إغتراب الإنسان عن ذاته: كيف جرّدتنا الرأسمالية من مشاعرنا الطبيعية؟

لماذا نتعاطف؟ وهل يوجد وقت أصلاً للتعاطف في ظل عصر السرعة المُكلّل بأعمدة تعلوها ساعة تقديس الوقت؟ ومنذ متى كانت ساحاتنا فيها ساعات؟ ومنذ متى كانت الساعة تحكم العرب؟

السؤال في البداية يجب أن يُوجّه إلى كل واحد منا: هل نُدرك دورنا وقيمتنا في هذا العالم؟ هل نعيش حالة من البؤس إلى حد أننا نرضى بالذل يُوزّع علينا بالتساوي؟ هل نُحاول أن نعيش ونتعايش مع “الوقائع” بلا أي دور فاعل نلعبه مخافة أن ننال نصيبنا من المجازر والإبادة؟

لا بأس من التطرق أولاً إلى عنوان هذه المقالة، أي إغتراب الإنسان، وهو بحسب الفيلسوف المكسيكي ـ الإسباني لويس فيورو، يحمل في طيّاته ستة تفسيرات رئيسية:

  • العجز: أي الشعور بأن الإنسان لا يملك مصيره بيده.
  • اللامعيار: أي عدم الالتزام بالمعايير السائدة.
  • العزلة الثقافية: أي الإنفصال عن قيم المجتمع.
  • العزلة الإجتماعية: أي الشعور بالوحدة.
  • اللامعنى: شعور الإنسان بأن ليس للحياة أي معنى أو هدف.
  • الغربة الذاتية: انفصال الذات عن عمقها وطموحاتها وأهدافها.

في حالات التطور والتفاعل التاريخي الطبيعي، يتضامن الضحايا مع بعضهم البعض، ولا سيما أولئك الذين يتشاركون الآلام والآمال نفسها، وأحياناً العدوّ نفسه، لكن في حالة معظم المواطنين العرب، صاروا صفريين بلا انحيازات ولا مشاعر ولا قبضات أو صرخات. يمكن أن يكون ذلك جرّاء هذا الخوف المتربص بهم، في حال أرادوا أن ينظروا إلى ما يحصل من حولهم وأن يتخذوا موقفاً يتناسب وبديهيات يُفترض أن يتحلى بها “المواطن العربي”. لكن هل بات المواطن العربي بعد عقود من التدجين والإستبداد يخشى أن يكون جزءاً من صراع كالذي نشهده منذ أكثر من سبعة أشهر على أرض فلسطين، حتى بات، وفي كثير من الأحيان، مجرد ذكر اسم فلسطين من المحرمات حتى في مهرجانات الرقص والغناء التي تكاد لا تفارق يوميات المواطن العربي؟

في الواقع، لقد تخطّينا كبشر كل الضوابط والطبائع والإنحيازات الطبيعية. حطّمنا كل دورة التاريخ وقالب الزمن الدائري، فما تركته الثورات الخمس الأوروبية، علمياً وتعليمياً وفكرياً وثقافياً، وما نقشته عولمة ما بعد الحداثة على قبر الزمن والتاريخ بإعدام اليقين وإبطال الأكيد، كل هذا جعل الإنسان وبعد كل هذه القرون يقف ضائعاً أمام كل هذه السرعة الفتّاكة التي حوّلته من إنسان إلى آلة تُحرّكها أيادٍ، سواء أكانت خفية أم ظاهرة.

***

لقد نقلتنا الرأسمالية، من مجتمع متكاتف متعاضد نكن فيه الإحترام لصاحب الأخلاق والضمير والأمانة إلى مجتمع علينا أن نحترم فيه صاحب القوة والمال والسلطة والنفوذ، حتى صار كل ما دون ذلك مجرد كائن – ربما قد يحظى بأن يكون حيّاً – ولكنه ليس إنساناً. بات هذا الكائن يخاف على وجوده، فإن اعترض خسر مصالحه، وإن خسرها سيموت من الجوع أو تلاحقه الكآبة في عالم القرن الواحد والعشرين أو عصر الإستعباد الحر والسعادة البائسة.

