لو طبّقت، معظم المصارف اللبنانية، المعايير الدولية، لكان مصيرها الإفلاس أو إعادة الرسملة الكاملة وتحمل مُلّاكها نصيبهم من الخسائر، على أن يتولى مصرف لبنان المركزي هذه المهمة حفاظاً على أموال المودعين. إذ سبق وحصل في لبنان إفلاسات وإلغاء رخص مصرفية وحالات دمج وهيكلة بالعشرات منذ أيام بنك أنترا في الستينيات الماضية إلى الحرب الأهلية وما بعدها، وقلما خسر المودع، المقيم أو غير المقيم، شيئاً من مدخراته. بيد أن حساب الحقل لا ينطبق البتة على البيدر هذه المرة العويصة لأن المقرض الأخير، والملاذ الآمن المفترض، مفلس هو الآخر، أي البنك المركزي.
صحيح أن البنوك المركزية لا تفلس بالمعنى الحرفي للكلمة لأنها تستطيع طباعة النقد، لكن ما هذا النقد النازفة قيمته على مدار الساعة حتى فقد 90 في المائة منذ بداية الأزمة أواخر 2019 إلى اليوم.. والحبل على جرار الانهيار أكثر؟
والسؤال المحير الآخر هو: كيف تستطيع مصارف لبنان الصمود النسبي بوجه إعصار الأزمة الذي انقشع عن خسائر قد تصل إلى نحو 100 مليار دولار؟ وما هي الأدوات التي استخدمت وتستخدم لتبقى البنوك قائمة وحاضرة على كل طاولة مفاوضات وخلوة تسويات، برغم تفريطها بأموال المودعين الذين وظفوا أموالهم لديها (بقي منها دفترياً بالدولار 110 مليارات) وليس في مصرف لبنان أو الدولة؟
رياض سلامة يراوغ
الإجابات حمّالة أوجه، ومع ذلك يمكن تبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود كالآتي:
أولاً؛ يتهرب مصرف لبنان من دفع المصارف المفلسة الى مصيرها الحتمي، لأنه، وبكل بساطة، لا يستطيع رد الودائع لأصحابها، وتحديداً الودائع الدولارية التي استحوذ هو على ما قيمته 80 مليار دولار منها بشكل مباشر (أموال المصارف لديه كودائع وشهادات ايداع) ولم يبق لديه منها إلا 15 ملياراً فقط. لذا نرى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وفي ظهيره السلطة القائمة، يراوغ مؤجلاً الإستحقاقات الإفلاسية الحتمية مع رمي كرة النار ذات اليمين وذات اليسار في سلسلة تعاميم وإجراءات متخبطة عمياء كالناقة العشواء داهسة في طريقها المودعين وصغار الكسبة بالليرة اللبنانية لتحميلهم الخسائر أولاً قبل أي حديث عن خسائر المصارف ومصرف لبنان والدولة.
إسقاط خطة “لازار”
ثانياً؛ إستطاع النظام المصرفي بمساعدة مصرف لبنان والسياسيين، النافذين الفاسدين منهم والمغفلين، إسقاط محاولة خطة لحكومة حسان دياب (لازار) بين بنودها إجبار القطاع المصرفي على إعادة الرسملة الكاملة والهيكلة الشاملة لضمان ما يمكن ضمانته من أموال المودعين المتبخرة حالياً. ومع سقوط الخطة في البرلمان سقط معها مقترح منح تراخيص لقيام بنوك جديدة ضناً من النواب بـ”قدسية” مصالح أصحاب البنوك القائمة.
انطلت على شرائح من المودعين سردية أن أموالهم عند الدولة وليست عند المصارف بينما هي عملياً عند مصرف لبنان الذي شفطها من البنوك بفوائد عالية وبددها خلافاً لقانون النقد والتسليف كرمى لعيون السياسيين في طاحونة ادارتهم الفاسدة والفاشلة للدولة
القضاء “الخزمتشي”
ثالثاً؛ استطاعت المصارف الإفلات من العقاب قضائياً برغم صدور أحكام بالحجز على أصولها وأصول ملاكها ومجالس إداراتها وإداراتها العليا. وما كان الإفلات ليحصل لولا التغطية السياسية لبعض القضاء العامل أصلاً “خزمتشي” في بلاط النافذين المتسلطين على إختلاف طوائفهم وأحزابهم السلطوية.
