يصلنا من غزة طوفان من الصور، صور تسقط أمامها كل القوانين والشرائع والمواثيق الدولية والإنسانية.
لم نعد نستطيع عدّها، لم نعدّ نستطيع الحزن عليها، الفاجعة التي حلّت بالشعب الفلسطيني أكبر من أن تختصرها كلمات العزاء والرثاء، والصور التي وصلتنا من المستشفى المعمداني تفوق وعينا، فالشعب اللبناني، ولا سيما أبناء الجنوب، خَبِر الاحتلال ويعرف تاريخه ويعرف جرائمه جيداً، ولكن لا شيء يشبه غزة.
لا يُجدي عدُّ الضحايا في غزة، فالواحد كالعشرة والمئة والألف والآلاف؛ الحرقة واحدة واللوعة تملأ قلوب الفاقدين، ولكن من رحم الضعف تولد القوة، فأعداد الذين استشهدوا أو أصيبوا بالغارة على المستشفى لم يثبت بعد، وميزان القوى لا يزال يتمايل، وسيبقى يتمايل وكل فرصة ستحين سيغتنمها المظلومون.
كلُّ عددٍ من أعداد الضحية يُعادل أسرة وعائلة وأصدقاء وأحباء، من مات لم يمت وحده، فالقلوب التي تركها خلفه ماتت أيضاً، وستحمل للمستقبل ذعراً يجعل المستكبر يعيش الفزع.
ما حصل ويحصل لن يستمر، فلكل غاشم نهاية، والطغاة الذي رفضوا مشاهدة الصور خوفاً على مشاعرهم المرهفة ستأتيهم كوابيس في نهاراتهم كما في لياليهم.
لن أتكلم عن مجزرة مستشفى المعمداني؛ ولا عن الإبادة الجماعية، فلا التفاصيل ولا الكلمات ستُغير وقاحة المستعمر المحتل، ولكن الطفل الذي يُعلّم شقيقه الصغير، وهو يفارق الحياة، قول الشهادة هي الشهادة بأن هذا الجيل لن يموت، ولن يستسلم، ولن يُسلّم روحه خاضعاً ذليلاً.
وصورة الضحايا والأشلاء متناثرة في كل مكان، ستكون القيامة التي ستقضي على دولة الاحتلال.
ستستمر الصور، وستعتاد أعيننا على رؤية الدماء البريئة، ولكن كل صورة سترسم وجهاً جديداً من المقاومة لا تدركه أعتى جيوش العالم.
الصورة الأولى
ينظر إلى أمه الهامدة بعيونها المفتوحة، لون وجهها لم يتغير، نظرتها لم تتغير، هي نفس النظرة الحازمة حين توبخّه بصمت، فيفهم أن ما فعله كان خطأً عليه تصحيحه.
هذه المرة، ينظر إليها، عاجزاً عن فهم نظرتها؛ لماذا طالت في جمودها، ماذا فعل حتى يستحق هذه النظرة منها، يناديها فلا تجيبه، يسأل نفسه، ماذا فعلت يا أمي؟ أنا آسف إذا وسخّت البيت، لكن يا أمي لم أفعل هذا وحدي، كان هناك غضب من السماء، خرّب كل شيء وجعل بيتنا دماراً ورماداً.
لم أعرف ماذا أفعل، حاولت أن أساعدك لننظف معاً، لكننا هنا في المستشفى، أنظر اليك ولا تجيبين، هل يمكن يا أمي أن تجيبيني، هل يمكن أن تسامحيني، اذا لم تمسحي على وجهي وشعري سأعرف أنك مُتِّ، هم قالوا لي أنك مُتِّ، أنا لا أصدقهم، ولكن عندما أصدقهم سأغيّر وجه العالم، وأترك عينيه مفتوحة على قسوة زرعت في قلبي حقد الفاقد لحنان الأم.
الصورة الثانية
وقف أمام جثامين أطفاله الثلاثة، يصيح وكأن العالم لم يسمع، يعيد ويعيد، ويضجّ بنواحٍ يفوق قدرة السامع على التحمّل، يقول حرفياً وفي كل حرف تستعر لوعة الخسارة، وفي كل كلمة يفتح للمستقبل نافذة أمام رعود الخوف القادم، يقول بلهجته الغزاوية: “انطروني يابا، ما بطوّل، انطروني في الجنة، رح أحرق قلب الصهاينة يابا، رح آخد بثاركم، رح أفجر نفسي فيهم، انطروني يابا، ما بطول”، هذه الكلمات بكل ما فيها من ثورة وغضب، ستكون الرعب القادم، بعدما قُتل البنون بغارة صهيونية على بيتهم، وتركوا الأم ثكلى لا تعرف النحيب ولا العويل ولا الندب على قلبها الذي انطفأ مرة واحدة، بلحظة واحدة.
