مثلث الصين ـ السعودية ـ إيران.. تقاطع المصالح

ثمة مرحلة إنتقالية في العالم، كما في منطقتنا وبلدنا. يستوجب هذا الأمر أن نرصد الأحداث من حولنا.. قبل أن نكتشف فداحة أحوالنا وهول ما ترتكب أيدي طبقتنا السياسية!

في الوقت الذي أُريد لأوروبا أن تكون ساحة حرب عالمية ثالثة بكل معنى الكلمة منذ تاريخ إندلاع الحرب الأوكرانية قبل سنة ونيف، ها هو الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يزور على رأس وفد فرنسي ـ أوروبي العاصمة الصينية ثم يدعو أوروبا إلى الحياد في قضية تايوان. سبقه إلى هناك المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز مايكل.

بالتزامن، يصل وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى مدينة جدة السعودية بناء على دعوة من نظيره السعودي فيصل بن فرحان لبحث إعادة استئناف العلاقات بين البلدين واحتمال حضور سوريا إجتماع القمة العربية في الرياض في 19 أيار/مايو المقبل. يلي ذلك دعوة مجلس وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ووزراء خارجية الأردن ومصر والعراق إلى إجتماع في جدة يُناقش كيفية إلغاء قرار تعليق مشاركة سوريا في جامعة الدول العربية من دون أن يتوصل إلى نتيجة ملموسة حتى الآن.

بالتزامن أيضاً، يزور وفد سعودي صنعاء ويلتقي القادة الحوثيين، قبل أن نشهد فصول عملية تبادل الأسرى وترجمة قرار تمديد هدنة وقف اطلاق النار، في خطوة ستُمهد هذه المرة لإنهاء حرب اليمن المستعرة منذ أكثر من تسع سنوات. وفي الوقت نفسه، زار وفد إيراني الرياض تمهيداً لإعادة فتح السفارة والقنصلية الإيرانيتين في السعودية، وزار وفد برلماني إيراني المنامة عاصمة البحرين. وهذا غيض من فيض تطورات دولية وإقليمية تتسارع في أقل من شهر واحد في أعقاب توقيع الاتفاق الإيراني ـ السعودي برعاية الصين، وبالتنسيق الكامل مع روسيا.

تدرك الصين أهمية المرتكزين الإيراني والسعودي، إن لجهة المساحة الجغرافية لكل منهما أو لجهة عدد السكان أو القدرات الإقتصادية القائمة على امتلاكهما أكبر مخزون نفطي وغازي في العالم، ولا شك أن القوة الدافعة لهذه السياسة الصينية هي عبارة عن تقاطع مصالح مثلث الأضلاع

لا شك أن التفسير البديهي لهذه التطورات يتصل بالدور الصيني المتنامي عالمياً في المجال الاقتصادي أولاً. ومن يعرف السياسة الصينية يُدرك جيداً أن القيادة الشيوعية في بكين لا تتنطح إلى دور عالمي متقدم يُنهي الأحادية القطبية المستمرة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 لو لم تكن واثقة من نفسها ومن قدراتها الذاتية التي تخولها الانطلاق للعب هذا الدور، ولو بعد حين.

وعلى عكس السياسة السوفياتية السابقة التي اعتمدت المواجهة الدولية بين معسكرين اشتراكي ورأسمالي، فإن الصين تُفسح المجال لأكثر من قوة عالمية الى جانب وجودها والولايات المتحدة الامريكية، وتشجع الاتحاد الأوروبي على ممارسة نوع من الاستقلالية السياسية مع افساح المجال لنشوء قوى إقليمية لها وزنها الاقتصادي العالمي على غرار دول الخليج وايران وتركيا من دون أن نهمل العلاقات التي تربط الصين بـ”إسرائيل”..