سفاح القربى
رابعاً؛ داوم المصرفيون تاريخياً على رد الجميل للسياسيين الأكثر نفوذاً. وفي عز الإنهيار سمحوا لهم ولاتباعهم من كبار قوم المال بتحويل مليارات الدولارات إلى الخارج. ولا غرابة، فالتواطؤ المريب يندرج في سياق علاقة تاريخية منذ الإستقلال في نظام تبادل للمصالح وتكامل للأدوار، وصولاً إلى دخول سياسيين في رساميل عدد من البنوك، في ما يشبه سفاح قربى السلطة والمال.
التعاميم الإلهائية
خامساً؛ في الوقت الذي كان فيه مصرف لبنان يحاول لعب دور الناظم الرقابي ولو ظاهرياً، كانت المصارف تستجيب ظاهرياً أيضاً. وللمثال، لم ينفذ كما يجب تعميم إعادة الرسملة بنسبة 20 في المائة، ولا اكتمل عقد إعادة تكوين 3 في المائة من الودائع بالعملات الاجنبية في الخارج. وينسحب نفس التمثيل (المسرحي الإلهائي) على تعاميم أخرى مثل إعادة 15 في المائة من أموال كبار العملاء التي حوّلت الى الخارح منذ صيف 2017، كما لم ينجح التعميم عينه في تحقيق أهداف إعادة 30 في المائة من أموال المصرفيين والسياسيين التي حوّلت إلى الخارج. وهنا أيضاً، يتجلى ترابط مصالح اصحاب المصارف وكبار العملاء والسياسيين للالتفاف على تطبيق ذلك التعميم الذي “بله رياض سلامة وشرب ماءه” من دون امتلاك القدرة الفاعلة ولا الرغبة الحقيقية لتنفيذ متطلباته، فذهب التعميم العتيد كغيره مع الريح أو نفذ جزئياً بزغل.
“وينيي الدولة”؟
سادساً؛ لم يفلح الاعلام الصارخ والمجتمع المدني الغاضب (من يسار أو يمين، عن حق او عن ايديولوجيا موجهة) في كسر شوكة المصرفيين. وما ذلك الا بفعل قوتين. الأولى، حماية السياسيين له ورعاية رياض سلامة لمصالحه. والثانية، تقوم على تبني البنوك أيضاً وبديموغاجية فجة مقولة “وينيي الدولة” المتهمة برأيهم بالفساد والهدر والترهل والتخلف، وهذه المقولة الشعبوية، المسلية البائسة، السائدة جداً في لبنان، يستسيغ استخدامها الغني والفقير، الشيخ والأمير، العزيز والحقير على حد سواء، لتجهيل المجرم الحقيقي فيضيع دم القتيل بين القبائل.
سردية الخلط
سابعاً؛ انطلت على شرائح من المودعين سردية أن أموالهم عند الدولة وليست عند المصارف بينما هي عملياً عند مصرف لبنان الذي شفطها من البنوك بفوائد عالية وبددها خلافاً لقانون النقد والتسليف كرمى لعيون السياسيين في طاحونة ادارتهم الفاسدة والفاشلة للدولة ومرافقها. لكن الخلط ضارب اطنابه، فيشتبه المودع بين حابل البنك المركزي ونابل الدولة لتضيع الطاسة لعل المصارف تنفد بريشها من مسؤولية ضياع 85 في المائة من الودائع.
بات يحلو للمودع تصديق ان حقوقه محفوظة بانتطار ما ستؤول اليه الارهاصات السياسية الحكومية، ومن بعدها تنفيذ وعود التعافي واعادة تكوين الودائع. اي ان المودعين اقرب الى تصديق خرافة اعادة تكوين الودائع من حقيقة تبخر معظمها
تدجين المودعين
ثامناً؛ تدجّن كثير من المودعين وسلّموا أمرهم يائسين لهذا الحلف المافيوي الضام للسياسيين النافذين ومصرف لبنان والبنوك. وبات يحلو للمودع تصديق ان حقوقه محفوظة بانتطار ما ستؤول اليه الارهاصات السياسية الحكومية، ومن بعدها تنفيذ وعود التعافي واعادة تكوين الودائع. اي ان المودعين اقرب الى تصديق خرافة اعادة تكوين الودائع من حقيقة تبخر معظمها. وما هذا البؤس في الاعتقاد الا من يأس المجتمع ككل من تغيير اي معادلة ظالمة قائمة إثر فشل “حراك 17 تشرين” في تحقيق أهدافه بوجه السلطة الحاكمة. وتجلى البؤس المفجع بأبشع صوره بعد صدور قرار مجلس شورى الدولة بإبطال تعميم سحب المودعين لدولاراتهم بالعملة والوطنية وبسعر 3900 ليرة للدولار (أي بخسارة 75 في المائة)، فاذا بهم يذعرون فينتصر لهم السياسيون المرّاؤون ليستمر السحب بخسارة بالغة مشفوعة بالرضا المصاب بمتلازمة ستوكهولم المذهلة (تعاطف المخطوفين مع الخاطف).
