هلْ “مُحمَّدٌ”.. شخصيّةٌ كونيّةٌ أيضاً؟ (2/2)

في الجزء السّابق، بدأنا بتناول بعض الجوانب العقلانيّة-المفاهيميّة في ما يخصّ ما سمّيناه بعالميّة "الرسّالة الإسلاميّة" من خلال عالميّة المعاني والحقائق التي أرادت وتريد أن تدلَّ علَيها. وقد رأينا أنّ "رسالةَ مُحمَّدٍ رسولِ الله" تُوافق الأغلبيّة العظمى من الأديان والمذاهب الرّوحيّة في ما يخصُّ المعاني والحقائق الكونيّة الجوهريّة الباطنيّة الكبرى، مع تشديدٍ على توحيدِ الذّات (Substance) الإلهيّة وتنزيهِها بلا شوائب (ذهنيّة ومفاهيميّة وعقائديّة بشكل خاصّ).

في الجزء السابق أيضاً، رأينا أنّ الرّسالة الإسلاميّة هذه تأخذ بالاعتبار، طبعاً: بُعدَ الوجود البرزخيّ (أو بُعد المَلَكوت الذي يَرمز إليه عادةً “روحُ القُدُس” ضمن ثقافة الأديان السّماويّة). وقد أنهَينا الجزء الأوّل بالتّساؤل حول موضوع الدّور الوجوديّ والمعرفيّ والرّوحيّ-المَلَكوتيّ العَلِيّ الذي يلعبهُ “محمّدٌ” عمليّاً عند المسلمين، لا سيّما منهم أهلُ التّصوّفِ والعرفان.

نحنُ هنا ندخلُ حُكماً في نقاش ليسَ فقط عالم الأسرار، وإنّما أيضاً في نقاشِ عوالمِ أَسرارِ الأسرار. فالأديان الموَحِّدة[1]، لا سيّما منها الدّين الإسلاميّ تقول للمؤمنين إنّ الله لا يُمكن أن يُعرَفَ في ذاتِهِ. وهل يُعرفُ المُطلَقُ في ذاتِه من قِبل النِّسبيّ؟ ولذلك يُدعى السّالكون الرّوحيّون من بين هؤلاء المؤمنين إلى محاولة معرفة الله ولكن: من خلال أسمائِه وصفاتِه (وهي عند هؤلاء عادةً درجةٌ أعلى وأسمى من محاولة معرفتِه فقط من خلال “مخلوقاته” أو من خلال تجلّياته التي لا تُحصى في العوالم الظّاهرة).

في الواقع: تلك الأسماء والصّفات (الحُسنى) إن كانت شبه كاملةٍ ومجتمعةٍ في “جهة” متجلّيةٍ ما.. فهي قد تدلّ على الذّات.. أو بالأحرى على أقربِ تجلٍّ مُمكِنٍ لهذه الذّات (Substance Divine). ولكنّ الأمرَ صعبٌ جدّاً على هذا الإنسان المِسكين في واقع الأمر وحقيقته: فكلّما اقتربنا من المُطلَق كلّما قلّت قدرتُنا على الادراك والمعرفة، تماماً كما يُعمي الاقتراب من الشّمس مَن دَنَا مِنها.. بدلاً من أن يكتفيَ بأن تُدركَ عينَيهِ بعضُ أشعّتِها لكي يتمكَّن من الرّؤية.

وبسبب الصّعوبة الجمّة في الاقتراب من هذه الأبعاد المُطلَقة والأحَدِيّة إذن، ولو من خلال التّصوّرات والمفاهيم والخيال: تميلُ الأديانُ والطّرقُ الرّوحيّةُ عادةً إلى تصوّر “إنسانٍ كاملٍ”.. وهو في باطِنِه ليس (الذّات) ولا حتّى (الإله) طبعاً (خصوصاً لدى محمّد وأتباعه: “سبحانَ-هُو” عمّا يصفُ الواصِفون). ولكنّه نوعٌ من “مَظهَرٍ أَتَمّ” لتجلّي هذه الأسماء والصّفات الإلهيّة العُظمى واجتماعِها في “جهة ما” هي في المبدأ ما دون مرتبة الألوهة.