وللتأكيد على هذا النهج الصيني الجديد، يقول أحد السياسيين الذين كانوا على تواصل مع الحزب الشيوعي الصيني منذ أكثر من ثلاثين عاماً، أن الصين وفي مرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي أبت لعب أي دور يضعها في صدارة المواجهة مع الولايات المتحدة. وينقل هذا السياسي عن مسؤولين صينيين إلتقاهم في ذلك الحين “نحن لا نستطيع ولا نرغب بأن نحل محل الاتحاد السوفياتي في الصراع الدولي مع أمريكا”.

ما جعل الصين تُغيّر هذه السياسة، في يومنا هذا، هو تنامي قدراتها الذاتية اقتصادياً وعسكرياً مقابل تكشير واشنطن أنيابها في شتى أنحاء العالم وبالأخص في الخاصرة الصينية عبر بيع أوستراليا غواصات نووية وبناء أحلاف ثلاثية ورباعية (كواد وايكوس) في مواجهة الصين وما ينتظر تايوان مستقبلاً. كما أطلقت الولايات المتحدة العديد من المناورات العسكرية في بحر الصين بالاشتراك مع قوات كورية جنوبية حيناً ويابانية أحياناً أخرى، من دون إغفال خطورة الحرب الاقتصادية التي تشنها واشنطن ضد كل من يعارض سياستها في العالم عبر فرض عقوبات اقتصادية ومالية، وهو ما تسميه بـ”الحرب الناعمة” التي تتسبب بتجويع الشعوب بدلاً من الإضرار بالأنظمة!

إضافة الى ذلك، قدّمت الولايات المتحدة إلى الصين ذريعة قوية لشن هجومها الدبلوماسي السياسي عالمياً من خلال دفعها السلطات الأوكرانية لمواجهة مع روسيا تطورت بعد العام 2014 الى مواجهة عسكرية في العام الماضي ولا تزال مستمرة مع إنعدام أي أفق لإنهائها بطرق سلمية. ولأن أوكرانيا جارة روسيا وإلى حد ما تتشابه أوضاعها مع وضع تايوان، فإن الدرس الذي تعلمته الصين من الحرب في أوكرانيا هو “أُكلت يوم أكل الثور الأبيض”، أي أن واشنطن لن تتورع عن استخدام تايوان لاستنزاف الصين كما استخدمت أوكرانيا لاستنزاف روسيا. وبالتالي، استبقت الصين الأمر وأطلقت هجومها الدبلوماسي من دون إهمال الخيار العسكري عبر سلسلة مناورات عسكرية تنفذها على مقربة من الجزيرة التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها مهما طال الزمن.

إقرأ على موقع 180  ستالين ـ بوتين VS غورباتشوف ـ يلتسين

أمام هذه التطورات، إستشعر الرئيس الفرنسي التغيير الحاصل عالمياً، فقرر أن يحجز مقعداً له ولأوروبا في “العالم الجديد” من دون تخليه عن مقعده في عالم الأحادية القطبية بزعامة واشنطن. من هنا جاءت زيارة ماكرون الى بكين وتوقيعه العديد من الاتفاقيات التجارية وتصريحه الذي يصح فيه المثل الشعبي القائل “ضربة على الحافر.. وضربة على المسمار”، فهو بتصريحه (أن تكون حليفاً لأمريكا لا يعني أن تكون تابعاً لها)، لم يتخلَ عن التحالف مع واشنطن، ولكنه يفتح الباب أمام سياسة الأبواب المفتوحة مع بكين، في خطوة من شأنها تشجيع دول أوروبية أخرى لكي تحذو حذوه.

وفي الشرق الأوسط، تدرك الصين أهمية المرتكزين الإيراني والسعودي، إن لجهة المساحة الجغرافية لكل منهما أو لجهة عدد السكان أو القدرات الإقتصادية القائمة على امتلاكهما أكبر مخزون نفطي وغازي في العالم، ولا شك أن القوة الدافعة لهذه السياسة الصينية هي عبارة عن تقاطع مصالح مثلث الأضلاع. فالصين وقعت مع إيران قبل سنتين إتفاقية شراكة إستراتيجية لمدة 25 سنة بمئات مليارات الدولارات، ومثلها مع السعودية مؤخراً بعشرات مليارات الدولارات.