عليّ وعلى أعدائي
تاسعاً؛ تمعن المصارف عند كل مفصل من مفاصل الأزمة في ارسال اشارات ردعية صادمة سراً أو علناً ضد كل محاولات تضييق الخناق عليها. لتؤكد بالملموس ان باستطاعتها خنق آخرين معها. ومن بين الامثلة ظهور البنوك بين اسباب انهيار الليرة. فعندما طلب منها اعادة تكوين 3 في المائة من الودائع بالدولار في حسابات خارجية لجأت الى عدة اساليب منها شراء الدولار من السوق الموازية ما رفع سعر العملة الاميركية فهبطت الليرة اكثر. وتكرر المشهد فور اعلان مصرف لبنان خطة رد 400 دولار (حقيقي) للمودعين تتحمل المصارف 200 منها، فسارعت مصارف الى جمع دولارات من السوق الموازية فارتفع سعر العملة الاميركية الى قمم جديدة. والمؤدى بالصريح المباشر ان باستطاعة البنوك خنق الناس في معيشتهم أكثر اذا تجرأ أحد على خنقها.
صمت لجنة الرقابة
عاشراً؛ في خضم هذا اليم المائج بتضارب المصالح، وانعدام الحوكمة وغياب الشفافية، كان يفترض بلجنة الرقابة على المصارف التحرك لتضع بين أيدي الجميع حقيقة أزمة افلاس هذا القطاع من عدمها. بيد أنه وبقدرة قادر تبقى تلك اللجنة، وعلى عادتها تاريخياً، صامتة صمت القبور، ما يفترض اعتبار سكوتها تغطية لارتكابات النافذين ورياض سلامة والمصرفيين.
الربح برغم الخسارة
حادي عشر؛ الأنكى ان المصارف مستمرة في تحقيق الارباح من فارق يصل الى 3 اضعاف بين الفوائد المقبوضة لا سيما من توظيفات شهادات الايداع في البنك المركزي وسندات الدين العام بالليرة، مقابل الفوائد الزهيدة المدفوعة على الودائع. ارباح تستخدمها لاطفاء بعض الخسائر وتحييد مؤونات مقابل فقدان ايرادات فوائد سندات اليوروبوندز بعد توقف الدولة عن السداد فضلاً عن خسائر القروض المعدومة.
نعمة السعر الرسمي
ثاني عشر؛ لا ننسى ان المصارف مستفيدة ايضاً من تعدد اسعار صرف الليرة. فالسعر الرسمي عند 1500 مقابل الدولار يحمي رساميلها نسبياً وإلى حين. وتستفيد ايضا من سعر 3900 ليرة لسحوبات ودائع الدولار باللبناني (اللولار) بحيث تطفئ جزءاً من خسائرها من فارق السعر مقارنة بسعر الدولار في السوق الموازية.
خلاصة أولية
على ما يبدو، ربحت المصارف الجولة الاولى من المعركة باستخدام 12 “سلاحاً” دفاعياً وهجومياً. لكن الحرب مستمرة بانتظار تشكيل حكومة جديدة تتولى وضع برنامج انقاذي بالتوافق مع صندوق النقد الدولي الذي بين شروطه التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان لمعرفة مصير ودائع الناس. وبما ان ام المعارك هي “سياسية” بالدرجة الأولى كما هو فاقع الآن في الصراع الدامي بين “ديوك” الطوائف، فان صمود المصارف من عدمه متعلق هو الآخر بتسوية ما. لكن صمود باطل التسويات ساعة وحقوق المودعين الى قيام الساعة!