فلسطين تُقاوم بالأغنية.. وتستقطب الجيل الجديد

يتردد صدى الأغاني الفلسطينية من جديد. يُرنّم ابني في طريق عودتنا من المدرسة بكلمات أغنية "يا نبض الضفة" لأحمد قعبور. يُخطىء ببعض الكلمات فأُصحّح له. أفكّر كيف يستجيب الأطفال لواقع بزغ بشكل مفاجئ. لم يخطر ببالي أن أشرح لأطفالي عن فلسطين. الأزمات المتعاقبة على لبنان، رُبما أنستنا ما يعيشه هذا الشعب الصامد من معاناة تاريخية.

أتفاجأ عندما يسألني إبني عن شخصية “لينا” في أغنية “يا نبض الضفة” (كلمات حسن ضاهر)، ويسأل: هل هي حقيقية يا ماما؟ ويكمل ترنيمته: “لينا كانت طفلة تصنع غدها، لينا سقطت لكن دمها، كان يغني، كان يغني فليمسي وطني حرا، فليرحل المحتل فليرحل، فليمسي وطني حرا فليرحل المحتل..”، ومن جديد يسألني ماذا تعني “فليمسي وطني حرّاً“؟

لا يعرف هذا الجيل معنى الإحتلال لأنه لم يعشه، حتى حرب تموز/يوليو 2006 لم تكف لشرح الجرائم الإسرائيلية، ولأن العودة إلى التاريخ والبحث في أرشيفه تحتاج رفاهية لا نملكها في لبنان، لكي نُربّي أولادنا على مفاصل القضية الفلسطينية وتحولاّتها، إلاّ أن الوقت لم يُسعفنا في تفسير ما يفعله الإحتلال يومياً بفلسطين والفلسطينيين.

ولكن، عندما بدأت الحرب على غزة وضعتنا كما كل العالم أمام امتحان صعب. امتحان إنسانيتنا وقيمنا وأخلاقنا. عادت فلسطين إلى يومياتنا. يوميات الشباب العربي والأجنبي الذي استطاع بفضل وسائل التواصل أن يخترق الأسوار الزجاجية القاتمة التي وضعتها الصحافة الغربية لجعل فلسطين قضية غامضة مُهمّشة، واستطاع اختبار حقيقة القيم التي نشأ عليها من حرية وعدالة ورفض العنصرية ليكتشف النفاق الغربي وسياسة الكيل بمكيالين، فانتفض مدافعاً، متضامناً مع غزة بمظاهرات عارمة ترفع الأعلام الفلسطينية وتُردّد كلمات أغنية تحيا فلسطين، LEVE PALESTINA التي كتبها الفنان الفلسطيني جورج توتري بعد أن هاجر إلى السويد إبّان نكسة عام 1967 وأسّس هناك فرقة “كوفية” الفلسطينية لتعريف مجتمع الغرب بالنكسة.. وهناك أطلقت الفرقة أغنيتها الأولى في حفل في مدينة ستوكهولم في العام 1978.

وعلى الألحان نفسها، انتشرت فيديوهات تُظهر شابّات وشبّاناً يرقصون رقصة الحرية أو رقصة أصحاب الأرض كما يطلقون عليها، لابسين الكوفية الفلسطينية متماهين مع الشاب الفلسطيني الذي أدّاها خلال اشتباكات مع جنود الإحتلال وخلفه النيران والدخان حاملاً بيده مقلاعاً وحجراً.

لم تكن الأغنية الفلسطينية وليدة اللحظة الراهنة أو وليدة أحداث محدّدة بل اختزلت القضية الفلسطينية بكل محطاتها وأحداثها فبدءاً من انتفاضة البراق في فلسطين عام 1936 والتي أعدم خلالها الانتداب البريطاني ثلاثة شهداء عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم كانت للشاعر الشعبي نوح إبراهيم مرثيته الشهيرة “من سجن عكا طلعت جنازة”، والتي لا تزال تستقطب الفنانين والفرق الغنائية التي أدتها بألحان وأصوات مختلفة.

في فلسطين، تلازمت الأغنية مع المقلاع والحجر وأرّخت للانتفاضة ولعلّ أبرزها أغنية “ماني نايم بالخيمة وتحت المطر” لغسان عارف، وهي أغنية تعكس تمرّد الشعب الفلسطيني على الغطرسة التي تعرّض ويتعرض لها، لتختزل بكلمات قليلة صمود الشعب الفلسطيني ورفضه ترك أرضه برغم محاولات الإبادة التي يتعرض لها، “لو هدّوا البيت مش خايف، لو كسروا عظامي ماني زاحف، رح ألّم عظامي يا بلدي وأصنع مقلاع وحجر“.