الصورة الثالثة
يجلس الطفل كمال على كرسيه المتحرك، يده المكسورة لُفّت، وعيناه متورمتان من شدّة البكاء، وصوته المبحوح المرتجف ينادي أخيه، “فراس، فراس، ردّ عليّ”، و فراسٌ لا يجيب، يطلب أحد الأشخاص نقل الجثمان إلى مكان آخر، ينده كمال “بدي أبوسو، بدي أبوسو”، يكمل كمال ورأسه يتمايل يميناً ويساراً ويقول: “كنا منلعب، قصفوا الدار، أخوي يزعق علي، يا كمال..”، بالكاد يلتقط أنفاسه ويقول: “والله كان عايش والله، بس عشان الحجارة بتمّو ما قدرش يزعق عليّ”.
الصورة الرابعة
ينفض عنه غبار الحرب الذي بيّض شعره وسوّد وجهه، ويقول: “ماتوا، كلن ماتوا، أنا من تحت الدمار قمت، ما رح اترك الدار، رح أضل بالدار، قصفوا الدار وبقيت في الدار”.
الصورة الخامسة
شابٌ يحمل رضيعاً، يدخل به إحدى مستشفيات غزة، صامتاً كميت في تابوت، يسأله أحد الأشخاص، استشهد؟ يطأطىء رأسه ويعطي الطفل لأمه التي تنوح ابنتها، الولدان مُمَدان على سرير واحد، والأم تمسّد شعر البنت، وتقول لطفلها: “قوم رضاع يُمّا، قوم رضاع”، ويكتب الممرض على جسد كل طفل اسمه الثلاثي.. قبل أن ينتهي المشهد.
ولكن حتى الآن لم ينتهِ المشهد. الصور تربك جهازنا العصبي في كيفية التعامل معها. غصةٌ يصعبُ بلعها، وأوصال القلب مقطعة، ولم تبق ثغرة في ثنايا الروح إلا وتلعن الظلم والعجز والخنوع. عجزنا في مواجهة هذا الجور يجعل الدم يغلي في العروق، وللأسف المزيد والمزيد من الضحايا والمزيد من الصور.. ولا ينتهي المشهد.
غابت القضية الفلسطينية في السنوات الأخيرة عن شاشات التلفزة المحلية والعالمية، وأصبحت المعاناة التي يعيشها شعب بأكمله مجرد تفاصيل تمر عليها نشرات الأخبار مروراً سريعاً، فقد اعتادت الأبصار والأسماع على مشاهدة الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة وأصبحت صور سحل النساء في المسجد الأقصى وقتل الأطفال وتعذيب السجينات وهدم البيوت، صوراً لا تحكي ألف كلمة ولا تحكي حتى كلمة، فقد تعطلت أحاسيسنا وتخدّرت مشاعرنا، وأصبحنا باردين وكأن هذه الصور آتية من بعيد بعيد، من ظلال ذكريات منسية. نعم، لم يعد في أرواحنا الميتة من الإنسانية ما يثيرها من صور الدم أو الموت.
ولكن؛ ولكن بكل ما تحمله من نقلة بين ما قبلها وما بعدها، فإنّ صور غزة فتحت الجرح العربي ونكأت به ومزقت أنسجته، حتى علا هتاف الشوارع دعماً لغزة ولفلسطين وانتشرت الصور المروعة لجرائم الاحتلال وفظائعه لتعبّىء وسائل التواصل الاجتماعي وتوقظ الضمير الإنساني.
هكذا حرّضت الصور الغزاوية شعوبنا العربية على مغادرة الشعور بالعجز والخيبة نتيجة سياسة حُكّامها التي جعلت من القضية الفلسطينية ورقة مساومة على حساب دماء وأشلاء الشهداء. هذه الصور حرّضت الجماهير العربية على كسر الصمت وخلقت وعياً جديدا لدى الجيل الجديد هو شعور الإعتداد بالذات والقدرة على الفعل بدليل ما شهدته غزة في صباح السابع من تشرين/أكتوبر 2023.