“قناع بلون السماء” للأسير الفلسطيني باسم خندقجي هل تفوز بجائزة “البوكر”؟

"أنا المسخ الذي وُلد من رحم النّكبة، والأزقّة والحيرة والغربة، والصمت.. وُلدت من رحم التهميش والتصنيف والسجن.. أنا المسخ فهل من رحمٍ تلدني مرّة أخرى إنسانًا؟"

وصلت رواية “قناع بلون السماء” لكاتبها الفلسطيني باسم خندقجي إلى القائمة القصيرة للجائزة العالميّة للرّواية العربيّة (البوكر) مع خمس روايات أخرى، ويتوّقع لها كثيرون أن تفوز بالجائزة الكبيرة، برغم وجود كاتبها في سجون الاحتلال الإسرائيلي وبرغم إعلان سلطات الإحتلال نيتها عدم السماح بتسليمه إيّاها في حال فوزه.

الرّواية صادرة في العام 2023 عن “دار الآداب” في بيروت، وبرغم كون كاتبها أسيرًا إلا أنها لا تُصنّف في خانة أدب السّجون، فخندقجي حداثوي في ما يتعلّق بكتابته من داخل سجنه الذي زُجَّ به منذ ما يقارب العشرين عامًا، فهو يُخرج أدبه من السجن إلى العالم الواسع؛ يُحرّره من سلطة المكان والزّمان، فيكتب لنا أدبًا لا يُسطّر فيه آلامه ويوميّاته هناك، وهذا عملٌ بطوليّ واستثنائي بحد ذاته، يجعل من مجرّد نشر كتاباته فعلًا إستثنائيًا.

“قناع بلون السّماء” هي الرواية الرّابعة للمؤلف بعد رواية “نرجس العزلة” التّي يُصرّ على اعتبارها منثوراً روائيًا، إضافة إلى روايتين تنتميان إلى الفنتازيا التّاريخيّة، وروايته الأخيرة التّي تسبح بين زمنين: الأوّل، هو وقتنا الحاضر، والثّاني، مع المسيح وحواريّيه، في محاولة رسم مخطّط لرواية تتناول حقيقة تلميذته مريم المجدليّة والعلاقة التّي جمعته بها.

يُطلعنا هذا العمل على باسم المثقّف الفلسطيني، الذّي لا يُوفّر جهدًا ليتحرّر بالمعرفة والعلم؛ ثقافة باسم تتبدى في معظم صفحات الرواية، فهو الدّاري بعمليّات التّنقيب الأثري في الأراضي المقدّسة، ودهاليز العلاقة بين الكولونياليّة والصهيونيّة، القارئ للأدب العالمي، المتبحّر في أعمال إدوارد سعيد وغيره من الكتّاب المرموقين

تدور أحداث “قناع بلون السماء” في فترة الحجر الصّحي الذّي فرض بسبب جائحة كورونا، وفي ظلّ الاشتباكات العنيفة بين المقدسيّين وشرطة الاحتلال أثناء محاولات هدم حيّ الشيخ جراح بالقدس. يروي لنا الكاتب قصّة نور مشهدي، وهو خريّج المعهد العالي للآثار الإسلاميّة؛ شاب فلسطيني لاجىء أصله من اللّد، يسكن في مخيّم قرب رام الله من دون الإفصاح عن اسم المكان، فكلّ المخيّمات سواء “وليس ثمّة معنى لاسم المخيّم الفلسطيني إلّا عندما تُرتكب فيه مجزرة، ليُصبحَ اسمًا من أسماء المآسي في تاريخ الإنسانيّة”؛ والده مناضل ومعتقل سابق؛ والدته توفّيت أثناء ولادته؛ عاش في بيته حالة صمت وجمود بسبب صدمة أبيه وحزنه. له صديق وحيد معتقل في سجون الاحتلال وهو مراد، المُثقّف والمُتبحّر سياسيًّا؛ يُحضر له نور كتبًا إلى السّجن، بينما يبادله صديقه مقترحات كتب للقراءة، ويُسجّل نور على امتداد الرّواية رسائل صوتيّة له يُخبرهُ فيها عن حاله ومشاريعه.

نور وسيم وأشقر المُحيّا، أي بملامح جعلته شبيهًا باليهود الأشكيناز وجعلت الأهالي في المخيّم يُلقّبونه بـ”السّكناجي” (تحريف للأشكنازي)؛ الملامح نفسها ساعدته مرارًا عى تخطّي حواجز الاحتلال وارتداء القناع الإسرائيلي. يعمل نور في القدس ورام الله ليدّخر مصاريف الجامعة في محاولة منه للانعتاق والخروج من جوّ أسرته والبحث عن واقع أفضل. يُتقن الإنكليزيّة والعبريّة باللكنة الأشكينازيّة؛ يقرأ رواية “شيفرة دافنشي” لدان براون، ويستوحي منها فكرة كتابة رواية تنقد عمل براون وتحمل رؤية جديدة لمريم المجدلية، بناء على معطيات أثريّة وتاريخيّة.

