الشامي الذي يصرخ مبحوحاً في وديان.. لبنان!

ما أشبه اليوم بالبارحة في لبنان. يتكرر حرفياً سيناريو محاولات اسقاط خطة الحكومة المبنية على اتفاق مع صندوق النقد الدولي. كان سبق واسقطت خطة مشابهة، حد التطابق، أعدتها حكومة حسان دياب في ربيع العام 2020. مع فارق أننا نسمع اليوم صوتاً مدافعاً عن "خطته" بشق الأنفس، كأنه يصرخ في برية؛ فمن هو؟

إنه سعادة الشامي نائب رئيس الحكومة. الوحيد المدافع علناً عن خطة التعافي الإقتصادي والمالي، فيما رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يعطي كل من يريد طرفاً من لسان الحلاوة، على عادته في تدوير الزوايا في السياسة أولاً، وما الاقتصاد إلا في التفاصيل اللاحقة.

ليس لسعادة الشامي كاريزما خاصة، ولا هو من طينة قادة لا يشق لهم غبار. لكنه تكنوقراط، يعرف لغة صندوق النقد الدولي. لا يكابر ولا يعيش الانكار، يقر بواقع الحال المرير وعلاجاته الأدهى والأمرّ بلا كثير مواربة، محاولاً ايصال رسائله ببساطة ألفباء أستاذ الابتدائي، متناسياً أنه في مدارس سياسية ومصرفية واجتماعية تعشق دروس تبريرات ميكافيلي وأناشيد أكاذيب بينوكيو.

هل يصمد الشامي أمام أشاوس المنظومة الأوليغارشية المتشابكة المصالح، سياسياً ومصرفياً، على حساب السواد الأعظم من اللبنانيين؟ أم سيرمي مريوله ويترك المطبخ.. ولتحترق الطبخة؟

ليس أكيداً بعد امكان وقوفه صداً منيعاً بوجه ثعالب السياسة وذئاب المال. بيد أن الصعوبة لا تمنع ذكر جملة وقائع لا نجدها الا على لسان سعادة الشامي هذه الأيام، وتحسب له. وغيرها مما شكلها بديهي ومضمونها معضلة، وهي:

أولاً؛ ليس أمام لبنان خيارات كثيرة. بات قطاً مريضاً لقيطاً محشوراً في زاوية صندوق النقد الدولي. لا مناص من اتفاق مؤلم مع الصندوق في محاولة لإخراج البلاد من أزمة هي من أشد الأزمات المالية تعقيداً وضراوة في التاريخ الحديث. كل المحاولات الأخرى عبارة عن بيع وهم، او سمك ببحر مثل ثروة الغاز البحرية، أو مفخخة بتضارب مصالح بين أفرقاء يرفضون الاعتراف بوجوب اعتماد قواعد لعبة جديدة. علماً بأن معظم هؤلاء خرج منهك القوى نسبياً بعد انتخابات 15 أيار/مايو الماضي، ومن يتهيأ له منهم أنه فاز لا يلوي الا على الشعبويات.

إذا أخفق سعادة الشامي، ومعه حكومته او اي حكومة مقبلة تعجز عن تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد، تدخل البلاد في رهانات “صولد كبير” وتفريط خطير بأصول الدولة ومخزون الذهب والنفط والغاز.. في ما يشبه الأوكازيون الفوضوي العارم لاستنفاذ كل “حيلة” وحرق كل “فتيلة”

كما أن مجلس النواب اليوم لا يشبه أي تركيبة سادت منذ ثلاثة عقود من عمر ما يسمى المنظومة. وينسحب ذلك على تركيبة السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية لاحقاً. حال التشظي تجعل القرار صعباً. لا أحد يملك الأكثرية والكل يملك القدرة على التعطيل، فما علينا الا انتظار أم المعارك في السياسة والاقتصاد معاً.

ثانياً؛ إختار سعادة الشامي وسطية بين يمين ويسار. يمين يدعم المصارف وراغب باخراجها من الورطة مثل الشعرة من العجين، محاولاً تسويق انشاء صندوق توضع فيه أصول الدولة لزوم اطفاء الخسائر (أكثر من 72 مليار دولار) وادعاء رد كل الودائع لأصحابها (100 مليار دولار)، او اطلاق فتوى “قدسية الودائع” المرحب بها من “حزب المصرف”، لأنها المدخل الخلفي غير السري لتحميل الدولة معظم الخسائر.

الى اليسار، هناك من يريد قص رأس البنوك و”البنكرجيي”، وتعليقهم على صنوبر بيروت، في انتقام تاريخي عمره من عمر لبنان. انتقام من اوليغارشية جعلت لبنان بين أسوأ 20 دولة في العالم من حيث سوء توزيع الثروة بفعل كل طامح سياسي متواطئ مع كل طامع اقتصادي. وهذا اليسار يحلم بركل طابة المصارف لتضرب طابة مصرف لبنان ثم ترتطم بالمنظومة السياسية، لتقع الطابات جميعاً في مرمى الحتمية التاريخية.. لكن هيهات!

ثالثاً؛ “خطة الشامي مع صندوق النقد”، كما يحلو لجمعية المصارف تسميتها، تتجنب تحميل الدولة ومصرف لبنان الجزء الأكبر من الخسائرالبالغة أكثر من 72 ملياراً (مع اضافة 25 مليوناً مع كل شروق شمس لا يسطع معها بدء تنفيذ الخطة). وتحاول حماية أكبر عدد ممكن من المودعين (88-90%) ب 100 ألف دولار لكل مودع، وتقول صراحة إن قلة قليلة باقية منهم تملك 65 مليار دولار، وهنا بيت قصيد التضحية المؤلمة اذا أمكن. فأصول الدولة لكل اللبنانيين (نصفهم غير مودع)، ولا يجوز تسخيرها لنحو 1 الى 3% منهم فقط: 100 الى 150 الف مودع من أصل 5 ملايين لبناني، مع الإشارة إلى أن 0.1% فقط من اللبنانيين يملكون وحدهم ثلث الودائع (33 مليار دولار لـ 5000 آلاف شخص أو حساب).

