نور الحقيقة يتجلى في نار الثورة

قيل في وصف الثورة إنها حدثٌ عنيفٌ يهدف إلى إحداث تطور سريع يدفع الأمة إلى مواكبة عصرها بعد فترة جمود طويلة بسبب تصلب مزاجها. والعنف فيها متوقف على الحد الذي بلغه الفساد خلال فترة الجمود تلك. وعلامة ذلك الفساد تسيد طبقة المنافقين والأفّاقين وانتشارها، في ظاهرة أشبه ما تكون بقرح الفراش التي تغزو جسدًا أنهكه المرض وألزمه الفراش.

يقول الفيلسوف اميل فاغيه: “كانت إيطالية تُقاسي في عهد الديركتوار فجورًا مستمرًا، وكانت رومه تُشاهِد باسم الجمهورية الرومانية قناصل ومحامين عن الشعب وأعضاء سِناتٍ يسرقون ويغتنون، ويَقْصُفون ويكيدون، ويرتكبون المنكر، ويسفكون دمًا كثيرًا في الريف الروماني، ويسلبون القصور والمتاحف والمكتبات، ويُفْرِطُون في فرض الضرائب، فيأخذون نصف أموال الأغنياء ورقيقي الحال على السواء. والخلاصة أنهم كانوا مزبلة كريهة من اللصوص والقراصين والأشرار”.

وما تلك بالثورة. بل تلك غضبة.. وقودها الثأر والانتقام، سرعان ما تهدأ ويُتاح للنظام فرصة إعادة ترميم نفسه، وربما بشكل أفظع مما كان قبل الخروج عليه.

الثورة نارٌ في باطنها النور والرحمة، والثورة انفعالٌ وتجلٍ للحقيقة الكبرى. يراها الناظر من بعيد نارًا مهابة، فاذا اقترب من واديها المقدس فاذا هي النور والهداية والرحمة. نورٌ يُبدّد ظلام القلب الفزع، وهداية للعقل على طريق الفعل القويم، ورحمة للآخرين الذين أرهقهم الاستبداد وأعماهم عن رؤية حقيقتها. فيندفع من تجلت له الحقيقة مشحونا بطاقتها نحو التغيير؛ “اذهب إلى فرعون إنه طغى”. وما لم تتجلِ الحقيقة الهادية إلى الثورة، فما من ثورة بل غضبة. فالثورة تغيير شامل في النفس والمجتمع والعادات والعلوم والفنون والأديان على اثر ذلك التجلي للحقيقة. فما هي الحقيقة؟ وكيف السبيل إليها؟

حقيقة واحدة.. لكن محتجبة!

الحقيقة جوهرها سر وظاهرها الصلاح. يُخبرنا علم الاجتماع أنها أسيرة سجون ثلاثة: سجن الطبيعة، سجن التاريخ، وسجن المجتمع. فللإنسان قدرات محدودة بحكم محدودية مادته، وادراكه أسير شخصيته التي يتحكم فيها بالأساس لاوعيه وهو بدوره صنيعة التاريخ وتراكم تجاربه عبر الأجيال. ثم بعد هذا كله فان كل فرد مقيد بعادات مجتمعه لا يستطيع النكوص عنها.

وتقّربنا الفيزياء الحديثة من جوهرها إذ تؤكد أنّ في الكون حقيقة واحدة، ولكنها تتجلى للمراقب في صور مختلفة حسب طاقته وزاوية رؤيته. كانت عبقرية ألبرت أينشتاين في تجسيد تلك الفكرة في نظريته النسبية، وهي على خلاف ما يوحي به الاسم وما ساد لدى العامة لا تقول إن كل شيء نسبي بل تثبت طلاقة القوانين الفيزيائية وتزيح ما يحجبها من ضباب من خلال ربطها بحقيقة فيزيائية مطلقة وهي ثبات سرعة الضوء. ثم جاءت نظريات الكم لتؤكد تلك الصورة وتثبت وحدة القوانين الفيزيائية تلك ولكن فقط عند الطاقات العظمى. أما عند الطاقات المنخفضة فتبدأ تلك القوة الواحدة ـ وان شئت قلت الحقيقة الواحدة ـ بالإنقسام إلى قوى فرعية متمايزة عن بعضها. فهي إذًا حقيقة واحدة ولكن بصور متعددة. ووفقًا لذلك المنظور، للحقيقة وجودان؛ وجود مجرد لا يمكن ادراكه، ووجود فيزيائي تقريبي تعتمد دقته على ما يتاح لنا من طاقة.