فحتّى ولو لم يكن المَظهرُ الأَتمُّ سوى نتيجةِ فيضٍ إلهيٍّ صغيرٍ جدّاً نسبيّاً، ولو لم يكن سوى صورةٍ يستحيل البتّة أن تصل إلى جوهرِ ما تُصوّره.. ولكنَّ التقرّبَ من (سرِّه) والاقترابَ من (معرفته وبالتّالي محبّته): قد يساعدان على الاقتراب من الحقائق الباطنيّة الخفيّة العُليا، ولو بشكل صغيرٍ جدّاً نسبيّاً وبطريقةٍ غير مباشرة. ليسَ “مُحمّدٌ” هنا سوى تجلٍّ (على المستوى الرّوحيّ أوّلاً).. ولكنّه التّجلّي الأعظم والأكثر كمالاً والأشدّ اقتراباً. ولذلك، يُصبح التّقرّب من سرّه والاقتراب من معرفته وعشقه: هدفَ الأهدافِ بالنّسبة إلى السّالكين الرّوحيّين.

بالتّأكيد، يذهب بعضُ أهل التّصوّف والعرفان أبعدَ (بكثيرٍ ربّما) في تصوّر “مقامِ محمّدٍ رسولِ الله” الحقيقيّ (ومقامِ بعضِ الأئمّة “الميامين” من أهل بيته، وبعضِ الأولياء “الأبرار” من أتباعه)، ولكنّني سأحاول أن أظلّ في موقعٍ هُو بنظري الأقرب إلى ما يعتقدُه أغلب المسلمين، وبالطّريقة التي هِي الأكثر نموذجيّة في نظري. وقد تكون هذه الآيات القرآنيّة خيرَ مدخلٍ نموذجيٍّ إلى الجانب الوجدانيّ “السّرّيّ” قيدَ الدَّرس (يحبّها أهل التّصوّف كثيراً بالمناسبة):

مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ

وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ، وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.

يَاْ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا.

وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا.

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا. (سورة الأحزاب، ٣٩-٤٣).

ثانياً. “محمّدٌ”.. كمثالٍ أو كمقامٍ روحيٍّ كونيّ

في “باطنِهِ” إذن، أو في “حقيقتِهِ”، يصبحُ (محمّدٌ) كما رأينا من قبل في حالةِ (المسيح) أو (يسوع المسيح): نموذجاً أصليّاً (Archétype) أو مثالاً أو مقاماً وجودّياً ومعرفيّاً وروحيّاً.. (للمظهرِ الأتمّ). نعني بذلك كما سبق ورأينا: المظهر الأتمّ لظهور أو تجلّي “الذّات” أو “الوجود المُطلَق” بنفسِه على نفسِه. أو كما ذكرنا في ما سبق أيضاً: فهو يُصبح نموذجاً أصليّاً أو مثالاً أو مقاماً لما يُسمّى في الأدبيّات الصّوفيّة الإسلاميّة عادةً (بالإنسان الكامل) أو (بالبرزخ الأكبر) أو (ببرزخ البرازخ) وما إلى ذلك.

هذه الحالةُ إنّما تتكرّرُ مع كثيرٍ من الشّخصيّات المؤسِّسة لكثيرٍ من الأديان والمذاهب الرّوحيّة. ينتقلُ الحكيمُ أو الرّسولُ أو النّبيُّ أو المبعوثُ أو الوسيطُ (إلخ..)، خصوصاً بعد وفاته، إلى كونه مثالاً أو مقاماً وجوديّاً ومعرفيّاً وروحيّاً برزخيّاً بين العباد والمُريدين من جهة، وبين العوالم والمراتب الرّوحيّة العليا على اختلافها من جهة ثانية. بكلمات أخرى: تُصبح تلك الشّخصيّة (باباً) بين عوالم الظّاهر وبين عوالم الباطن.

سؤالٌ جريءٌ هنا: هل (المظهر الأتمّ) أو (البرزخ الأعلى) هو نفس (المقام أو الحقيقة) اللّذين يتوجّه إليهما المسلمون والمسيحيّون وغيرهم.. لكن بأسماء ورموز وصور مختلفة (كاسم محمّدٍ، واسم يسوع، واسم عيسى وموسى وما إلى ذلك داخل الأديان السّماويّة وحتّى خارجَها)؟ قد يكون من المهمّ جدّاً العودة لاحقاً إلى هذا السّؤال المتعلّق “بالحقيقةِ المحمّديّة” كما يصطلح عليها أهل التّصوّف والعرفان عموماً ضمن الثّقافة الإسلاميّة: أكثر من تعلّقِه “بمحمّدٍ التّاريخيّ” أو حتّى “بمحمّد النّبيّ الرّسول العربيّ”.