تتخذ حياة نور مُنعطفًا حادًّا عندما يجد صدفة في معطف اشتراه من سوق الملابس المستعملة هويّة لشاب إسرائيلي يُقاربه سنًّا يدعى أور شابيرا، فيُقرّر انتحال شخصيّته ليُسهّل على نفسه عناء التّنقّل في القدس. وحين يُقرّر دخول مستوطنة “مشمار هعيمق” المنشأة على أراضي مرج بن عامر عبر المشاركة في بعثة أثريّة والحصول منها على مواد لروايته، يُزوّر هويّته بصورة جديّة، ويُصبح أور شابيرا بهويّته الزّرقاء، وهناك يلتقي بآيالا الإسرائيليّة (يهودية من أصل شرقي) وبسماء الفلسطينيّة من حيفا التي تحمل هويّة زرقاء تكرهها.

تتواتر الحوارات بين شخصيتي أور ونور، لتُدلّل على صراع الهويّة الذّي يعيشه نور بينه وبين نفسه، والذّي يزداد عند انتحاله شخصيّة أور الصّهيوني، ويتعاظم هذا الصّراع ويدخل نور في دوّامة كراهية لذاته عند تعريف سماء في الورشة عن نفسها بأنّها فلسطينيّة من حيفا برغم حملها هوّية إسرائيليّة زرقاء تمقتها، وعدم حرجها من خوض نقاشات تدافع فيها عن وجودها وهويّتها برغم ما يُسبّب لها ذلك من متاعب.

تتحدّث الرّواية عن الفلسطينيين المُكبّلين بالقيود والأثقال؛ ثقل الهويّة والملامح والعيش في ظلّ الاحتلال، وثقل تصاريح العمل، وثقل الاعتقالات السابقة والمنتظرة، وثقل المقاومة والخذلان، وثقل الفقر ومقارعة الحياة ومحاولة الحصول منها على شيء، وثقل السلطة والجماعات المتصارعة على الأوهام.

يعالج النص موضوعات عدة، كالصّراع مع النّفس ومع الآخر حول أزمة الهويّة والوجود؛ الهويّة التّي تلاحقك حتّى لو حاولت الهروب منها وتحدّد فرصك ونظرة الآخرين إليك وطريقة تعاملهم معك، كما يُحاكي جدوى المقاومة المتمثّلة بوالد نور، الرجل الذّي انفصل عن الواقع وتقوقع على نفسه بعد أن خانه الجميع.. ومن خلاله، يُحيلنا إلى تفاهة الخلافات الفلسطينيّة السياسيّة الداخليّة وفقدانها للمعنى، كما يحاول النص إلقاء الضوء على فلسطينيّي الداخل وصراعهم الوجودي وطريقة حياتهم المفروضة عليهم والتّي يجب عليهم تقبّلها للاستمرار، ونظرة باقي الفلسطينيّن لهم كمُطبّعين، ويمرّ بشكل هامشي على تدخّل الطّائفة الإنجيليّة لتحريف المعالم الأثريّة حتّى تُرسّخ القصّة التّوراتيّة وتنسجم معها، ويُضيء على الصهيونيّة ببعدها الكولونيالي واستثمارها للمحرقة اليهوديّة لتبرير جرائمها، ويتطرّق إلى الغنوصنيّة المسيحيّة التّي شبّهها بالتّصوّف الإسلامي من خلال شخصيّة الشّيخ مرسي..

إقرأ على موقع 180  ثلاثة استثناءات درامية مصرية.. حققت السهل الممتنع

الرّمز إحتل حيزًّا مهمًّا في الرواية، فمراد صديق نور هو أناه الأعلى، المحتجزة داخل القضبان والتّي تريد الهرب منها؛ مراد أيضًا هو مرآة الكاتب نفسه المسجونة والتوّاقة للحريّة، ووالد نور هو عموم المقاومين الرّافضين للمساومة والذّين انتهى بهم الأمر بالخروج من الواقع، والصّمت الذّي يلفّ حياة نور في بيته يُمكن أن يُشير إلى فلسطين وعلاقتها بمحيطها العربي. أمّا أور فهو الآخر المختلف والأنا التّي يحاول الهرب منها والتشبّه بها في الوقت نفسه، وأمّ نور هي الأرض التّي لا يعرفها ولكنّه يتعلّق بها، وسماء هي مريم المجدليّة.

يقول نور في رسالة إلى مراد “إنّ النّكبة يا صديقي هي النصب التذكاري للمحرقة”، ويُخبره أنّه بات يكره الشّجر فتحت كلّ غابة هناك مقابر جماعيّة للقرى التّي قتل الاحتلال أهلها، ويُخبرنا عبر الرواية أنّ التشجير وحفريّات التنقيب ليست إلّا محاولات الاحتلال الدّائمة لتلميع صورته، والقائمة على طمس معالم شعب أُبيد بتطهير عرقي ممنهج.