رابعاً؛ يستغرب الشامي كيف ان كل حديث عن خطة التعافي يتحول تركيزاً حصرياً على المصارف والمودعين، في حين أن الخطة تشمل أبواباً لا تقل أهمية، اقتصادياً ومالياً وادارياً واجتماعياً، وترسم خارطة طريق جديدة كلياً للبنان في سبيل الإصلاح الحتمي المؤجل من أكثر من 20 سنة. فالمصلحة الضيقة تغلب في نقاشها وأولوياتها على المصلحة العامة، كما دائماً. وما معركة توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين الا عينة من معارك مستقبلية لا تقل شراسة، في مواجهة الفساد وزيادة الضرائب والرسوم ومكافحة التهرب الضريبي وضبط الحدود والمعابر، فضلاً عن انشاء شبكة حماية اجتماعية للفقراء.

إقرأ على موقع 180  ما الذي جعل بايدن يتحرك.. قصف القنصلية الإيرانية أو قافلة الإغاثة؟ 

خامساً؛ يُقلّل الشامي من أهمية ضرورة طرح صندوق لأصول الدولة تسهم ايراداته في رد حقوق المودعين، وهو العالم بضآلة قيمة تلك الأصول وأحوالها المتردية. ولم يتوانَ في مقابلة تلفزيونية مع الزميل ألبير كوستانيان عن السؤال: هل سنرهن تلك الايرادات 70 سنة على سبيل المثال؟ ما يقصده أنها ضئيلة لدرجة ان استخدامها لرد الحقوق سيستغرق عدة أجيال ربما. ثم يرد بشكل غير مباشر على النائب السابق ايلي الفرزلي الذي طيّر فيلاً بحمولة 800 مليار دولار تقديراً منه مضخماً حد اللامعقول لقيمة أصول الدولة، مقابل تقدير علمي استنتجته دراسة للزميل ألبير كوستانيان يتراوح بين 13 و17 ملياراً في الحد الاقصى لقيمة تلك الاصول.

سادساً؛ لدى الشامي منطق مفاده تحديد الأولويات: هل نبحث في انصاف قلة من المودعين على حساب بقية اللبنانيين؟ ويشرح كيف ان الدولة في أسوأ أوضاعها برواتب موظفين لا تتجاوز 50 و100 و150 دولاراً للرواتب حسب الوظائف، وكيف ان خدمات الدولة متردية لدرجة أن لا ورق في مكاتبها ولا كهرباء..

أين تكمن الاولويات إذاً؟ في قيامة الدولة أم تكبيلها المزيد من الأعباء حتى تنوء بلا أي فرصة للقيامة؟

ما معركة توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين الا عينة من معارك مستقبلية لا تقل شراسة، في مواجهة الفساد وزيادة الضرائب والرسوم ومكافحة التهرب الضريبي وضبط الحدود والمعابر، فضلاً عن انشاء شبكة حماية اجتماعية للفقراء

سابعاً؛ الشامي ليس من اليسار الغوغائي كما وردت تعليقات على طروحاته. انه ابن المصارف والاسواق المالية، ابن النظام الليبرالي، وربيب الرأسماليين حيث عمل خلال مسيرته المهنية الطويلة. واستطراداً، فان صندوق النقد، المتهم بخدمة الليبرالية المتوحشة، هو أقرب الى طروحات التضحية الجراحية المؤلمة من الرأسماليين أيضاً اذا كان لا بد من تقشف يحدل الفقراء بالتقشف والضرائب والرسوم، ويفرض على السكان تقشفاً وبؤساً لسنوات وسنوات.

ثامناً؛ لا يمكن إلا سماع صوت متشائم في مكان ما لا يعول كثيراً على الشامي وأمثاله القلائل في لبنان. فالتجارب السابقة لا تشي الا بسقوط أي صوت منطقي أو ضمير حي في بلد ديدنه التحاصص الطائفي ولا أمل فيه لأي عدالة اجتماعية ناجزة. وتؤخذ الدنيا فيه غلاباً من زعماء لا احساس عارماً لديهم بالمصلحة العامة بقدر احساسهم بديمومة نفوذهم حتى لو افلست الدولة عن بكرة ابيها.

***

إذا أخفق سعادة الشامي، ومعه حكومته او اي حكومة مقبلة تعجز عن تطبيق الاتفاق مع صندوق النقد، تدخل البلاد في رهانات “صولد كبير” وتفريط خطير بأصول الدولة ومخزون الذهب والنفط والغاز.. في ما يشبه الأوكازيون الفوضوي العارم لاستنفاذ كل “حيلة” وحرق كل “فتيلة”. ودون تلك الرهانات مخاطر بآثار مضاعفة ليس على اقتصاد البلاد وحسب، بل على أمنها القومي واجتماعها الطائفي وتاريخها المشكوك فيه وجغرافيتها الهشة المصطنعة!

وفي هذه الحالة ليس للبحث صلة.. بل صلات وصلاة!

Print Friendly, PDF & Email
منير يونس

صحافي وكاتب لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  هواجس "الترسيم".. ولـ"السيد" أن يُجيب!