إقرأ على موقع 180  لبنان ليس مفلساً.. "منظومته" في قعر الإفلاس الأخلاقي!

ولكنَّ الأكيدَ هو تجلّي هذا (السّرّ المُحمّديّ) من خلال الخطاب والأدب والفنّ الصّوفيّ-العرفانيّ داخل الإسلام. فيبدأ السّالكُ الذّاكرُ عادةً بالتّعبير عن الألم العظيم والمُزمن المتأتّي من البِعاد والفِراق عن الحبيبِ مُحمّدٍ وما يُمثّله روحيّاً كما أسلفنا في هذا المقام:

نَظَريْ إلى (وجهِ الحَبيبِ) نَعيمُ
و(بِعادُ) من أهوى عليَّ عَظيمُ

يا زارِعَ الرَّيحانِ حَولَ خيـامِنا
لا تزرعِ الرّيحانَ: (لستَ تُـقيمُ)!

ليسَ مقامُ سالِكِنا الحقيقيّ هو في هذه الدّنيا الظّاهرة، التي فرّقته عن الأحبّة الذين يقرّبونَه من الحقائق العظمى للوجود وللمعرفة، ومن دِيار المحبّة غير المشروطة. يشعرُ الذّاكرُ هذا إذن بالحُزن الشّديد بسبب البِعاد الذي يُسبّبه عندَ قلبهِ وفي قلبِه عالمُ الحِجاب والفِراق (أي عالمُ الحياة أو “الحيوات” الدّنيا)، فيشكو ويبكي، ثمّ يُكمل الذّكرَ حتّى يبدأَ الشّعورُ العاشقُ (لمحمّدٍ، ولما يُمثّله من تجلّياتٍ ومن فيضٍ نورانيٍّ عظيم) بالظّهور وبالصّعود أكثر فأكثر:

طَابَ ليْ خَلْعُ عِذَارِي

في هَوَى (البَدرِ التَّمامْ)

 (بـافتِقارِي) و(انكِسَارِي)

أَرتَجِي نَــيلَ (الـمَـرَامْ)

وهل يُنالُ المرامُ عندهم بغير حصول نوعٍ من أنواع “خلع العذار والحياء” بالمعنى الرّوحيّ، أي بغير فتحٍ لباب القلب والنّيّة؟ وهل يُنالُ المرامُ عند أهل الطّريق والسّلوك بغيرِ مجاهدةٍ للنّفس، لا سيّما من خلال (الافتقار) إلى الله وحده، ومن خلال (كسر الإنّيّة) والأنانيّة؟

يـاْ عَـذولِـي لا تلُمنِي

ما على (العاشِق) مَلامْ

أُدنُ منّي، واروِ عنّي

أنـا (في العِشـقِ إِمَــامْ)!

ثمّ يتصاعدُ الشّعورُ العاشقُ لما يَعنيه (محمّدٌ) ولِمن (هُوَ محمّدٌ).. وتتعدّد (الأحوال) في الطّريق إلى (المقام). وسعيدُ الحظِّ هو الذي ينال مع ذلك (شهودَ) من يعشق (أي المشاهدة الحدْسيّة-الرّوحيّة الحقيقيّة):

طالَماْ أشكوْ غَرامِي – يا (نورَ الوُجودْ)

وأُنادي (يا تِهامي) – يا مَعدِنَ الجُودْ!

(مُنيتي) أَقصى (مَرَامِي) – أحظى (بالشُّهودْ)

(وأرى بابَ السَّلامِ) – يا ز(ا)كيْ الجُدودْ!

 ***

وَبعدَ ذلكم، فطوبى لمن (صفَت نظرتُهُ)، واستطاعَ بإذنِ الرَّحمنِ وحدَه: أن يشهَدَ (الحَضرة). وهل أعظمُ وأجملُ عندهم – كما رأينا – من حضرةِ التّجلّي الأعلى والأكمل (أو ما دون ذلكم بقليل): أي حضرةِ سرِّ الأسرار ونبيِّ الأبرار.. حضرةِ مولاهم ذي النّورِ والأنوار، أي (محمّدٍ رسولِ الله) نبيِّ العشَّاق والأطهار:

صَـفَـتِ (النّـظْـره) – طابَتِ (الحَضرَه)

جــاءتِ (البـُـشـرى) – مِنْ أهـلِ اللهِ!

