انتصر الدكتور نزار دندش للطبيعة. أطلق في كتابه ـ بين أيدينا ـ أحكاماً قاسية بحق بني البشر بتهمة الجور والنهب وقلة الوفاء مع أمهم الأرض، فأقام ميزان العدالة، وأمسك بمطرقة فاصلة لإقامة الحد بين نقيضين متلازمي الحق بالجوار: الإنسان والبيئة.
***
من خلال عنوان كتابه الجديد، نلمس انحياز نزار دندش للبيئة من خلال توصيفه المدنية بالتوحش والخداع، مُعللاً الأسباب والأدلة (الإنسان يستعمر الأرض، مجازر بحق الكائنات الحية، عبودية جديدة تلوح في الأفق إلخ..)، قدّم لنا الكاتب سيرة كوكب الأرض جيولوجياً، وسيرة الإنسان البيولوجية وباقي الكائنات الحية، بأسلوب الروائي، القلِق في استيلاد الأسئلة والتساؤلات.. وسواء اقتنعنا أو أقنعنا بقوة الحجج التي قدّمها في سياق النص، فإننا حصلنا مجاناً على كمٍّ واسع من المعلومات، وسيكون على كُل من يقرأ هذا الكتاب مغادرة مساحة اللاموقف بين المُعتدي والمُعتَدى عليه، وبالتالي الانحياز إلى الطبيعة وكائناتها الحيوانية والجامدة وصخورها الناطقة، استنكاراً لهذا القتل المقيم في بنية غالبية الجنس البشري؛ وما نراه من إجرام غير مسبوق في حرب الإبادة التي يشنها العدو الاسرائيلي على قطاع غزة والضفة الغربية، ما هو إلّا مصداق لما نراه بالبث المباشر للقتل العاري وارتكاب المجازر بعقيدة توراتية ـ صهيونية ـ احتلالية ـ استيطانية ـ احلالية على أرض فلسطين.
***
يُقنعنا نزار دندش أن الذرات والهيدروجين والآزوت وثاني أوكسيد الكربون والثقوب السوداء، كل هذه العناصر الكيميائية هي فينا نحن البشر. صفحةً تلو صفحة، نستطلع معه تركيبتنا؛ نقارن بين ما فينا، وما في امتداد الكون، حتى أنه أدخل الجماد للفت انتباهنا إلى احتمالية هذا التشابه بين تركيبته وتركيبة الإنسان. هو تفسير علمي لاحتمالية هذا التشابه، يجعلنا نُرخي بتفسيرنا السوريالي هنا، ففي الواقع – للأسف – جمود التطور الاجتماعي يوازيه تجمُّد الوعي الإدراكي لدى شرائح في مجتمعنا الضيق والواسع. جماد الدهشة الأولى المولّدة للإبداع والابتكار والنماء والتطور والتغيير. جماد/تجمّد المشاعر الإنسانية في ما نعيشه من غياب الضمير وانعدام الحس الإنساني. في ما نراه ورأيناه من مشهد الدعم المتمادي من دول الغرب وأنظمته لهذا القتل الجماعي في غزة، إلّا من أصحاب ضمائر لم يبخلوا بإنسانيتهم، (انتفاضة الضمير لدى شرائح واسعة من طلاب وأساتذة جامعات الدول الغربية/ أو من دول عانت الظلم العنصري كدولة جنوب أفريقيا التي هبّت لنصرة الشعب الفلسطيني في غزة فلجأت إلى محكمة العدل الدولية، أو من دول أوروبية قرّرت أن تعلن اعترافها بدولة فلسطين).