تأخذ الثورات زمنًا طويلًا وأجيالًا من الإصلاح والتطور حتى يأتي التغيير كنتيجة منطقية هيّنة. فما كانت الثورة الفرنسية هي ما وقع عام 1789 وما تلاها، بل كانت تغيرًا متصلًا منذ عهد الإصلاح الديني مرورًا بديكارت ونشأة الطبقة الوسطى مع بزوغ نجم عصر اقتصادي جديد بعد القضاء على الاقطاع

فالحقيقة إذًا محتجبة بحاجز وحيد ولكن يستحيل عبوره، هو محدودية الطاقة. فالكون كله محدود، وحتى إذا ما حصدت كل ما فيه من طاقة من أجل كشفها فإن أدواتنا للإدراك، سوف تخذلنا عندئذ لعجزها تمام العجز عن استبيان العلاقات بين الأجزاء عند ذلك الحد، لأنه ببساطة لا أجزاء بل كل واحد، وبالتالي لا سبب ولا نتيجة، لا (x) ولا (y) وتنهار سببية العلم! ولا مناص عن القبول بحقيقة تقريبية كما أشرنا.

لذا، يتطلب كشف الحقيقة أو جانب أشمل منها تمردًا على سجني التاريخ والمجتمع تكون أولى آياته الانعتاق من سطوة المجتمع باعتزاله. فتلك العزلة تُحرّر العقل أولًا من قيود المجتمع وعاداته وأسر التاريخ وأوهامه كما يشترط علم الإجتماع. ثم هي (الحقيقة) تُكثّف طاقاته المهدورة في الجدل والمنافسات والصراعات حول كل تافه ورخيص نحو التأمل والبحث الجدي الرصين. ثم مع ألفة العزلة يُتاح للفرد الغوص في أعماق نفسه ليكتشف أوهامها وضلالاتها ويُبدّدها.. وعلى قدر طاقته (عزلته) يكون اقترابه من الحقيقة المجردة كما تخبرنا الفيزياء.

تجّلي الحقيقة في الثورة وتحدياتها

ولمشقة ذلك الجهد لم يستطعه عبر التاريخ إلا أفراد الرجال. ولكن ثمرته أجزل من مشقته:

اعتزل موسى قومه أربعين ليلة فرجع إليهم بالألواح، واعتزلت مريم قومها فعادت إليهم بأعظم هدية عيسى روح الله وكلمته، واعتزل محمد (صلى الله عليه وسلم) قومه فعاد إليهم بمعجزة القرآن الخالدة، واعتزل ديكارت قومه فرجع بشكه الهادىء إلى اليقين “مقال عن المنهج”، واعتزل كانط الدنيا كلها فأهدانا “نقد العقل المحض”، واعتزل الغزالي قومه وعاد بـ”المنقذ من الضلال”.. وعلى هذا المنوال لم يُعرف في التاريخ عظيماً من العظماء لم يكن له حظه من العزلة. عزلة خالصة صادقة تشرق عليه فيها الحقيقة وتهديه منهجًا قادرًا على الإصلاح.

والحقيقة مسؤولية مثلما هي لذة. ومسؤوليتها تبليغها. وبتبليغها تبدأ الثورة. فالثورة ليست تغير نظم الحكم ولا هي صنيعة رجال السياسة أو الجيش. بل هي تغير اجتماعي شامل في الأخلاق والمبادئ والعادات والنظم الإقتصادية تستولدها تلك العقول المتقدة البعيدة المعتزلة. فما أحمق الحكام الذين يفرطون في التنكيل بمعارضيهم خوفًا من شبح الثورة، وما هؤلاء المعارضين برجالها، بل فقط أدواتها. فما هذا النوع من الحكام إلا تكرار ساذج لجهل ذلك الفرعون الأحمق الذي ذهب يذبح كل الأطفال خوفاً من رؤية هدّدته بزوال مُلكه ولم يستثنِ منهم إلا طفلًا واحدًا ربّاه في كنفه وكان هو نذير رؤيته!

