أتحدث أيضاً باسم جيل كان شاهداً على نشأة نظامين في لحظة كادت تكون واحدة. جيل كان شاهداً على ميلاد نظام دولي جديد عرفناه باسم “نظام القطبين” وميلاد نظام إقليمي جديد أطلقنا عليه “النظام الإقليمي العربي”. تأثرا ببعضهما أيما تأثير. تأثر نمط التحالفات في النظام العربي بنمط وطبيعة التحالفات في النظام الدولي، وتأثر نمط السلوك السياسي للدول القائدة في كل نظام بنمط سلوك الدول القائدة في النظام الآخر. أصبحنا لنجد في النظام العربي دولاً تنهج نهجاً يسارياً وأخرى ترفع شارات اليمين بكل تياراته وأنواعه، ولكل دولة انحيازاتها الحرة في سياساتها الخارجية نحو قطب بعينه.
***
هذا الجيل نفسه كان شاهداً على تحول هائل في شكل وهيكل النظام الدولي من شكل وهيكل النظام الثنائي القطبية إلى شكل وهيكل نظام أحادي القطبية، وهو النظام الذي استحق بسلوكيات قائده وتصرفاته ونمط تحالفاته أن يسمي بـ”نظام الهيمنة”. هيمنت الولايات المتحدة على النظام الدولي وصارت تؤثر مباشرة وبقوة في نمط تحالفات وتفاعلات الدول الأخرى المنضوية تحت عنوان نظام إقليمي أو آخر.
بدأنا نشاهد آثار هذا التحول علينا في أواخر القرن الماضي. لم يكن غريباً، وإن بدا لنا خطيراً، الانحسار الواضح في التزام دول النظام الإقليمي العربي الانتماء إلى العروبة عقيدة أو هوية. لاحظنا، وكنا نتابع عن كثب بعد أن كنا، أنا وفريق باحثين ومهتمين، نتابع من داخل مؤسسات النظام الإقليمي كالجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة، كيف أدت نهاية القطبية الثنائية في النظام الدولي إلى تراجع حاد في الخطاب القومي، مضموناً وترديداً. رأينا أيضاً كيف، وبسرعة، توقف أو كاد يتوقف السعي نحو تحقيق تنمية إقليمية عن طريق تنفيذ مشاريع تكاملية، ولا أقول اندماجية. رأينا، وهذا الأخطر، سقوط دول عربية، الواحدة بعد الأخرى، في مستنقع الانفراط أو الفوضى الداخلية. في بعض الحالات كان السقوط، وما يزال، رهيباً ومكلفاً لارتباطه بأوضاع طائفية عاشت هادئة لسنوات في كنف سيادة الخطاب القومي وعلو صوت العمل العربي المشترك. المهم في هذا المجال التصريح بأن الولايات المتحدة كانت طرفاً مؤثراً وفاعلاً في معظم هذه الحالات وما تزال قواتها العسكرية في دول عربية مقيمة لا تغادر.
