليج، جعلوها منبراً حراً، ألزَمتْه في بعض الأحيان دفع تكاليف عشقه لحرية إبداء الرأي. وللأمانة أيضاً، كان لالتفاف هؤلاء على صفحات “السفير” بما يشبه هدير الموج، وانسكاب الروح والوقت والعطاء، والبذل المعنوي، بلا أي مقابل.
لقد حفر طلال سلمان إسماً سيبقى لغزاً مستحيلاً في المهنة المكتوبة، وسؤالاً محيّراً: لماذا قرّر إغلاق “السفير”؟
تستأهل تجربة جريدة “السفير” وطلال سلمان تقييماً موضوعياً لهذه التجربة من تاريخ العمل الصحافي في لبنان والوطن العربي. تجربة جعلت من الصباح فرصة للاطلاع على ما تحمله تلك الصفحات الساخنة بحبرها والحارّة بمواقفها. لقد خلق الأستاذ طلال “حزباً” من على صفحات “السفير”، وخلق مناصرين ومحبين ومعترضين ومثيري شغب مع هذه الصحيفة الرائدة بحيويتها. تجربة منفتحة بتعدد ميول وأهواء العاملين فيها، وهذه تُحسب للأستاذ طلال الذي كان حريصاً على إبقاء التواصل مع كل الأطراف المُتباغضة والمُتقاتلة في الشوارع وفي النفوس. تجربة أبَتْ الانغلاق، وتسكير الأبواب. مَنْ يُمكنهُ تخمين أعداد من عملوا وتركوا وكتبوا في “السفير” أو في عداد زائريها؟
مايسترو بوجوه متعددة
تَرَافقت والأستاذ طلال أثناء تجربتي في “السفير” سنوات طويلة، واطلعت على آلية حركته في إصدار عدد يومي غير مُكرّر. رافقته خارج الجريدة إلى لقاءات مع رجال السياسة من المسؤولين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، كما في تغطية مؤتمرات بمفردي، وأكثرها في العاصمة دمشق. كان لا يُنافس، ولا يحاول لجم اندفاعتي المهنية، إعجاباً منه بجرأتي، وحيوية أسئلتي، وأمانتي في ما أكتب.
كان الأستاذ طلال سلمان متعدد الحضور: هو المتواضع إذا أراد ذلك. ذو الهيبة التي لا تقبل أخذاً ورداً. رئيس التحرير والقابض على وجهة الجريدة سياسياً. الزميل في طبقات المبنى في كل اقسام الجريدة، من الرياضة، إلى مقالات الرأي، إلى صفحة الوفيات. هو رب العائلة وكان أفرادها هنادي وربيعة وأحمد وعلي يلهون بين طبقاتها منذ صغرهم. وهو البهيج بكل جوارحه في السهرات التي أقامها احتفالاً بتأسيس مولوده الجديد “السفير”.
كم كان يدهشنا بحيوته التي أعطته كل هذا الدفق في المتابعة والكتابة و”تطريز” الافتتاحيات بقلم رشيق سريع ملتهب. وكم كنا نخشاه في تقصير يبدو في عملنا، أو شطحاتنا المهنية. لم يكن يحمل عصا لتصويب هنا وهناك، لكنه بقلمه، وإيمانه بحرية الكلمة التي سيترك العنان لحبرها، كان أشبه بمايسترو، بديكتاتور وإن لم يكن يجيد سلوكيات هذه الصفة التي لطالما صارع أصحابها انتقاداً وتلطيشاً.
كان المتواضع إذا أراد ذلك.. رئيس التحرير والقابض على وجهة الجريدة.. الزميل في طبقات المبنى في كل اقسامها.. رب العائلة.. البهيج بكل جوارحه في السهرات التي أقامها احتفالاً بتأسيس مولوده الجديد “السفير”
قيل وسيقال الكثير عن الأستاذ طلال. لا إنسان كاملاً. سأكتفي بالقول عنه أنه كان زميلاً جميل الروح. عفوي النكتة الذكية. آمن بالعروبة كهوية ومشروع حضاري، وأحبطته كتطبيق ونهضة. آمن بقضية فلسطين، منتفضاً لجراحات أهلها. كان معادياً للطائفية والطوائف. وكان أستاذاً حقاً في مهنة الصحافة المكتوبة، وعنيداً لقول كلمة “تشفي الغليل وتفش الخلق”. كان سريع البديهة في ابتكار “المانشيت” الذي كان يختصر عشرات البيانات، مُمسِكاً بيد من يرى فيه سرَّ الصحافة، ومًبعداً لمن قد يرى فيه، أو فيهم إشارات امتلاك أسرار هذه المهنة وتفوقهم ولكن بكثير من المحبة والاحترام المتبادلين.
رحمك الله أستاذ طلال، وستبقى الخبر الأول، حُبّاً أو اختلافاً. ولا ضير في ذلك، فهذه من سُنَنْ الحياة، ومن طبائع الاجتماع البشري.