والثورة بمعناها الحقيقي الشامل يكون الناس من أشد معارضيها قبل الدول. فالناس إذا طال عهدهم بالاستبداد ألفوه. يرجون تغييره ولكنهم يخشونه في آن واحد. وتفسير ذلك أنهم قد فقدوا إنسانيتهم بطول مقام الإستبداد فيهم فتحوّلوا إلى مادة جامدة  تحكمها قوانين الطبيعة. ومن تلك القوانين: يبقى الجسم الساكن ساكنًا ما لم تؤثر عليه قوى تُغيّر من حالته. تلك القوى هي الثورة. فإذا بذلت؟ يحكم القانون الثاني لنيوتن: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. فالناس هم أعتى القوى المناهضة للتغيير. فكان شقاء موسى ببني إسرائيل أشد كثيرًا من شقائه بفرعون وجنوده. وعانت مريم من قومها أكثر مما عانت من قياصرة الروم. أما محمد فقد فرّ من قومه بعد طول عذابهم له ولأصحابه وتآمرهم على قتلهم. كما ذهب كوبرينكس ضحية تبديد أوهام قومه، وعاش ديكارت مشردًا عن وطنه ومتنقلًا بين دول أوروبا إلى أن وافته منيته وحيدًا في السويد. وانما تلك المعارضة الشديدة ترجع إلى كون الثورة الحقيقية شاملة لكل ما ألفه الناس وتربوا عليه من مبادئ وأفكار وعادات ومفاهيم للدين.

إقرأ على موقع 180  أزمتا الاحتياط و"الحريديم".. تهديد وجودي لإسرائيل!

وتأخذ الثورات زمنًا طويلًا وأجيالًا من الإصلاح والتطور حتى يأتي التغيير كنتيجة منطقية هيّنة. فما كانت الثورة الفرنسية هي ما وقع عام 1789 وما تلاها، بل كانت تغيرًا متصلًا منذ عهد الإصلاح الديني مرورًا بديكارت ونشأة الطبقة الوسطى مع بزوغ نجم عصر اقتصادي جديد بعد القضاء على الاقطاع. ومع ظهور الطبقة الوسطى خلقت الكونفدراليات المحلية في فرنسا التي تمثل كل إقليم وبلغت من القوة حدّ رد بعض القرارات الملكية. فما كان عام 1789 بداية الثورة الفرنسية بل عام ارهاصاتها الأخيرة. فالثورة اذًا تطالب الناس بالتغير ليستحقوا التغيير. وكل تغيير دون تغير بناءٌ على شفير هار، لأنه بلا شك سوف يعيد افراز نفس النظام عندما تهدأ فورة الغضب. فنظام الحكم هو انعكاس للناس. وما لم يسمحوا لأنفسم بالتغير قبل أن يُغيّروا فسيقومون بافراز نفس النظام الذي قاموا من أجل تغييره. فالثوّرة الحقيقية ثورة على النفس أولًا بتهذيبها، ثم على المجتمع بتطويره وكسر جموده وسلبيته، ثم يتحقق تغيير نظام الحكم كأمر حتميّ.