قـامُـوا (سُكارى) – (لِذِي البِشارَه)

جــعــلوا عـمـارَه – شُـكـراً للهِ (…)

وهل يستطيعُ المرءُ الصّادقُ مع نفسه ألّا (يُجَنّ) بعد ذلكم، بطريقة أو بأخرى؟ أَوَليسَ الجنونُ في العالم (الباقي) خيراً من التعقّل المزيّف في العالم (الفاني)؟ ألاْ تفكّرْ معهم وتأمّلْ:

حـتّـىْ قـدْ ظـنّـا – مَـن ليسَ مِنّا

(أنّــا جـُـنــنّــا) – (بــذِكــرِ اللهِ)!

هــنــيـئاً لنـا – ثُـمَّ (بُـشـرانـا)

إنْ كـانَ هذا: (حُبّاً في اللهِ)!

***

أختمُ مع ملاحظة أخيرة: إذ ليس هذا المقالُ بالمقامِ المناسبِ لمناقشةِ اعتقاداتي الشّخصيّة التّفصيليّة حول ما سبق من قضايا وزوايا. ولكنّني بالطّبع لا أُخفي مَيلي العقلانيّ والإيمانيّ والقلبيّ والسّلوكيّ الشّخصيّ العامّ إلى “أهلِ الله” و”عشّاقِ رُسُل الله وأوليائِه” من كلّ المذاهب الرّوحيّة حول العالم.

غيرَ أنّي أنصحُ اخواني متى استطعتُ، استناداً إلى خبرتي المتواضعة جدّاً في هذه الأمور: أن يُبقوا التّركيزَ مصوَّباً نحو “المُطلق”، مع عدم المبالغة في التّركيز على “الصُّوَر” مهما علا شأنُها في عوالم الظّاهر والباطن معاً. فتعلُّقُ السّالِكِ بالصّور لا يُعوّلُ عليه في المبدأ، والقاعدةُ عندي هي: أنّه وإن كانَ لن يَبلُغَ ادراكَ المُطلق.. فالأحسن أن يَظلَّ مُوَجِّهاً وَعيَه نحوَه لا نحوَ “غيرِه” مهما اكتملت صورةُ هذا “الغير” وعظُمت (وهلْ من “غيرٍ” أصلاً؟ وهل ثمَّ شيءٌ إلّاهُ.. هُوَ؟ فتَأمَّلْ).

وفي الخاتمةِ غير النّهائيّة: أشدّدُ طبعاً على أنّي لا أدعو إلى أيّ نوعٍ من أنواع “الجنون” المرضي، أو إلى أيِّ نوعٍ من أنواع ترك العقل والعقلانيّة في المبدأ.. ولو كان ذلك ظاهراً “في حبّ الله”، وأدعو إلى الاستفسار والسّؤال لدى أهل الخبرة ولدى “أهلِ الله” من كلّ الأديان قبل الدّخول في هذا المجال. وأدعو أيضاً كلَّ من يقرأ هذه الكلمات إلى عدم نسيان أنّنا جميعاً زّوارٌ في هذه الدّنيا، فلا يَغُرَّنَّنا أهلُها ودُعاتُها.

وإلى من لا يزالُ يُبالغ في “زرع الرّيحان” الظّاهريّ حول خيامه وكأنّه باقٍ في هذا العالم الفاني نُردّدُ القولَ ذاك:

ياْ زارِعَ الرَّيحانِ حَولَ خيـامِناْ
لا تزرعِ الرّيحانَ: (لَستَ تُقيمُ)!

بهدف محاولة إيصال بعض المقاصد والمعاني، استخدمت بالطّبع عيّنة صغيرة لكن معبّرة في نظري: عمّا تُنشده الصّوفيّة ضمن هذا السّياق، ويمكن الاستماع إلى أكثر هذا البعض في وصلة نموذجيّة رائعة للمنشد الصّوفيّ المعاصِر نور الدّين خورشيد (بارك الله فيه).

[1] وغيرها بالمناسبة. مجدّداً، يمكن التّنبّه هنا إلى المضمون الجوهريّ القريب – بل الواحد برأينا – للأديان والمدارس الرّوحيّة حول العالم.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  طلال وشيرين.. و"طوفان" بحجم قضية