الأغنية ببساطة أسلوبها كانت لسان حال المقاومين وأهل فلسطين وأحباء فلسطين. أغنية جمعت شمل الشتات الفلسطيني وأعادت لحمة الأجيال المتناثرة لتحافظ على لسانها العربي. استطاعت أن تحكي تاريخ وتراث شعب طالما تركزت الجهود لطمس هويته، وهذا ما تؤكدّه محاولات الإحتلال المتكرّرة للتضييق على الفنانين الفلسطينيين بشكل مباشر أو من خلال منع انتشار أعمالهم خوفاً من استقطاب المزيد من المؤيدين للقضية الفلسطينية، فقد حقّقت أغنية الفنان الشاب محمد عسّاف “أنا دمي فلسطيني” أكثر من 40 مليون مشاهدة، نتيجة لذلك قامت منصة “سبوتيفاي” بحذفها في بداية السنة الحالية، ولكنها لم تنجح في الحدّ من انتشار الأغنية في أوساط الشباب وطلاب المدارس، وحتى في الأعراس والمناسبات العامة.

لا تتوقف فلسطين عن المقاومة ولا تتوقف الحملات الاجرامية الوحشية في محاولة إخماد وهجها، ولكن فلسطين تبقى قضية الأحرّار ولو اختلفت وسائل تمرّدهم. ومن الأمثلة على ذلك ما قام به عدد من الأطباء في غزة. فبرغم الظروف المُزرية التي تشهدها المستشفيات والقطاع الصحي، لجأ هؤلاء إلى الغناء لتأكيد صمودهم وهم ينشدون أغنية “سوف نبقى هنا.. كي يزول الألم، سوف نحيا هنا، سوف يحلو النغم، رغم كيد العدا، رغم كل النقم، سوف نسعى إلى أن تعمّ النعم“.

تُعبّر الأغنية الفلسطينية عن كل مرحلة بشعاراتها وعباراتها ومصطلحاتها. تواكب الآهات والصرخات. في هذا السياق، أصبحت أغنية “معلش” التي أطلقتها إذاعة حُسنى، من العاصمة الأردنية عمّان الأكثر رواجاً خلال الأسابيع الأخيرة، وهي العبارة التي ردّدها الصحافي الفلسطيني وائل الدحدوح أمام جثامين أفراد عائلته، ومنعاً لانتشارها قامت شركة “ميتا” بحذفها عن منصة “فايسبوك” بإعتبارها مخالفة لسياساتها، ولكن جمهور الأغنية استطاع الالتفاف على شروط الشركة وساهم في نشر الأغنية من جديد على كل من “انستغرام” و”يوتيوب” و”فايسبوك”، تأكيداً لحملات الحدّ من الكلمة الحرّة التي يقوم بها العدو الإسرائيلي “ما بقدروا ع رجالنا بنتقموا من الأولاد، والله ما نترك دارنا إحنا أهل البلاد.. معلش كله فدا فلسطين، معلش لو سالت دموع العين.. معلش تحت القصف واقفين، معلش إحنا اللي منتصرين“.

إقرأ على موقع 180  عن فلسطين التي عادت لتخرج على "إسرائيل"

استرعت أغنية “شدّوا بعضكم يا أهل فلسطين.. شدّوا بعضكم” انتباه الكثيرين بعد أن فتحت جرحاً عميقاً بعد استشهاد الصحافي الفلسطيني سامر أبو دقّة، لان زين ابن الصحافي الشهيد كان قد غنّاها مع السيدة الفلسطينية “أم العبد“، والتي تناجي بصوتها الحزين شوقها لأرضها بعد أن تهجّرت منها في عمر العشر سنوات وقضت حياتها في مخيم الزرقاء في الأردن، وعلى الرغم من أنّ صوت الطفل زين كان يضجّ بالأمل مجيباً طلبها “إيدينا وحدة، يا ستي والله أيدينا وحدة“، أتى استشهاد والده ليجعل شوقه لوعة يصعب تحمّلها، ويستحضر من جديد أغنية قد غناها منذ سنتين يصف فيها شوقه لوالده الذي بقي في قطاع غزة قائلاً له “يابا شقد مشتاق.. عذبني الفراق“، ولكنه لم يعرف أن فراقه سيكون طويلاً، وأن كلمات الأغنية ستكون واقع حياته وحياة كل طفل فلسطيني.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الوحدة 8200: إقصفوا المدنيين في غزة.. (106)