***

بمجرد رصد ما يملكه الصهاينة من شركات ولوبيات وقوى ضاغطة تتحكم باقتصادات العالم وبنا؛ وبمجرد احتساب موازنات الشركات الكبرى وأعداد موظفيها ومقارنتها مع دولٍ بأكملها، نجد نفسنا أمام معادلة بسيطة: إما المضي قدماً في عملنا مع ازدراء كامل للمشاعر الإنسانية التي تقتضي منا رفض كل أشكال التمييز أو أن نواجه هذه اللوبيات والشركات مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من خسائر محسوبة. مثالٌ على ذلك، ألغت شركات كبرى تعاقداتها مع مشاهير أعلنوا تضامنهم مع الشعب الفلسطيني أمثال الممثلة اللبنانية الإباحية السابقة ميا خليفة أو على غرار ما فعلته أندية أوروبية من فسخ عقود لاعبين انحازوا فطرياً وانسانياً وطبيعياً لفلسطين، أمثال النجم الواعد يوسف عطال الذي حكمه القضاء الفرنسي بعقوبة السجن.. والأسوأ من ذلك كله، إلغاء شركات إنتاج فنية عربية عقوداً ومشاريع مع فنانين لأنهم تضامنوا مع فلسطين أمثال الفنانين المصريين محمد سالم ومحمد إمام (الأخير أثناء استلامه جائزة في مهرجان “جوي أواردز” نيابة عن أبيه).

في المقام الأول لمقاومة الصهيونية، وُضع بنو البشر في موقف يقتضي منهم الإختيار: العمل أو الطرد؛ المال أو الإفلاس، الحرية أو السجن. وهكذا تكون الرأسمالية قد حققّت أهدافها الإستغلالية بالسيطرة على الشعوب ومقدراتها وعقولها.

***

دعونا نتطرق الآن إلى النقطة الأهم التي تسمّى بـ”رضاعة الإلهاء” التي باتت تلاحقنا بل تشكل جزءاً من يومياتنا وأكثر وتتمثل بإحاطة البشر بوسائل التسلية والترفيه ونشر الأخبار المضللة والمُشتتة والتركيز على المواضيع الفنية والغنائية ووضع حياة المشاهير في العلن لإلهاء الناس، بالإضافة إلى التسلية الرياضية.

لقد وضعت الرأسمالية أمامنا كماً هائلاً من الأفيون الإلكتروني المخدر إلى أن فقدنا التواصل الحقيقي مع محيطنا وتفاعلنا مع حياتنا الحقّة. فكل منا يدخل عالمه الإلكتروني الذي يُخوّله الإنعزال عن محيطه، عاطفياً وجسدياً، في ظل هذا النظام الوظيفي البائس الذي قُدّم إلينا لكي يخلع عنا رداء الإنسانية والعقل، وبالتالي حتى محاولة الإستفادة من هذه المواقع قد لا تصل لنتائجها المرجوة كاملةً، ذلك لأن الإنسان سيسأم من مشاهد الدمار والألم وسيفضل البحث عن ترفيه ينسيه بؤسه الحتمي، والدرجة الأعلى من اللامبالاة تمتثل بـ”الإعتياد”.

إقرأ على موقع 180  الزلزال الإماراتي - الإسرائيلي: تهويد المشرق والخليج!

***

في صميم حضارتنا ثمة فجوة ما بين الفكر والممارسة؛ هل الوجودية الأوروبية توازي الوجودية العربية؟ هل ما عاشه الأوروبي وما حقّقه ووصل إليه يجعله يفكر ويقارب من ضمن منظومة مفاهيم مغايرة؟ هل يتطابق مع ما عاشه العربي؟ أو حتى ما يطمح إليه؟

صار الإنسان العربي عربياً فقط بلغته إذا حافظ عليها، لكن منظومة ثقافته مستوردة بمعظمها من الغرب، حتى صار وهو في بلاده جزءاً من منظومة استهلاكية أممية، الأمر الذي يجعله فعلياً خارج الزمن والحضارة. لم نعد عرباً ولم نصبح عجماً. وبالتالي محاولات الإبتعاد عن الصراع أو القضية هي محاولات عكسية نابعة من ذواتنا الضعيفة الخائفة من ملاقاة المصير أو فقدان الطموح بحياة أفضل أو محاولة لإرضاء أطراف جهلوا أكثر منهم فباعوا روحهم وأرضهم أملاً بأن تجعلهم ملتقيات التجارة ومهرجانات الترفيه ومعارض التكنولوجيا في مصافي الدول ذات القرار، غافلين أنه في هذا العصر تكمن القوة في المقارعة والمواجهة الإقتصادية والإجتماعية والفكرية، لا بالتعاون المبني على المصالح الإقتصادية غير المتكافئة في الجوهر والمردود المعنوي والمادي.

***

تحت شعارات “الحرية” و”الأخوة” و”العدالة” و”التسامح” و”السلام”، اجتمعت “رؤوس” الدول الكبرى لكي تقول أولاً لكل عائلات المال، وثانياً لكل الشركات المصالح وثالثاً لكل لوبيات الأسلحة والفكر: أمركم مطاع.