لا شّك أنه وجد بين قبائل ساكني الغابات ومجاهل أفريقيا من كان له ذكاءً لا يقل عن آينشتاين ونيوتن وقدرة على الفعل تجاوزت الإسكندر وجنكيزخان، ولكنها ملكات هدرت لغياب المنهج الذي تنفعل له وتتحق به ومن خلاله

شرط نجاح الثورة

ولأن ادراك الناس في حالة الجمود تلك يكون في حده الأدنى، فانهم في حاجة لأن تتجسد تلك المعاني والمبادئ في رجل منهم. تحل فيه الثورة ومعانيها ونارها كما تحل الروح بالجسد. وغالبًا لا يكون ذلك الإنسان هو ذاك المعتزل النائي بل رسوله. فذاك المعتزل قد غرق في عالم الأفكار ولم يعد يُحسن الكلام إلا بمنطقها المجرد الذي يستعصي على الأفهام. ولا بد من وسيط بينه وبين الجمهور، ذلك الوسيط هو بطل الثورة وقائدها. وقد قال الفلاسفة قديمًا من سقراط إلى نيتشه مرورًا بالغزالي وإبن رشد أنّ البشر ينقسمون إلى ثلاث مجموعات من حيث القدرة الإدراكية: البرهانيون والجدليون والخطابيون. والثوّرة باعتبارها كشفًا كبيرًا من الحقيقة، يكشفها المعتزلون جسدًا الغارقون في أنفسهم ومجتمعهم روحًا، وعنهم يتجسد ذلك الكشف في الأبطال المنفعلين له، وهؤلاء هم باعثو العصبية والحمية في الشعوب الموات بما وهبوا من قوة الجدل والخطابة وقدرة الفعل ومسؤوليته.

وقد يوجد أحد العنصرين (المفكروالمنفذ) مع غياب الآخر، ولكن الثورة لا تُنجز إلا باقترانهما. ففي عصر النهضة الأوروبية سبق الفلاسفة عصر الحروب الكبرى والثورات بقرون يحدث فكرهم أثره مع الزمن ويتوارثه جيل من جيل بعد التنقيح والتعديل إلى أن وافق الجيل الذي تجسدت فيه حقًا تلك الأفكار وقام لتجسيدها في مؤسسات ودول. كذلك لو لم يدعّم الرسول الكريم بأصحابه الكرام لما تحقق لهذا الدين انتشاره. وقد حكي في الأثر أن رجلا سأل الإمام علي “كنا نقرأ القرآن في عهد عمر فنتأثر ولم نعد كذلك”، فأجابه الإمام علي: “هذا هو القرآن، فأين عمر”؟. فوجود المنهج مع غياب المنفعلين له يظل أشباح أفكار لا تحقق لها. بل يكثر أن يذهب بعض الجبناء إلى اتهام المنهج للتشويش على عجزهم وستر جبنهم. كذلك لا شّك أنه وجد بين قبائل ساكني الغابات ومجاهل أفريقيا من كان له ذكاءً لا يقل عن آينشتاين ونيوتن وقدرة على الفعل تجاوزت الإسكندر وجنكيزخان، ولكنها ملكات هدرت لغياب المنهج الذي تنفعل له وتتحق به ومن خلاله.

في كتاب “الأمير” يشرح ميكافيلي الفرق بين الدول المركزية التي تخضع لقيادة واحدة وبين الدول التي تتشكل من اقطاعات أو زمر وقبائل فيقول إن الدول المركزية يصعب هزيمتها لأنّ كل طاقاتها مركزة في قبضة واحدة وبالتالي تكون ضربتها قاسمة. الا أنها اذا هزمت تسهل السيطرة عليها لأنه بسقوط رأسها تشل باقي أجزائها. أما دول الزمر والقبائل، فيسهل هزيمتها لسهولة زرع الفرقة بينها فتتبدّد طاقاتها ولا يكون لضربتها قوة تذكر. ولكنها مع ذلك يصعب السيطرة عليها لأنها لا تدين لقائد بعينه وعليه يصعب إرضاء الجميع. وفي مثل تلك الدول تكون الثورة لا قيادة لها ولا بطولة. يسهل جدًا تفريق قواها، ولكنها مع ذلك لا تموت فكرتها ولا تستسلم. ولكنّ تحقّقها في حاجة بعد المنهج إلى قيادة تتحقق فيها وتتركز فيها كامل طاقاتها لمواجهة محاولات الإنقضاض عليها. فليس أجمل ما في الثورة انعدام قيادتها كما قيل، بل هذا بعينه أضعف ما فيها.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  إيران والقرارات المصيريّة.. "الصَّباح خيرٌ من المِصباح" (2)