غداة الضربة العسكرية الأقوى التي تتلقاها إسرائيل منذ 50 عاماً، سارع جو بايدن إلى محاولة إنقاذ الموقف، تماماً على خطى سلفه ريتشارد نيكسون عام 1973. عامذاك كانت رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير على علاقة متوترة مع الإدارة الأميركية التي تحاول الدفع بمبادرة جوزف سيسكو لإيجاد تسوية شرق أوسطية، بينما الحكومة الإسرائيلية لا تزال تعيش نشوة الانتصار في حرب “الأيام الستة” في 1967. لكن بعد صدمة “يوم الغفران” في 1973، هرولت مائير إلى نيكسون، كي يُنقذ الجسر الجوي الأميركي إسرائيل من الإنهيار. ولطالما كرّر أنور السادات في تبرير قبوله وقف النار، أن مصر باتت بدءاً من اليوم الرابع لحرب تشرين/أكتوبر في مواجهة أميركا وليس إسرائيل فحسب. والعلاقة بين بايدن ونتنياهو لم تكن مثالية وسادها الكثير من الفتور، وحال ذلك دون استقبال الرئيس الأميركي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، ما خلا مرة واحدة على هامش إجتماعات الدورة العادية للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي بنيويورك وليس في البيت الأبيض.
بايدن لا ينقذ إسرائيل فحسب، بل هو يحاول إنقاذ مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بعدما تبدى أنه من نتائج هجوم “حماس”، توجيه ضربة لمساعي التطبيع التي تقودها واشنطن بين السعودية وإسرائيل، وأن الكفة في المنطقة مالت بما لا يدع مجالاً للشك لمصلحة إيران، وبالتالي صار التطبيع بحكم المُؤجل حالياً
بعد غزوة حركة “حماس” لمواقع الجيش الإسرائيلي ومستوطنات قطاع غزة (غلاف غزة)، أصيبت إسرائيل بالصدمة الثانية. ظهر نتنياهو ضعيفاً بينما سارع بايدن إلى الإمساك بزمام المبادرة من خلال إرسال حاملتي الطائرات “جيرالد فورد” “ودوايت أيزنهاور” إلى شرق المتوسط مع جسر جوي لنقل السلاح والأعتدة على عجل إلى إسرائيل، في تكرار لمشهد 1973.
ويهم بايدن أن يظهر الآن في مظهر المُنقذ لإسرائيل من “ضلال” نتنياهو وتعديلاته القضائية وحكومته المتطرفة، وأن يؤكد أنه أحرص على إسرائيل من بعض قادتها، لا سيما مع بدء موسم الحملات للإنتخابات الرئاسية لعام 2024. فرصة سيحاول الرئيس الديموقراطي استغلالها حتى النهاية. وهذا سر غضب الرئيس السابق دونالد ترامب الذي وصف صديقه نتنياهو بأنه “أحمق” بسبب أحداث غزة.
وفي واقع الأمر لا ينقذ بايدن إسرائيل فحسب، بل هو يحاول إنقاذ مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، بعدما تبدى أنه من نتائج هجوم “حماس”، توجيه ضربة لمساعي التطبيع التي تقودها واشنطن بين السعودية وإسرائيل، وأن الكفة في المنطقة مالت بما لا يدع مجالاً للشك لمصلحة إيران، وبالتالي صار التطبيع بحكم المُؤجل حالياً وصارت المنطقة في غياهب المجهول.
وبرغم الإندفاعة الأميركية مُجدداً نحو الشرق الأوسط، فإن هاجس بايدن ينصب بشكل أساسي على عدم توسيع نطاق الحرب وتحولها نزاعاً إقليمياً واسعاً، كفتح جبهات أخرى على إسرائيل عبر حدود كل من لبنان وسوريا. أيُّ توسيع للنزاع، يعني في الحسابات الأميركية أن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مضطرة للإنغماس في نزاع مديد، وتالياً المخاطرة بالخسارة في أوكرانيا أمام روسيا وتوجيه ضربة لجهود إحتواء الصين في المحيطين الهادىء والهندي.
مع الوهن الذي استبد بنتنياهو، بات للولايات المتحدة اليد العليا في تقرير مسار الأحداث في اسرائيل. فهي لا تريد حرباً طويلة وتعمل، في الوقت نفسه، على ترميم صورة الردع الإسرائيلي التي تضررت بشدة بعد هجوم غزة
أميركا تُدرك أن بوتين يضحك في سره الآن عندما يقول إن هجوم غزة دليل على “فشل الولايات المتحدة في المنطقة”. هذه فرصة لن يمنحها بايدن لبوتين. ومن هنا قد تُفهم الرسائل المزدوجة التي تُوجّهها واشنطن إلى طهران. من جهة، يقول المسؤولون الأميركيون إنهم لا يملكون أدلة دامغة على تورط طهران في هجوم “حماس”، ومن جهة ثانية، يُذكّرون بالدعم القوي الذي تقدمه إيران للحركة عموماً. ولم تأخذ المعلومات التي أوردتها صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، حول مشاركة الحرس الثوري و”حزب الله” في الإعداد منذ أشهر لهجوم “حماس”، صدى واسعاً في أوساط الإدارة الأميركية التي بقيت ملتزمة جانب الحذر حيال امكان علم إيران بالهجوم مسبقاً.