***
اتساع الفجوة بين منظومة القيم التي تتمسح بها أمريكا والغرب عامة من جهة وبين السلوكيات الفعلية لها ولهذه الدول من جهة أخرى. إسرائيل بما فعلته في غزة وبما تفعله في الضفة الغربية فضحت إلى أقصى درجة مدى اتساع هذه الفجوة الكاشفة أيضاً عن صعوبة تخلص أو تخليص أمريكا من ورطتها، حتى عند لحظة الأفول
لا شك أن المرحلة التي هيمنت فيها دولة واحدة على النظام الدولي كانت من أسوأ المراحل التي مرّ بها هذا النظام، ولعل السبب يكمن، على الأقل من الناحية النظرية، في أن أمريكا باعتبارها القطب المهيمن، لم تكلف نفسها عناء وضع قواعد عمل جديدة تتناغم والتحول الهائل من نظام ثنائي القطبية إلى نظام القطب الواحد. إذ راحت أمريكا تتعامل مع منظومة قيم وضعت في ظل توازن دولي معين وبالتأكيد لا تصلح في ظل هيمنة قطب واحد، حتى إن كان هو نفسه القطب الذي شرع قواعد المرحلة، مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
***
المرحلة الأسوأ في تقديري هي تلك التي نمر فيها سواء كنا دولاً في منظومة دول عربية أو كنا لاعبين في منظومة عالمية. نمر في مرحلة تستحق أن أطلق عليها مرحلة “أفول الهيمنة الأمريكية” وإن كنا ما نزال في بدايتها التي قد تطول لأسباب يجب أن تكون في الحسبان. علامات هذا الأفول كثيرة أنتقي منها القليل لأهميته بالنسبة لموضوعنا هنا:
أولاً؛ حالة هياج. أقصد به “فلتان” في تصرفات وسلوكيات العديد من قادة الدول، حتى الكبرى منها. يمتد هذا الفلتان إلى التحدي الصارخ من جانب دول صغيرة لإرادة ونفوذ دول كبيرة منها دول استعمار قديم ودول استيطان حديث. يمتد أيضاً إلى التحدي المدروس من جانب قطب ناهض كالصين وقطب يحن إلى تاريخه الإمبراطوري كروسيا. لاحظنا أنواعاً من فلتان إسرائيل التي غامرت بأغلى ما تملك، وهو دعم أمريكا، لتجبر واشنطن على الانصياع لتنفيذ هدف وجودها وتوسعها، ونجحت.
ثانياً؛ زيادة في تطبيقات ظاهرة انفراط الدولة القطرية في عديد الأقاليم وبخاصة في الشرق الأوسط. أهم التطبيقات وأخطرها وإن كان ما يزال محل تكهنات ومخاوف هو ما يتردد عن تعدد متزايد في مؤشرات واحتمالات نشوب حرب أهلية ثانية في الولايات المتحدة. يأتي في صدارة هذه المؤشرات التصريحات النارية والتهييجية الصادرة مؤخراً عن الرئيس السابق دونالد ترامب، وله سوابق في هذا الشأن.
ثالثاً؛ التعقيدات الكثيرة التي تواجه عملية البحث عن بديل لحالة بدء أفول نظام الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي. من هذه التعقيدات ثلاثة تستحق التوقف عندها:
(1) شيوع عبارة عالم الجنوب كمفهوم مبتكر غير محدد المعنى والحدود والعضوية، وحده لا ينفع كبديل لنظام الهيمنة، ولكن كمكمل قد ينفع كمحسن للهيمنة التي تمارسها أمريكا ومرطب لأدائها.
(2) أمريكا تقيم أحلافاً متحركة ومتنقلة أو أحلافاً لقضية بعينها كتجربة تفيد في تأكيد الهيمنة وتعزيزها ولتعويض العجز الناتج عن انحدار مكانتها وعن ضعف إمكاناتها المخصصة لفرض النظام الذي تريد.
(3) اتساع الفجوة بين منظومة القيم التي تتمسح بها أمريكا والغرب عامة من جهة وبين السلوكيات الفعلية لها ولهذه الدول من جهة أخرى. إسرائيل بما فعلته في غزة وبما تفعله في الضفة الغربية فضحت إلى أقصى درجة مدى اتساع هذه الفجوة الكاشفة أيضاً عن صعوبة تخلص أو تخليص أمريكا من ورطتها، حتى عند لحظة الأفول.
في هذا السياق، يأتي التقرير عن حال حقوق الإنسان الصادر قبل يومين أو ثلاثة ايام عن وزارة الخارجية الأمريكية وتقديم أو عرض الوزير أنتوني بلينكن له نموذجاً صارخاً للمدى المخزي الذي وصل إليه اتساع الفجوة بين منظومة القيم والتزام أمريكا وبقية دول حلف الغرب باحترامها.
***
العالم في ورطة، وعالمنا العربي جزء منه. كلاهما في حال انتقال إلى شيء آخر غير معلومة حدوده أو شكله أو شروطه أو القيم التي يتحلى بها عن اقتناع، أو يتسلح بها ليقهر غيره.