تتجمع كل عناصر المظلومية، والحق، والفداء والتضحية.. والخذلان. أهل غزة هم كأهل البيت تماماً. خرجوا من أجل الذود عن مجتمعهم وإعلاء كلمة الحق وردع الظلم. ولم يخرجوا من سجنهم الأكبر في العالم، طلباً لمال أو نفوذ أو سلطة، فلو كان هذا مطمعهم، لاكتفوا بما لديهم في غزة من سلطة.
ولم يكن أهل غزة ليبايعوا من هو مثل هذا المحتل لأرضهم وسمائهم وبحرهم. لا دينهم، ولا قيمهم، ولا انتمائهم إلى الأرض، يُجيز لهم ذلك. ولهذا، فإن اصطدامهم مع “الحاكم” الظالم الذي نكث مراراً شروط الصلح، مثلما فعل الظالم نفسه قبل 1400 سنة، كان قدراً. وإن خروجهم في 7 تشرين الأول/أكتوبر، مثلما خرج أهل بيت النبي محمد في العام 61 هجري، من مكة، كان هو فعلياً طوفان انتفاضة على القهر.
لقد حفرت واقعة كربلاء عميقاً في تاريخ هذه البلاد كلها، وفرّقتها وشرذمتها، لكن الدماء المسفوكة في كربلاء، مثلما أظهرت عبر التاريخ، لم تتح لحكم ظالم أن يدوم طويلاً.
وتوارثت الأجيال عبر قرون العبرة المؤلمة بتقاعس المسلمين عن نصرة أهل البيت. فمنهم من تهيب فكرة الخروج على طاعة ولي الأمر، ومنهم من تخوف من التمرد على قمع ولاة الحاكم، ومنهم من أغرتهم الأموال والمنافع، لكن النتيجة كانت واحدة ومُفجعة: ترك أهل البيت، مع قلة قليلة، تحت الحصار والسيوف والرماح.. والعطش.
ما أشبه غزة بهم. مخذولة لا أمام الله فقط، وانما أمام العالم بأكمله. مليارا مسلم – وعربي – الآن، يشاهدون “كربلاء العصر” تجري وقائعها أمامهم. يتابعونها على الهواء مباشرة، ويتنقلون بين القنوات والأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد سقطت الحجة عنهم، إنسانياً وأخلاقياً وسماوياً.
لا يريد أهل غزة أن يُصدقوا أن “حُسينهم” سيُخذل وأن التاريخ سيُكرّر نفسه مرة أخرى وسيتراخى بعض أهل الكوفة وبقاع المسلمين الأخرى عن نصرتهم
وللتذكير فقط، غزة لها قداستها المستمدة من جد الرسول محمد، أي هاشم بن عبد مناف، وكان تاجراً ثرياً يمر سنوياً في كل صيف على المدينة ويُقيم فيها إلى أن مرض وتوفي ودُفن فيها، ويُقال إن قبره موجودٌ في حرم مسجد السيد هاشم في غزة القديمة؛ ولذا صار يُقال منذ ذلك الزمن “غزة هاشم”. هذا المسجد تضرّر في معظم الحروب الإسرائيلية على غزة ولا سيما حرب الإبادة المستمرة حالياً (الصورة أدناه للمسجد قبل الحرب).
وما أشبه رمال غزة بصحراء كربلاء حيث استشهد الإمام الحسين مع أهله وصحبه. هناك استشهدوا وحيدين، ومخذولين وعطشى، وها هم أهل غزة يستشهدون وحيدين ومخذولين وعطشى. يدفنون أحبتهم الواحد تلو الآخر. لكنها ملحمة أمام التاريخ دفاعاً عن الحق. وفي كل صرخات وآلام الناجين والمكلومين والمفجوعين وآهات المشارفين على الموت، كأنك تسمع من أهل غزة صرخات يتردد صداها منذ 1400 سنة :”أما من ناصر ينصرنا”.
لكن كربلاء غزة هاشم، ليست قدراً، ويقول المؤمنون بنصرتها إنهم ليسوا قلة، وأذرع المناصرين ليست بقاصرة، وفلسطين بمقدورها أن تجمع المؤمنين بحقها، من أندونيسيا شرقاً، إلى طنجة غرباً، وربما أبعد من ذلك، إلى كاراكاس وبوغوتا وهافانا، تماماً مثلما أحيت ضمائر ملايين الناس في الغرب، في لندن ونيويورك وواشنطن وروما وبرشلونة وبروكسيل وأوسلو، وحتى بين جماعات يهودية، متجاهلين بطش “يزيد العصر”.
المحاصرون بالموت والجوع والأشلاء في غزة يُريدون أن يكون ايمانهم صحيحاً بأن هناك فئة قد تبدو قليلة، لكن أياديها معهم على الزناد، وبأن سيناريوهات غوثهم معدة، وأن التدرج في المواجهة مخطط له، من غزة نفسها، وصولاً إلى طول الحدود الجنوبية اللبنانية مع المحتل، صعوداً إلى الجولان السوري، إلى سنجار والأنبار في العراق ثم نحو صنعاء جنوباً، وربما غداً في سيناء وغور الأردن والضفة الغاضبة، وصولاً إلى ضفاف الخليج والبحرين الأحمر والمتوسط.
إيمان أهل غزة، بأن كربلاء العرب الجارية الآن أمام أعيننا، لا تُمنع بالتمنيات والتقاعس. لا يريد أهل غزة أن يُصدقوا أن “حُسينهم” سيُخذل وأن التاريخ سيُكرّر نفسه مرة أخرى وسيتراخى بعض أهل الكوفة وبقاع المسلمين الأخرى عن نصرتهم. مؤمنون هم بأن الدنيا تؤخذ غلابا، ولهذا خرجوا في “طوفان الأقصى”. ويؤمنون أيضاً بان الدم لا ينتصر على السيف، باشاعة العجز والإحباط، وانما بالمزيد من العطاء والفداء. إن غزة الصغيرة، مثلما كان الحسين وصحبه قلة، هي التي تدافع عما تبقى من شرف العرب وبقائهم.
إن كربلاء العرب الجديدة، لا تُمنع بصندوق إغاثة يُلقى من السماء، ولا بقمة عربية أو إسلامية “طارئة” بعد شهر على المذبحة، ولا بالتلعثم العربي أمام مبعوثي “الظالم الأكبر” الأميركي، ولا بسخاء تأمين الأكفان للشهداء، ولا بالتردد في فتح بوابات الإغاثة والإسناد لـ”غزة مصر”.
غزة هاشم تُقدّم دمها دفعاً للبلاء عن كل الأمة، لكنها أيضاً تعلمت من لحمها الحي، ومن أوهام “أوسلو”، بأن “العين بالعين.. والبادي أظلم”، أهل غزة موعودون بنصر، إن ناصرهم “أخوتهم” على ألا يكونوا كأخوة يوسف الذين رموه في البئر. لقد تآمر أهل الحكم على أهل البيت منذ 1400 سنة، لكن المؤكد أن أهل الحكم في يومنا هذا، لن يُمكنهم إحتمال كل الدماء المسفوكة في كربلاء العرب الجديدة، وأن غزة هذه، كأنها تُعلمنا الآن درساً من التاريخ، بأن رأس الإمام الحسين، يجب ألا يسمح بقطعها.