مع المقاومة أم ضدها.. هذه حرب بقاء لبنان أو اندثاره

هي لحظاتٌ مصيريّة يمرّ بها وطننا لبنان عمومًا، والطائفة الشيعيّة تحديدًا، ومنها يطفو ألف سؤال وسؤال. عن ما سُمي جبهة الإسناد بداية (وجب تسميتها منذ اللحظة الأولى جبهة الدّفاع عن لبنان أولًا وقبل أيّ شيء آخر)، عن مآلات الحرب، عن القدرة على الإحتمال والصمود، والأثمان التي بُذلت والتي لم تُبذل بعد.

غير أن السؤال البديهي الذي يجب أن يسأله أيّ عاقلٍ ومنصف، أو حتى أيّ خائف ومتردد، هو أنّ آلة الحرب الأمريكية الغربيّة الصهيونية التي تفتك بلحم أبنائنا ونسائنا ورجالنا وأطفالنا، هي إنّما تفعل ذلك مع كلّ القوّة التي راكمناها، ومع كلّ القتال الإستشهادي الّذي يُسطّره أبطالنا في الجنوب، فكيف الحال لو رمى أبناء الأرض سلاحهم وسلّموا راجماتهم وصواريخهم واستسلموا؟

ربّما وجب علينا حينها أن نحمل الخائفين والمتردّدين ثم ندور بهم بداية من قريتي سحمر، حيث الضريح الكبير لكلّ شهداء المجزرة التي ارتكبها العدوّ وعملاؤه بالرجال والشّباب العزّل عام ١٩٨٤، بعد أن سحبوهم من بيوتهم وجمعوهم بإحدى ساحات القرية، ثم أطلقوا النّار عليهم بكلّ دمٍ بارد. مرورًا بمجزرة صبرا وشاتيلا الغنيّة عن التوضيح والتعريف، بفظاعاتها وارتكاباتها، وعدد ضحاياها الذي يوازي أو يفوق كلّ ضحايا العدوان الحاليّ منذ سنة وحتى اليوم.
ليس هنالك أنجع من التاريخ كي يُجيب عن كلّ هواجسنا وأسئلتنا الثقيلة، كالإنقسامات الحادّة وتماهي قلّة قليلة مع العدوّ والأسباب الظاهرة والباطنة للحروب التي خيضت سابقًا، فهو -أيّ التاريخ- إنّما يُضيء بوضوح ظُلمة أي تشويش قد يخلقه خيال عقولنا المتعبة، أو حتّى، إعلام عدوّنا الخبيث.

من يُحرّر روحه وعقله من الإستعمار، بديهيّ حينها أن يُحرّر أرضه وإرادته. فالمعركة هي بالدرجة الأولى، بحسب نور الدين، معركة حضارة وقيم، قبل أن تكون معركة تحرير أو نضال، وأنّ قضيّة فضح المستعمرين والمستكبرين أرفع وأقدس من تحرير قطعة أرض لا تحول دون استمرار هيمنته واستعباده لنا ولكلّ شعوب المنطقة والعالم

التّاريخ حين يضيء
بالعودة للتاريخ. من يظن أنّ الأصوات التي تتماهى مع العدوان، بل تُشجعه على المضي في سحق أهل المقاومة شيئًا جديدًا واستثنائيًا، فليقرأ ما ينقله المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي في كتابه “صورة الفتى بالأحمر” (ليس الكتاب الأول الذي أقرأه له، ولكنّه للأمانة أمتعهم وألطفهم، من حيث خفّة قلم الكاتب وسرده للتاريخ بطريقة روائية مُبسطة) عن بعض ما قاله الآباء أو الزعماء السّابقون لهؤلاء، رعاة اتفاقيّة ١٧ أيّار المُذلّة، الذّين شكّكوا في جدوى انتشار قوّات الطوارىء الدوليّة في الجنوب لكسر المقاومة وليس حمايةً للجنوبيّين. فيما الأكثر وضوحًا بينهم، فقد أعرب عن أمله في “أن يكون الإحتلال العابر خروجًا للإحتلال المستمر”، أيّ بعبارة اليوم “فرصة”. أمّا أسباب اندفاع الإجتياح نحو بيروت عام ١٩٨٢، بعد أن احتل العدو الجنوب، ثمّ وصلت دباباته إلى تخوم عاصمتنا وحاصرتها، فيُشير الكاتب إلى الضّجة التي أحدثها تصريح وزير الحرب الصهيوني آنذاك آرييل شارون، الذي “اعترف أخيرًا أنّ دخول بيروت لفرض الأمن بعد اغتيال بشير الجميّل كان مجرّد ذريعة. أمّا السبب الفعلي فهو التخلّص من المقاتلين الفلسطينيين”، وهي الذرائع نفسها التي يسردها اليوم.