***
يذكر نزار دندش “أن الإنسان كائن أناني يبخل على شركائه من الكائنات الحية”، ما يجعلنا نستحضر في مخيلتنا أهوال المذابح المتبادلة بين أنانيات هذا الإنسان. ويتركنا نستدعي الشفقة على أنفسنا كبشر، ونحزن لوجود تلك الكائنات الأخرى الحية في ديار البشرية الممتدة عبر الزمن، لوجودها مادة مستساغة سهلة الافتراس من أنانيات الفرد البشري المخلوق من نواة الطمع. “وهل من أطماع أبشع وأكثر تجسيداً لهذا الطمع مما ترجمته الأنظمة النيوليبرالية/الرأسمالية التي نهبت ثروات شعوب الأرض أينما استعمرتها”؟ وإذ يقول إنه يجهل أسباب العدوانية في نفوس الإنسان، فإنه يستدرك ويعطينا التعريف الأوفى لهذا الإنسان عندما يتساءل من هو هذا الإنسان، فيكتب “إنه أرقى الكائنات القاتلة على كوكب الأرض”.
***
إذا كان عنوان الكتاب “البيئة والإنسان – من براءة البدائية إلى وحشية المدنية المُخادعة” يختصر المشهد الإنساني، يستنكر دندش وحشية المدنية المخادعة، فيصف بني البشر بأنهم مثل “الذرات التي هي موجودات لا عواطف لها ولا مشاعر ولا أحاسيس”، مع ميله إلى “وجود دلائل على وجود ملامح حياة في كل ذرة”. كما يُعالج الترابط بين الإنسان والبيئة، موازناً بين العلمي والوجداني، فالكلمة عنده رقيقة في توصيف خذلان الإنسان للطبيعة، “لأن الطبيعة لا تكذب” كما يقول، عكس ما هو عند الكثير من بني البشر. ويسأل: هل مجتمعنا صورة عن الكون؟ وجوابه نعم، ونحن نوافقه، فالأجسام الضخمة تجذب الأجسام الأضعف في الفضاء.. فهل من صورة أبلغ دلالة عن تراتبية العلاقات البشرية بعضها ببعض حيث القوي يأكل الضعيف رافعاً شعارات حماية حقوق الإنسان!
***
الطبيعة، حسب نزار دندش، لا تكذب، ولكن تاريخ البشرية مليء بأكاذيب القوي على الضعيف، وكتابة التاريخ والأحداث تبدأ من هنا.. (ألم يحشد الغرب القوي قواه لدعم إسرائيل؟ ألم تخذلنا بصمتها المريب جمعيات ما يسمى بحماية حقوق المرأة والطفل والإنسان؟ ولماذا بلعوا ألسنتهم وبارت بياناتهم إزاء ما يتعرض له أهل غزة، نساء وأطفالاً ومُسنين، من استباحة اجرامية لا مثيل لها)؟
يتضمن الكتاب إثني عشر فصلاً، وقدّم له رئيس اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة (العراق) الأكاديمي والناقد الدكتور سليمان كاصد فكتب: “يُقدّم لنا عالِم الفيزياء والكشوفات البيئية والعلمية الجديدة الدكتور نزار دندش ما يدهشنا في كتابه هذا، وهو خلاصة تاريخ الأرض والإنسان متخطياً بل مضيفاً لمعرفته في الرياضيات والفيزياء اللتين اختص بهما في أطروحته في النظرية النسبية وعلم الفلك، وما أردفها لاطروحته الثانية عن فلسفة العلوم والبيئة”.
وقبل أن يُعلن أشباه الدكتور دندش انحيازهم لوجهة نظره ولا سيما لجهة تصحيح العلاقة بين الإنسان والطبيعة، نتمنى عليه تكرار هذه الدعوات وإقامة الصلوات لتصحيح العلاقة بين الإنسان وذاته، ثم بين الإنسان وأخيه الإنسان.
أما ما العمل؟ كما يسأل في ختام كتابه، فإننا نأمل أن نقرأ الجواب في إصدارٍ جديد له، خاصة وأنه طرح السؤال المثير للقلق في حياة البشرية: هل سيتفوق الذكاء الآلي (الاصطناعي) على الذكاء الطبيعي كما تُروّج شركات انتاج “الروبوتات”؟ ويجيب حاسماً بـ”لا كبيرة”.. مُعلّلاً الأسباب.. وكلها جديرة بالتأمل والتفكير، مثلها مثل هذا الكتاب الذي يستحق أن يكون في صدارة مكتباتنا الشخصية والعامة.