السلوك الأميركي الغامض يؤكد بأن واشنطن على وعي تام بأن عدم توسيع الحرب يتطلب تعاوناً إيرانياً. ولذا تترك هامشاً لعدم زج طهران مباشرة في الهجوم. وفي الوقت نفسه، أرسلت تعزيزات عسكرية إلى الشرق الأوسط تحت عنوان “ردع” أطراف ثالثة عن الدخول في المواجهة، والمقصود بها حلفاء إيران في المنطقة، ولا سيما حزب الله.
الجواب الإيراني على التحذيرات الأميركية من دخول أطراف ثالثة في الحرب، أتى على لسان وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبداللهيان الذي قال إنه إذا أرادت أميركا عدم توسع الحرب، يتعين عليها “لجم” نتنياهو في غزة.
ومع الوهن الذي استبد بنتنياهو، بات للولايات المتحدة اليد العليا في تقرير مسار الأحداث في اسرائيل. فهي لا تريد حرباً طويلة وتعمل، في الوقت نفسه، على ترميم صورة الردع الإسرائيلي التي تضررت بشدة بعد هجوم غزة. لكن إلى أي مدى يُمكن أن تتوافق أجندة أميركا مع أجندة نتنياهو الذي يقول إنه سيخوض حرباً “لتغيير الشرق الأوسط” لمدة 50 عاماً مقبلة، بدءاً من الدفع بسكان غزة إلى النزوح نحو سيناء، وربما غداً الدفع بسكان الضفة إلى الأردن. هذا هو الحل الأمثل للمسألة الفلسطينية بالنسبة لنتنياهو وشركائه في “حكومة الحرب”.
الولايات المتحدة تُدرك تماماً أن مثل هذه الخطط لا تحل نزاعاً وإنما تؤسس لنزاعات وحروب جديدة لا نهاية لها. وعلى الولايات المتحدة تقع مسؤولية كبح جماح نتنياهو إذا كانت فعلاً تريد خفض التصعيد وعدم إغراق المنطقة في المزيد من الدماء.
وتفترض المصلحة الأميركية في عدم إطالة الحرب، الجنوح إلى الواقعية أكثر وعدم الإنجرار إلى العناوين الإسرائيلية الكبرى، لا سيما وأن الوقت يُشكل عاملاً ضاغطاً على الولايات المتحدة التي يتعين عليها الآن دعم حربين في آن واحد، وإن كانت الأفضلية التي تمنحها واشنطن هي لإسرائيل وليس لأوكرانيا.
إن تدهوراً دراماتيكياً على جبهة أوكرانيا قد يكون مُكلفاً بالنسبة للمصالح الأميركية الإستراتيجية في إضعاف روسيا، خصوصاً وأن بوادر التعب الغربي كانت قد بدأت تظهر بعمق، قبل نشوب حرب غزة، عندما جمّد الجمهوريون المساعدات التي طلبها بايدن بقيمة 24 مليار دولار لأوكرانيا.. والدول الأوروبية هي الأخرى قد تراجعت حماسة مواطنيها لدعم كييف وهم يتوقعون فواتير أغلى ثمناً للتدفئة في الشتاء المقبل.
كأن السمة الغالبة لعالم اليوم هي الفوضى. النظام العالمي بقيادة أميركا “يواجه حرباً واحدة بجبهات متعددة”، وفق ما ترى صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية
سياسة بايدن تقوم حالياً على عدم إتاحة الفرصة لانتصار روسيا في أوروبا، وعلى عدم تمكين إيران من تحقيق المزيد من المكاسب في الشرق الأوسط.
بايدن الذي أتى إلى البيت الأبيض باسم إنهاء الحروب الأميركية في الخارج، يجد نفسه اليوم في خضم حرب جديدة يصعب تبين معالم حدودها حتى الآن، وفي أي اتجاه يمكن أن تمضي، وهي دليل آخر على فقدان الولايات المتحدة الكثير من تأثيرها في الشرق الأوسط وفي العالم.
قبل غزة كانت حرب أوكرانيا، وتوتر بين الصين وتايوان، وحرب متجددة في السودان، وحمى قومية متشددة تجتاح الهند بقيادة ناريندرا مودي، وهذه هي إفريقيا تصاب مجدداً بعدوى الانقلابات العسكرية، وكأن السمة الغالبة لعالم اليوم هي الفوضى. النظام العالمي بقيادة أميركا “يواجه حرباً واحدة بجبهات متعددة”، وفق ما ترى صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية.
الكاتب في صحيفة “النيويورك تايمز” ديفيد ليونهاردت يعطي “تفسيراً بسيطاً لكل ما يجري اليوم وهو أن العالم يعيش مرحلة انتقالية إلى نظام جديد يصفه الخبراء بعبارة التعددية القطبية، عالم لم تعد فيه الولايات المتحدة القوة المهيمنة التي كانتها، ولم يظهر بديلاً منها بعد”.
يواجه جو بايدن اليوم تحدياً عسيراً يتمثل في سؤال مكثف: ماذا ينفع الرئيس الأميركي لو ربح في إسرائيل وخسر أوكرانيا؟