ببساطة، استخدم البيض الأبيض شعار «الشراكة التكنولوجية الاستراتيجية» بشكل رمزى. لكن الهدف الحقيقى من هذه الزيارة هو تسريع اندماج الهند فى استراتيجية إدارة بايدن لآسيا والمحيط الهادئ، بعد فوز مودى بولاية ثالثة، حيث تغير الكثير لصالح الولايات المتحدة فيما يتعلق بميزان القوى خلال الستة أعوام الماضية. أولاً، حققت إدارة بايدن نجاحات كبيرة فى رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). ثانياً، وضع نظام جديد من التحالفات المكملة لبعضها البعض للاستعداد للمواجهة الحتمية مع الصين، وتضم هذه التحالفات نيودلهى بقيادة مودى شريك لا غنى عنه.
فى سياق متصل، ستكشف هذه الزيارة لسوليفان موقف نيودلهى من التطورات المضطربة الناتجة عن المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا مؤخرًا. إضافة إلى التحقق من مدى مصداقية الخطاب القومى للنخبة الحاكمة الهندية.
***
معلومة أخرى، أصبحت الهند الدعامة الأساسية للاقتصاد الروسى بسبب شرائها كميات كبيرة من النفط الروسى. وهذا ليس فى مصلحة الولايات المتحدة ــ على الرغم من أنه يساعد فى إبقاء أسعار النفط «منخفضة». أفاد بنك بارودا الهندى أن واردات البلاد من النفط الروسى ارتفعت بمقدار عشرة أضعاف فى عام 2023. وقد نجحت روسيا فى تجاوز الحظر الذى فرضه الاتحاد الأوروبى على النفط الروسى المنقول بحرا، والحد الأقصى للأسعار الذى فرضه الغرب من خلال إعادة توجيه معظم صادراتها من الطاقة إلى آسيا ــ وخاصة إلى الهند والصين. ووفقا لوزارة المالية الروسية، ارتفع الدخل من صادرات الطاقة بين يناير وأبريل بنسبة 50% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023.
***
على صعيد آخر، تعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة بمثابة نكسة كبيرة لحزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم ومودى شخصيا. ومع ذلك، هناك شعور بالابتهاج فى التعليقات الغربية، التى تقدر أن الانتخابات قللت من «مكانة مودى كرجل قوى منتخب يحمل رسالة من الله».
ويرى الخبراء فى مجلس العلاقات الخارجية فى نيويورك أن مودى سيقود «ائتلافا هشا» وسيواجه قضايا اقتصادية واجتماعية صعبة ليس من السهل حلها.
وخلص تعليق مجلس العلاقات الخارجية إلى أن «التحدى الآخر يتعلق بعلاقات الهند الخارجية. لقد تاجر مودى وحزب «بهاراتيا جاناتا» على نطاق واسع بسمعته الشعبية وأوراق اعتماده كقومى هندوسى متدين يحمل رؤية جديدة للهند. لقد تعرض كل منهما الآن لانتكاسة.. ليس هناك شك فى أن مكانة مودى التى لا تُقهَر كزعيم لقوة صاعدة قد تضاءلت فى الخارج.
من المؤكد أن سوليفان سيبحث عن كل الفرص الممكنة لإدارة مصالح الولايات المتحدة من موقع قوة. فإن الولايات المتحدة تمقت سياسات «الرجل القوى»، وخاصة فى الجنوب العالمى. ومن هذا المنظور، يمكن الوثوق بسوليفان فى تقييم مزايا الحكومة الجديدة لفتح المجال أمام الدبلوماسية الذكية. ومن دون أدنى شك، سوف يتم إدراج علاقات الهند مع روسيا على سلم أولويات هذه الزيارة.
***
هنا تكمن المفارقة. ففى نهاية المطاف، قد تحمل نتيجة الانتخابات الخير للعلاقات الأمريكية الهندية.
أولاً، تشكل الانتخابات دليلاً حيًا على أن الهند لا تزال دولة ديمقراطية نابضة بالحياة، وبالتالى، لديها الكثير من القواسم المشتركة مع العالم الديمقراطى الليبرالى ــ وهو الأمر الذى لا ترغب وسائل الإعلام الغربية فى الاعتراف به.
ثانيًا، قد تتحسن حالة حقوق الإنسان فى الهند، وقد تنتعش المعايير الديمقراطية مثل الصحافة الحرة. والأهم من ذلك، أن سياسات الدولة المناهضة للمسلمين قد يتم تجميدها فى ظل حكومة ائتلافية تعود إلى السياسات التوافقية من أجل البقاء فقط، إضافة إلى مواجهة مودى معارضة قوية فى البرلمان.
وكل هذا يعيد التوازن السياسى فى نيودلهى بعد عقد من الزمان؛ حيث أصبح حزب المؤتمر فى وضع يسمح له بالتشكيك فى سياسات الحكومة، واضطرار حزب «بهاراتيا جاناتا» الحاكم إلى تحمل المسئولية. فلا مكان لغطرسة حزب «بهاراتيا جاناتا».
ويكفى أن نقول إن مصدر القلق الرئيسى للعالم الغربى يتبدد ــ وهو أن الهند كانت تتجه نحو القومية العرقية وتقع ضحية للمخاطر المصاحبة لها المتمثلة فى التشدد والتطرف والاستبداد. وهذا من شأنه أن يساعد الخطابات الأمريكية الهندية على استعادة حيويتها.
فى التحليل النهائى، إن قرار بايدن بإرسال سوليفان إلى نيودلهى عقب ظهور نتائج الانتخابات العامة يُظهر مدى رغبة الولايات المتحدة فى عودة الهند إلى المسار الصحيح كحليف طبيعى لها. بالنسبة لإدارة بايدن، يعد مودى من أكثر القادة «المؤيدين لأمريكا» فى الهند على الإطلاق. لذا ستفعل واشنطن كل ما هو ممكن وضرورى لدعم استقرار «حكومة مودى» الجديدة.
خلاصة القول، إن الرسالة التى ستحملها زيارة سوليفان ليست فقط للجمهور الهندى ولكن أيضًا لخصوم الولايات المتحدة فى الصراع التاريخى على النظام العالمى الجديد ــ ومفادها أن إدارة بايدن تولى أهمية كبرى لتكوين تحالف قوى ودائم مع الهند.
ولتحقيق هذه الغاية، فإن واشنطن على استعداد لتعزيز يد مودى فى توجيه ما يبدو وكأنه حكومة ائتلافية هشة تنطلق فى رحلة غامضة عبر المياه المتلاطمة ــ بشرط أن يحافظ الجانب الهندى أيضا على التزاماته تجاه أمريكا بطبيعة الحال.
(*) بالتزامن مع “الشروق“؛ النص الأصلي في مجلة “اوراسيا ريفيو” (للدبلوماسي الهندي السابق إم. كي. بهادرا كومار).