لقد تجرّدنا على مدى خمسة قرون من هويتنا الإنسانية ومن شخصيتنا ووجودنا. كنا في حسابات الإمبراطوريات الكبرى دافعي ضرائب وفي بعض الأحيان مجرد قوى محاربة أو يداً عاملة زراعية وبالتالي فقدنا اسهامنا في الحضارة وفي الركب العالمي وحتى في لعب دور محوري أقلّه بين دول المنطقة والجوار. وهذا ما يدفع العرب ثمنه من دمهم وحياتهم.. وها نحن هنا في آخر الصفحات نطويها على فقداننا أغلى ما يميز ويظهر إنسانيتنا كبشر وهو التّعاطف. لقد استبدلت الرأسمالية كل القيم بقيم الإنتاج والإستهلاك والفردانية وقد أخذت هذه القيم أفضليتها على ما عداها. وبالطبع القيم هي شيء جماعي ينبع من الروح العصبية للمجتمعات، فكيف إن دخلت قيمة الفردانية، ماذا سيحلّ بالجماعة؟

***

لقد أصبحنا في صلب العالم الرقمي وحضارته من دون أن نساهم به، وبالتالي استلب منا عقلنا وأصبحنا متأثرين دون إدراكنا المباشر بالمصنعين والمصدرين، فهم ينشرون ما يريدون منا التأثر به.

لنا أن نتخيّل بأن الحيوانات فقدت طبيعتها بعد تدخل الرأسمالية باللعب بجيناتها إلى جانب النباتات وبالتالي فقدت طبيعتها وفطرتها. وها نحن الآن نرى إنسانيتنا تفقد وتسلب وتصبح تهمة في هذا العالم الفرداني الرقمي الجاف والبارد. حتى العلاقات الإنسانية التي نعيشها بين بعضنا البعض لم تعد ولن تعود كما كانت ولن تمثل كلمة “مجتمع”. أصبحت أغلب العلاقات تتسم بالنزعة الفردية والذاتية، حتى أن أعمقها أصبح من خلف الشاشات والأضواء المصطنعة. أصبحت حياتنا مألوفة ومعاشة وتجربتنا خالية من التجدد والإندهاش والدافع..

إن ما يحصل في نفوس البشر يضرب صميم معنى الإنسانية، فكيف لنا بأن نرى بأنه في عصر الأمم المتحدة والأفكار المثالية في العلاقات الدولية والدعوة للمساواة والتآخي بين البشر بغض النظر عن جنسهم وميولهم واعتقاداتهم واثنياتهم نرى بقعة من العالم أوهمنا الغرب بأن اسمها زوراً هو الشرق الأوسط وشمالي افريقيا وذلك لفصل شطرين من أراضي قوم لطالما كانت دولتهم واحدة عبر التاريخ وزرع قاعدة عسكرية لهم بين هذين الشطرين تمثل النفوذ والسطو على الشرق، على هذه البقعة الجغرافية من العالم يتم قتل الأطفال والنساء وتهدم البيوت ويتهجر أهلها سواء في لبنان أو فلسطين ولا يعبر عالم “انهاء الصراعات بالطرق السلمية” عن رفضه القاطع للممارسات اللاإنسانية.

***

في رواية المهلهل بن ربيعة “الزير سالم” يمكن وصف وصية أخيه إليه كما قالها الشاعر أمل دنقل بعبارات: “لا تصالح، واروِِ قلبك بالدم، واروِ التراب المقدر، واروِ أسلافك الراقدين إلى أن تجيب العظام”. وبالتالي عدنا إلى الأحقاد والعنف والذي سيملأ قلوب كل من تعرض للإعتداء والظلم ورأى أخاه أو شقيقه في الإنسانية يقف صامتا متواطئاً أمامه. العصر القادم هو عصر الطحن وغياب المشاعر.

الفكر والشخصية هما أمران متوارثان وينتقلان بين الأفراد جينياً وتربوياً، فحتى الأطفال يتأثرون بالتجارب غير المعاشة وذلك يدخل ضمن خانة الوعي الجماعي والذاكرة الجماعية للمجتعات. أخشى بأن تبدأ أجيالنا القادمة من الصفر وأن تغيب فيها خاصّية الإنتقال والتوارث المعرفي لصالح عالم المعرفة الرقمي غير الإنساني.

ما كتب ليس دعوة للعنف، ولا دعوة للتخلي عن العالم الرقمي ولا حتى يسعى لتقليل أو إظهار أفضلية شعوب على سواها، ولا حتى دعوة قومية أو عرقية، هو فقط توصيف لواقع عربي معاش بالتشارك مع دول ما يعرف بعالم الجنوب.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عندما تصبح الإنسانية حكراً على الأغنياء!