عام ١٩٨٢ حين ولِدت المقاومة الإسلامية، لم تضع الّلوم على الشعب الفلسطينيّ المظلوم والهائم على وجهه تشرّدًا وتغرُّبًا، بأنّه سبب الإجتياح ومآسي الجنوبيين، ولا اتهمت مقاومةَ جبهة اليسار التي انضوت تحت جناح منظمة التحرير الفلسطينيّة، وقدّمت الكثير من الشهداء والتضحيات ضدّ العدوّ الإسرائيلي، بأنّها مقاومةٌ صنيعة وعميلةٌ للأجنبي، وإن اختلفت معها في مقاربة الكثير من القضايا بشكل كبير، بل امتشق “الخمينيّون” – عبارة الشهيد فؤاد شكر – السّلاح ووجهوه إلى صدر الغازي، وأعلنوا أن معركتهم مع هذا الكيان معركة وجوديّة. وحين يُعلن العدوّ اليوم أنّها حربٌ وجوديّة، فهو بذلك قد جاء متأخرًا جدًا عن ما أعلنه هؤلاء المقاومون منذ أكثر من أربعين عامًا، ليصدّق ويصادق على كلامهم وطبيعة المعركة معهم.
معركة الحضارات والقيم 
يعتبر مؤلف كتاب “بحثًا عن حضارة جديدة، من المقاومة إلى البناء” المفكر السيد عباس نور الدين، أنّ ما تفعله أمريكا بدعمها المطلق للإجرام الصهيونيّ ومجازره المتنقلة، “هو أخطر ممّا جرى في حفلات الجنون الهمجية في الحرب العالمية الثانية، لأنّ أمريكا تُريد أن تجعل من إبادة المدنيين العُزّل حقًّا مشروعًا فتسنّ بذلك سُنّةً سيعمل بها الآخرون في أيّ مكانٍ في العالم حين تقتضي مصالحهم القيام بهذا النوع من الجرائم الحربية السافرة. وهكذا ستتسارع وتيرة هذا الإنحطاط البشري ليصل إلى انقلابٍ تام للطبيعة الإنسانية وتحوُّل البشر إلى مجرّد وحوش تحكمهم شريعة الغاب”، وهنا تحديدًا تكون الحضارة الغربيّة التي استرجعت بعضًا من ماء وجهها بعد الحرب العالميّة الثانية، حين أقنعت بالخداع والمكر بعض سكّان الأرض بأنّها تمثّل الإنسانيّة، قد وصلت إلى قاع الحضيض، ولم يعد لتلاشيها واندثارها أيّ مانعٍ سوى ظهور مشروعٍ حضاري إنساني جديد.
وبالتالي، حين نُكبّر مجهر الصراع مع العدوّ الحضاري الأوّل لكلّ الإنسانيّة، فتفضحه دماؤنا وآلامنا وقرانا ومدننا المهدمة، بأفتك ما وصلت إليه تكنولوجيا الدّمار الغربي مَفخَرة تقدّمه العلميّ، فإنّ ذلك يُعتبر إنجازًا وانتصارًا حقيقيًا للقيم الإنسانيّة السامية والعظيمة، ونجاة لروح الإنسان فينا أوّلًا وقبل الآخرين، لأنّ ذلك يقودنا لتحرير أنفسنا وعقولنا من استعمار الغرب، ومن يُحرّر روحه وعقله من الإستعمار، بديهيّ حينها أن يُحرّر أرضه وإرادته. فالمعركة هي بالدرجة الأولى، بحسب نور الدين، معركة حضارة وقيم، قبل أن تكون معركة تحرير أو نضال، وأنّ قضيّة فضح المستعمرين والمستكبرين أرفع وأقدس من تحرير قطعة أرض لا تحول دون استمرار هيمنته واستعباده لنا ولكلّ شعوب المنطقة والعالم.
هكذا يصبح مفهوم النّصر هو أن تحقّق أهدافك بالدرجة الأولى، أو أن تُسقط أهداف العدوّ بالدرجة الثانية، فمنذُ متى كان النصر يُقاس بعدد التضحيات أو بتراكم الخسائر الماديّة؟ هذا ليس تقليلًا من شأنها أو قيمتها، لكنّها لم تكن يومًا معيارًا للنصر أو الهزيمة. بل على العكس، كنا نشاهد أن كثيرًا من المنتصرين تفوق تضحياتهم وخسائرهم أحيانًا خسائر المهزومين، لكنّ انتصار وصمود هذه الأمم أو الدول، يدفعها للنهوض من جديد لتعيد ترتيب بنائها من الصفر، وهو ما تعجز عن فعله الدول والحكومات بسياقها الطبيعي والهادىء، وهذا ما يستلزم قوّةً وإرادةً وهمّةً ونمطًا جديدًا من العقول المبدعة للشعوب المضحية.
