إصرارٌ هو امتدادٌ لكونهم، قبل أن يكونوا صحفيين، أبناء أرضٍ أنجبتهم، اسمها فلسطين.. فباتوا، مع كلّ أبناء الأرض، يُكنّون باسمها: فلسطينيّون، شعب الجبّارين.
رشيد بيك، شخصيّة فلسطينية من شخصيات رواية بعنوان “الأرض القديمة الجديدة”، كتبها مؤسّس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل. تقول هذه الشخصية في صلب الرواية، إن المستوطنات اليهودية نعمة كبيرة للفلسطينيين، وأنّ اليهود جعلوهم أثرياء، وهم يعيشون معهم كأخوة، فلماذا لا نحبهم؟
لم يعر الأب الروحي للحركة الصهيونية اهتماماً للوجود الفلسطيني. لم يكن يتوقع منهم ردود فعلٍ قوية قبل أن يُنظّر لحركته. وحينما أراد الجواب على سؤال ماذا سنفعل بالفلسطينيين بعد إنشاء الوطن القومي لليهود فيها، كانت روايته المذكورة أعلاه خير تلميح على نمط تفكيره حيال المسألة.
في الرواية، يُقرّر شخصان أوروبيان السفر للعيش في إحدى جزر المحيط الهادئ، وفي طريقهم إليها، ينزلون في ميناء حيفا، وترصد أعينهم بلداً متخلفاً فقيراً عدد سكانه محدود.. بعد أن أكملوا رحلتهم، مكثوا في الجزيرة عشرين سنة، ثم عادوا أدراجهم، ونزلوا في طريق العودة في الميناء ذاته، لكنّ الصورة تغيّرت، حيث رصدوا دولةً متقدّمة ومجتمعاً صناعياً جديداً وصناعات متطوّرة، وقد تشارك اليهود والعرب في هذا المجتمع الجديد.
لقد كان هرتزل حالماً ومتفائلاً في آن. كان حاييم وايزمان الذي قاد الحركة الصهيونية بعده أقل تفاؤلاً، لكنه كمن سبقه، لم يقلق من أية مقاومة فلسطينية للمشروع الصهيوني.
يواجه أبناء فلسطين أعتى الأسلحة. يقاسون عدوانية شرسة قلّ نظيرها. يشاهدون بأمّ العين ما لا يقدر عليه الفؤاد صبرا ولا حيلة.. ويصبرون. الله وحده عالمٌ بما في أفئدتهم.. لكنهم في القول صابرون، ذوو بأسٍ شديد
تباين موقف الزعيم الصهيوني إسحاق إبشتاين عنهما، فهو هاجر من روسيا واستوطن فلسطين في وقتٍ مبكر، والتمس ردود الفعل على الأرض، فكان أن كتب مقالاً عام 1907 بعنوان “السؤال الخفي” (the hidden question) نبّه فيه من أنه ثمة إشكالية أكثر خطورة من كلّ الإشكاليّات التي تواجه المشروع الصهيوني في فلسطين، تكمن في الوجود العربي على الأرض. لكنّ المقالة لم تلقَ صداها، وظلّ اهتمام مؤسسي الحركة في مكان آخر، منصبّاً على تحشيد الرأي العام الدولي لدعم إقامة وطن قومي لليهود على الأراضي الفلسطينية، ذلك أنّ اعتقاداً ساد باكراً بينهم، وفق ما كتب آفي شليم في كتابه “الجدار الحديدي”، يُختصر في أنهم، أي الزعماء، ما آمنوا بأن للفلسطينيين قومية أو هوية مميزة تدفعهم للدفاع عن وطن قوميٍّ خاص بهم.
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تشكلت سريعاً حركة المقاومة الفلسطينية للطموحات الصهيونية. ظلّت هذه المقاومة تتطور باضطراد وفاعلية، الأمر الذي أفضى إلى نمط فكري جديدٍ عند قادة الحركة الصهيونية. خرج زائيف جابوتسكي (أب التيار اليميني الصهيوني) للقول إنّ من يتصوّر أن الفلسطينيين سيُرحّبون بنا هو واهم. خلاصة رأيه أن الفلسطينيين بشر، وما من آدميّ يُرحّب بمستوطنٍ أجنبي، وبالتالي لا بد في التعامل معهم من امتلاك قوة هائلة تسحق كل أمل لديهم في مقاومة أو هزيمة المشروع الصهيوني.
اليوم، تعكس الحرب على القضية الفلسطينية على أرض غزة بامتياز هذا النمط من فكر الحركة الصهيونية. النمط الذي لا يأبه بالإجابة على سؤال: ماذا نفعل بالفلسطينيين. نمط يهتمّ في أن يكون آلة دمار شامل، تُرعب أبناء الأرض، وتقتل جذوة الأمل فيهم، حتى تضيع كل الأفكار “الساذجة” حول حل الدولة الواحدة (فلسطينيون يعيشون مع يهود في دولة تتساوى فيها حقوق الطرفين)، أو حل الدولتين، ويستكملون فيه بناء القوة على شتّى الصعد.. فوحدها القوّة ستكون جواباً على السؤال الآنف الذكر. جوابٌ خلاصته: سنقتل فيهم الأمل.
يواجه أبناء فلسطين أعتى الأسلحة. يقاسون عدوانية شرسة قلّ نظيرها. يشاهدون بأمّ العين ما لا يقدر عليه الفؤاد صبرا ولا حيلة.. ويصبرون. الله وحده عالمٌ بما في أفئدتهم.. لكنهم في القول صابرون، ذوو بأسٍ شديد.
ما حدث، بعد الطوفان، أن الصهاينة أولاً، والعرب المتخاذلين ثانياً، عوقبوا بهذا البأس. وكلما زاد البأس زاد العنف واتّسعت الإبادة.. وكلّما اتسعت الإبادة خرج العالم المؤيد لاسرائيل في الأساس لينهض ويسأل: ماذا أنتم فاعلون بالفلسطينيين؟
هكذا.. لم يُسحق الأمل، إذ وإن كان الأمل يتيماً على صعيد الحكومات، لكنه يكبر ويكبر على صعيد الشعوب الضاغطة على حكوماتها، والضاغطة على الكيان الصهيوني، في نهاية المطاف..
ماذا سيفعل الصهاينة بالفلسطينيين؟
سؤالٌ سيقلقهم هُم كمحتلّين، وسيأتي عليهم مضاعفاً كلما أصروا على إبادتهم وتهجيرهم، وسينهض من بين أيديهم ومن خلفهم وعن ايمانهم وعن شمائلهم، ليعكّر صفو أمنهم، ويُذكّرهم أنّ حلّ القوّة المزعوم لم يُجدِ نفعاً.. أمّا الطّوفان، فيأتي ليُذكّر أنّه ممنوعٌ أن يُطرح هذا السؤال أصلاً، السؤال الذي يسلّم بأن الممسك بالفعل هم الصهاينة.
الطوفان قام، وكان، وسيظلّ، لأجل أن تبقى صيغة السؤال مضبوطة على إيقاع القضيّة: ماذا سيفعل الفلسطينيون بالصهاينة؟