لم تكن الحرب فى فلسطين تجربة عابرة فى التاريخ العربى الحديث.
تغير كل شىء بعدها، السياسات والخيارات والنظم.
تحت وهج النيران فى فلسطين اكتشف «جمال عبدالناصر» هويته العربية، وأن مصير مصر يرتبط بما يحدث ويتفاعل فى عالمها العربى.
تلك حقيقة لا يمكن نفيها فى ظل ما سجله «فى دفتر يومياته الشخصية”، التى كتبها على مكتب فوقه لمبة جاز أثناء حرب فلسطين.
على مدى ستين سنة كاملة لم يتح لأحد من معاونيه ومقربيه وأسرته نفسها أن يدخل فى علمه أنه كتب يوميات أثناء الحرب، وأنها فى عهدة الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، منذ عام (١٩٥٣) حتى حصلت عليها ونشرتها عام (2009).
كانت الأجواء محبطة فى ميادين القتال، والجاهزية العسكرية فى أدنى درجاتها.
حشدت الوكالة اليهودية (٨١) ألف مقاتل معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية فى سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة (٣٧) ألف ضابط وجندى!
وكانت أعداد الطائرات التى فى حوزة القوات اليهودية (٧٨) طائرة عند بداية الحرب فيما لم تتجاوز الـ(٣٠) طائرة على الجانب العربى، حسب ما أورده «هيكل» فى «العروش والجيوش»، وهو كتاب مرجعى من جزأين أهميته فى قدر توثيقه، حيث يتضمن سجلا كاملا للبرقيات العسكرية المصرية أثناء الحرب.
«إن يومية الحرب هى فى العادة أكمل مستند تاريخى لصورة ميدان القتال والخلفيات السياسية الواصلة إليه، ثم الاعتبارات الشخصية والإنسانية المتسربة بالضرورة إلى المواقف والتصرفات» ــ كما كتب أستاذ الوثائق الأول بلا منازع.
«كانت الحرب فى جوهرها صداما بين مشروعين، مشروع صهيونى استكمل عناصر قوته يعمل على إعادة رسم خرائط المنطقة ومشروع قومى عربى تائه فى كواليس الحكم وفوق مسارح الأحداث يبحث عمن يجسده لمواجهة طوارئ الأحداث المشتعلة بالنيران والمخاوف».
هذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
«يوميات الحرب»، تأخر نشرها لعقود طويلة حتى قرب نهاية القرن العشرين، كما حدث تماما فى يوميات «عبدالناصر» الخطية.
فى المرتين احتفظ بودائعه قبل أن يقرر نشرها، المرة الأولى ــ بقرار منه حتى يضع وثائقها فى عهدة التاريخ والباحثين.. والمرة الثانية ــ بإلحاح منى حتى تنجلى الصورة الكاملة، وكان ذلك من حسن الحظ حيث أحرق الأصل فيما جرى لبيته الريفى من تدمير نال من الوثائق المودعة فيه.
كان دخول الجيوش العربية حرب فلسطين بالطريقة التى جرت بها مقدمة هزيمة محققة.
وكان رأى الحاج «أمين الحسينى” ــ مفتى فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبها ــ أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.
تثبت وقائع الحرب على غزة الجارية الآن صحة ما ذهب إليه الحاج «أمين الحسينى» حيث تدافع المقاومة بكل ما تملك من إرادة وسلاح لإثبات حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم بأنفسهم.
بدا درس الماضى حاضرا فى الذاكرة الفلسطينية، لم يغادروا القطاع المحاصر، ولا وافقوا أيا كان ترهيب السلاح وأشباح الموت الماثلة على «التهجير القسرى»، أو تكرار ما جرى عام (1948).
إننا أمام انقلاب استراتيجى محتمل قد يغير كل معادلات الإقليم، حساباته ونظمه وموازين القوى فيه. الصمود الأسطورى للمقاومة هو انتصار للقضية الفلسطينية وللضمير الإنسانى
نسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسئولية الهزيمة العسكرية فى تلك الحرب.
الأول ــ اللواء المصرى «أحمد المواوى»، قائد حملة فلسطين، وقد نالته انتقادات حادة من الضابط الشاب فى دفتر يومياته.
بعد الحرب حاول «المواوى» أن يبرئ ساحته، كاشفا عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتج فيها على إرسال القوات دون تدريب كاف، أو أسلحة لازمة.
والثانى ــ الجنرال الإنجليزى «جون باجوب جالوب»، الذى أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عَمان التزاما كاملا بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها فى قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحا التقدم وكسب الأرض، فيما كانت الدولة العبرية الوليدة تتوغل فيما تستطيع أن تصل إليه دون اعتبار لأى قرارات دولية.
ما جرى بالضبط عام (1948) حرب إقليمية اقتصرت على بعض الدول العربية وإسرائيل، التى تأسست للتو.
شبح الحرب الإقليمية يخيم الآن على نطاق أوسع وأخطر، لا أحد يريدها، لكن حساباتها يمكن أن تفلت بسيناريو أو آخر.
الاختبار السياسى والعسكرى والاستراتيجى هذه المرة أخطر وأفدح مما جرى قبل (75) عاما حيث يراد التصفية النهائية للقضية الفلسطينية دون جدوى.
إننا أمام انقلاب استراتيجى محتمل قد يغير كل معادلات الإقليم، حساباته ونظمه وموازين القوى فيه.
الصمود الأسطورى للمقاومة هو انتصار للقضية الفلسطينية وللضمير الإنسانى.
إحياء الذاكرة يساعد على فهم ما قد يحدث تاليا.
يوميات رجل «يوليو» تكتسب قيمة إضافية إذا ما قُرئت الأحداث التى توقف عندها وأبدى غضبه بسببها فى سياق واحد مع ما تكشف من وثائق وشهادات إسرائيلية، خاصة مذكرات «ديفيد بن جوريون» مؤسس الدولة العبرية.
بقدر حجم الأثر، الذى خلفته تلك الحرب، فإن مضاهاة الروايات بكل تقاطعاتها يكشف وينير القصة الكاملة ومدى ما خلفته من جراح عميقة فى الوجدان العربى ما زالت ماثلة حتى الآن.
عندما صدرت للضابط الشاب أوامر الانسحاب من الخليل يوم الخميس (٢١) أكتوبر/تشرين الأول قبل أن يلغى ما كتب فى دفتر يومياته:
«.. إن انسحابنا سيعرّض جميع السكان فى عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد».
«تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا».
نقف الآن أمام نفس المآسى الإنسانية بصورة مضاعفة آلاف المرات.
إذا كان هناك من يعتقد أن كل شىء سيعود إلى عهده القديم بعد توقف النيران فهو واهم.
ثم كتب بخط يده: «سنقاوم إلى آخر رجل.. لقد فقدنا الإيمان فى قيادة الجيش.. وقيادة البلاد»..
فى هذه اللحظة ولدت الثورة فى قلب رجل واستقر عزمه على إعادة تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار».
تكاد تكون تلك العبارات الصريحة لضابط فى ميدان قتال ــ بدواعى غضبها ــ البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة فى نص روائى طويل.
لا شىء يولد فى التاريخ من فراغ.
إذا لم ندرك الحقائق كما هى نكون كمن يغالط نفسه بالأوهام المحلقة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“