“الشجاعة أيضًا وطن”
قد يعتقد الكثيرون بأن هذه المعركة لا تعنيه، أو أنّها معركة الآخرين على أرضنا، أو أن هزيمة المقاومة قد تجرّ معها انفراجاتٍ كبيرة في العلاقة مع الغرب وبعض الدول التابعة له، ولأجل ذلك، أشعر برغبة قوية بأن أوجّه سؤالًا بسيطًا ومتفرعًا لكلّ الذين يختلفون مع المقاومة اليوم، جميعهم من دون استثناء، من شخصيات وأحزاب وتيارات متعددة. فقط تخيّلوا لا سمح الله هزيمة المقاومة، هل تعتقدون أن الصهاينة سيسمحون بلبنان الحريّة والديموقراطيّة والتعدّد؟ أو بازدهار بلدنا واجتذاب دول النفط التي أنجز العدو مشروع التطبيع معها؟ أو على فرض وجود نفطٍ في برّنا وبحرنا هل سيُسمح لنا باستخراجه؟ من باعتقادكم سيكون أوثق حلفائهم لو انتصروا؟ وهل أنّ حلفاءهم المفترضين، لو ربح الصهاينة، سيراعون خصوصياتكم ثم يُشاركونكم السلطة؟ ألم تُجرّبوا هؤلاء أيام سطوتهم العسكرية إبّان الإجتياح الإسرائيلي عام ١٩٨٢؟
يكفي أن يلتفت جميع اللبنانيين، إلى أنّ كلّ الأنظمة العربيّة التي طبّعت مع كيان العدو وأقامت علاقاتٍ وثيقة معه، هي أنظمةٌ دكتاتوريةٌ لا حريّة ولا ديموقراطيّة ولا تعدديّة فيها، أصلًا العلاقة مع هذا الكيان لا تحتمل نفَسًا واحدًا من أنفاس الحريّة، لأنّ فاقد الشيء بجوهره يستحيل أن يُعطيه، لأنّ القاتل والمجرم والجزّار والعنصري لن يتحالف مع صاحب القيم والمؤمن بالتعددية “وبأنّ لبنان وطنٌ نهائي لجميع أبنائه”. هو فقط وفقط سيتعامل مع من هم من ماهيته وسنخيته، وهؤلاء وإن كانوا قلّة قليلة، إلّا أنّهم متوثبون لهذا الدور التاريخيّ لهم، وهنا تحديدًا تتشكل المفاضلة، انتصار المقاومة لصالحكم أم هزيمتها؟ وهنا تحديدًا أيضًا يتجلى فعل البطولة والفداء للمقاومين المستبسلين، بأن تُخرج الحاضر من عنق زجاجة التاريخ لتصنع به مستقبلًا يليق بك، بأحلامك وآمالك وحبّك للحياة العزيزة والكريمة.

إقرأ على موقع 180  مذكرات إيلي فرزلي: زحلة تنتظر النجدة منذ 45 سنة!

لأجل ذلك ترخص التضحيات، ويتقدم الباذلون على مذبح الشجاعة والبطولة، “فالشجاعة أيضًا وطن” يقتبس فواز طرابلسي من رواية أندريه مالرو، ويضيف: “في لبنان، إذ يهتزّ مصير الوطن، تصير الشجاعة هي الوطن. تتذكر أولئك الذين استوطنوا الشجاعة. وتمتلك رغبةً جامحة في أن تروي قصّة كلّ واحدٍ منهم، الأحياء منهم أو الذين استشهدوا. تعرف قلّة قليلة منهم قد لا يكونون الأفضل ولا الأخْيَر ولا الأشجع، لكنّهم رفاقك وأصدقاؤك..”، واليوم تحديدًا فقط (وأنا أكتب هذا المقال)، دُفنَ في قريتي عشرة شجعانٍ هم من رفاقنا وإخواننا، سنحكي قصصهم يومًا، ليس لأجلهم، بل لأجلنا، كي يبقى لنا وطن.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تغيير الديموغرافيا.. وتحريف التاريخ