 البنية الرّوائية ركيكة بعض الشّيء، وتوحي أنّها كُتبت على عجل، حتّى أن حبكة الرواية تحمل مواطن ضعف، فقصّة مريم المجدليّة تبدو كأنّها أقحمت على نحو غير مدروس وغير مُنسجم مع البنيان الرّوائي، حالها كحال الاقتباسات من الإنجيل التي بدت مصطنعة وغير متشابكة مع الأحداث. وبدا السرد سطحيًّا في بعض المواقع بحيث لم يستطع الكاتب التعمق وبناء الشخصيات بطريقة تصاعديّة تُعمّق علاقتنا بها، والنهاية أيضًا تندرج ضمن السياق نفسه، حتّى أن اللّغة نفسها بدت نمطيّة أو غير متمكّنة في أحيان قليلة، لكنّ الكاتب المعتقل في ريعان شبابه يُبرّر ذلك، وجهوده تقدّر لا سيما وأنه استطاع تصّور العالم الخارجي ومنحه ملمسًا واقعيًّا حميميًّا بينما ما يزال يقبع خلف القضبان حتى الآن.

يُقال إنّ هذه الرّواية هي الجزء الأوّل من رباعيّة المرايا التّي يعتزم خندقجي إصدارها، وعسى أن يتمكّن الكاتب من صهر خطوط سرده وتشذيبها في الأعمال اللّاحقة خاصّة في ما يتعلّق بحضور مريم المجدليّة.

وبعيدًا عن شخصيّات الرّواية، يُطلعنا هذا العمل على باسم المثقّف الفلسطيني، الذّي لا يُوفّر جهدًا ليتحرّر بالمعرفة والعلم؛ ثقافة باسم تتبدى في معظم صفحات الرواية، فهو الدّاري بعمليّات التّنقيب الأثري في الأراضي المقدّسة، ودهاليز العلاقة بين الكولونياليّة والصهيونيّة، القارئ للأدب العالمي، المتبحّر في أعمال إدوارد سعيد وغيره من الكتّاب المرموقين، وهو الذّي يبنى روايته انطلاقًا من رواية دان براون “شيفرة دافنشي” وكتاب “الدم المقدّس والكأس المقدّسة” لميشيل بيجنت، يستشهد برواية “أولاد الغيتو” لالياس خوري تارة، وبالأناجيل القانونيّة والإزائيّة طورًا، فتظهر ثقافته العالية وقراءاته وكتاباته، وفيها كلها نجده يحاول الإنعتاق وهزيمة سجّانيه ومحتلي أرضه برغم إمعانهم في تزوير التاريخ وتهشيم الجغرافيا؛ نعم، يهزمهم بصموده وتمسكه بهويّته برغم قدرتهم على القتل والبطش والأذى والتدمير، تماماً كما يفعلون في أيامنا هذه، وطوال ستة أشهر متتالية، على أرض غزة.

تتواتر الحوارات بين شخصيتي أور ونور، لتُدلّل على صراع الهويّة الذّي يعيشه نور بينه وبين نفسه، والذّي يزداد عند انتحاله شخصيّة أور الصّهيوني، ويتعاظم هذا الصّراع ويدخل نور في دوّامة كراهية لذاته عند تعريف سماء في الورشة عن نفسها بأنّها فلسطينيّة من حيفا برغم حملها هوّية إسرائيليّة زرقاء تمقتها

حُكِمَ على باسم خندقجي في تمّوز/يوليو 2005 بثلاثة مؤبّدات، وتعتزم إسرائيل إبقاءه في السجن مدى الحياة بعد اتّهامه بالمشاركة في «عملية سوق الكرمل»، ولاعتبارات عديدة تستحوذ رواياته على الكثير من الاهتمام والتّعاطف ومنها رواية “قناع بلون السّماء” التي نالت إقبالًا واهتمامًا مُضاعفًا من الجمهور العربي بسبب الإبادة الجماعيّة التي نشهد فصولها يوميًا في غزّة، فهل تأثّر وصول الرواية إلى القائمة القصيرة للرّواية العربيّة في شباط/فبراير الماضي بالمشهد الفلسطيني؟ وهل سيرفع ذلك من حظوظ فوزها بالجائزة في الثامن والعشرين من نيسان/أبريل المقبل؟ أمّ أنّ الإسقاطات السياسيّة ستمنحها شرف الوصول دون حظوة الفوز؟

يُذكر أن لجنة التحكيم الخماسية لجائزة “البوكر” (الجائزة العالمية للرواية العربية) قد إختارت ست روايات هي “قناع بلون السماء” للروائي الفلسطيني باسم خندقجي، “مقامرة على شرف الليدي ميتسي” للكاتب المصري أحمد المرسي، “الفسيفسائي” للكاتب المغربي عيسى ناصري، “خاتم سُليمى” للكاتبة السورية ريما بالي، “باهبل مكة” للسعودية رجاء عالم و”سماء القدس السابعة” للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة.

Print Friendly, PDF & Email
حوراء دهيني

كاتبة لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  الصحافة العبرية: تردد إسرائيل لا يبني ردعاً مع حزب الله