وليس خافياً على أحد أن الحرب بالواسطة بين ايران والسعودية منذ اكثر من عقد من الزمن على امتداد المنطقة العربية استنزفت موارد البلدين بصورة ضخمة، وبات كلاهما بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى وضع حد لهذا الاستنزاف، فولي العهد الأمير محمد بن سلمان، المرشح لأن يكون ملك السعودية لخمسين سنة مقبلة نظراً لصغر سنه، وبعد أن قضى على كل معارضة أميرية له في عائلة آل سعود، تقدم قبل سنوات قليلة برؤية اقتصادية طموحة وتغييرية بامتياز، إذ أن فلسفته الإقتصادية تقوم على تنويع مصادر دخل المملكة وعدم اقتصارها على النفط ومشتقاته، ومن هنا كان مشروع “نيوم” الذي أطلقه على بقعة من الأرض تبلغ مساحة اليابسة الصالحة للاستثمار فيها حوالي 12500 كلم2 (أكبر من مساحة لبنان بحوالي ألفي كلم2)، وهو مشروع تُقدّر كلفته الاجمالية بنحو 500 مليار دولار، تتضمن بناء مدينة تقوم على الذكاء الاصطناعي في كل تفاصيل الحياة فيها، بالإضافة الى المنتجعات السياحية والفنادق والمطاعم وإقامة جسر معلق يربط البر السعودي بالبر المصري عبر البحر الأحمر.

ولأجل تسهيل تقبل المجتمع السعودي لمثل هكذا مشروع ضخم، بادر بن سلمان إلى إجراء إصلاحات، بينها تجميد عمل “المطاوعين” والسماح للنساء بقيادة السيارات وعدم الزامية اللباس الشرعي واطلاق العنان للحفلات الفنية الضخمة، ولكن هذا المشروع التنموي الطموح يتطلب ضخ أموال كثيرة بالإضافة الى الإصلاحات الاجتماعية، ولان التنمية تتضارب مع استمرارية الحروب بالوكالة التي تخوضها السعودية في المنطقة، والتي استنزفت الكثير من مواردها، فان الحاجة باتت ملحة لوقف هذه الحروب والتوصل الى تسويات مع الطرف الآخر الراعي لها وهو إيران.

ليس خافياً على أحد أن الحرب بالواسطة بين ايران والسعودية منذ اكثر من عقد من الزمن على امتداد المنطقة العربية استنزفت موارد البلدين بصورة ضخمة، وبات كلاهما بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى وضع حد لهذا الاستنزاف

إن التوجه السعودي الجديد لا يعني أن المملكة ستصبح حليفة لإيران، أو أنها ستتخلى عن تحالفها مع الولايات المتحدة لمصلحة الصين، بل هي وجدت أن الحليف الأمريكي تركها وحيدة في حرب اليمن كما سبق ان ترك حلفاءه في أفغانستان، ومن هنا جاء شعار “السعودية أولاً” بوصفه مماثلاً لشعار سبق أن طرحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهو “أمريكا أولاً”.

أما في الجانب الإيراني، فإن وقف الحروب بالواسطة، من شأنه أن يؤمن للقيادة الإيرانية ثلاثة أمور، أولها وقف الاستنزاف المالي وتأمين مداخيل حرمت منها على مدى سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي والمالي الأمريكي المستمر، وثانيها التفرغ للمواجهة مع “إسرائيل” وتعزيز قدرات محورها الممتد من تخوم أفغانستان شرقاً حتى البحر المتوسط غرباً.. أما الأمر الثالث فهو التفرغ لملفها النووي إن كان عبر التفاوض من موقع أقوى مع الولايات المتحدة أو عبر رفع نسب التخصيب إلى مستويات أعلى.

في خضم هذه التطورات الدولية الضخمة التي تشي بملامح عالم جديد قيد التشكل، من ينظر إلى مشهد لبنان يرى أن ساسة لبنان عبارة عن شخصيات كوميدية في مشهد درامي مؤلم.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  سياسة "الباب الدوار" من كابول إلى واشنطن