سال حبرٌ كثيرٌ حول بورتريه المثقف الكولونيالي، وملامحه النفسية التي يحكمها إحساس عميق بالدونية.. وحول التشوهات الناتجة عن كل ذلك ولعل كتابات الدكتور فرانز فانون وعالم الاجتماع اليهودي التونسي ألبرت ممي أفصح من حدّد سمات وملامح هذه الشخصية المستلبة ثقافياً وبخاصة في كتابه “صورة المستعمَر” بفتح الميم (Le portrait du colonisé) وهو كتاب، كما هو عنوانه، يصف ملامح هذه الشخصية الكولونيالية المستلبة في علاقتها مع السيد المستعمِر، ولكنها في الآن نفسه تعمل على تقليده وتقمص دوره.. فترى الفرنكوفوني العربي يقوم بالأدوار الثقافية نفسها التي يقوم بها المستعمر.
من خلال هذه الملامح يتبدى تعالي وتعالم الكثير من مثقفي الفرنكوفونية العرب إزاء زملائهم من المثقفين أحادي اللغة، أو حتى المتأثرين بالثقافة الأنجلوسكسونية، أي الذين تلقوا ثقافتهم وعلومهم باللغة الانكليزية خارج العالم الثقافي الفرنسي المغلق والمتعالي هو أيضاً على بقية الثقافات الغربية الأخرى. فما بالك بثقافات الحضارات والشعوب غير الغربية. وكيف لا وقد اعتمد الفرنسيون نفس سياسة التبشير المسيحية في نشر لغتهم وثقافتهم ومبادئ ثورتهم لدى مثقفي أوروبا أواخر القرن التاسع عشر.. بل إن حروب نابليون بونابرت وغزواته داخل القارة العجوز كثيراً ما تخفت وراء مبدأ أخلاقي، وهو نشر بل التبشير بمبادئ الثورة الفرنسية التي حدّدت لنفسها مبادئ عالمية (universelles).
وهكذا كان نابليون الأوروبي الوحيد المفرد من غزا بلدان أوروبا الغربية، ودفع بجيوشه إلى استعمار إيطاليا واسبانيا وبلجيكا وهولندا. هو استعمار لا يقتصر على احتلال الأراضي وإنما يتعداها إلى احتلال العقول، وإلغاء ثقافة ولغة الآخر. وكل هذا لا يتم سوى بالعنف المادي والمعنوي.
***
إنّ المثقف الفرنكوفوني المتخرج من المدرسة الاستعمارية، الذي أُنسي لغته وثقافته، وتحوّل إلى مجرد انسان منزوع الهوية، تراه يُعيد لا شعورياً تقمص دور المستعمر فيتعالى على بقية مواطنيه ويتعامل معهم بفوقية واحتقار ويُنصّب نفسه مبشراً بحداثة هي في جوهرها عملية قص لصق (راجع خطب الحبيب بورقيبة في ستينيات القرن الماضي).
وهكذا كان موقف طاهر بن جلون من حركة حماس التي تُعبّر في رأيه عن بربرية، واستعمل بربرية وهو اللفظ نفسه الذي جاء في خطاب الرئيس الفرنسي جول فيري (JULES FERRY) أمام البرلمان الفرنسي في ربيع 1881، إبّان الحملة الفرنسية على تونس، عندما قال “ذهبنا لأداء مهمة تحضير هذه الشعوب المتبربرة”. كما أنّه (بن جلون) يتحدث في حوار أخير بكثير من الاحتقار عن ناقلي كتبه إلى اللغة العربية، وأنهم لم يفهموا مقاصده، وأنهم كثيراً ما يقعون في أخطاء تدل على عدم فهمهم للغة الفرنسية.
وهذا يُذكّرني بالكثير من مواقف المثقفين التونسيين والجزائريين والمغاربة المعادية للعروبيين، ومعركة بورقيبة في محاربة الزيتونة والزيتونيين التي عرفت أوجها في الستينيات حيث مُنِعَ خريجو الزيتونة من التوظيف في الإدارة وعوملوا كمثقفين من الدرجة الثانية.
***
التقيت في فرنسا وفي كندا بمثقفين فرنكوفونيين من بلاد مختلفة، من تونسيين وجزائريين ومغاربة ولبنانيين وأفارقة، ووجدت كثيراً من التشابه ومن القواسم المشتركة في موقفهم النفسي وفي احساسهم اللاواعي بالدونية إزاء المستعمر وفي تعاطيهم المرضي مع الأنا ومع الآخر؛ ذاك التعاطي المبني على مفارقة هي كالتالي: إحساس قوي بالدونية وباحتقار الذات إزاء الثقافة الفرنسية والغربية اجمالاً، وفي الوقت نفسه، إحساس لا يقل عنه قوة بالتعالي إزاء شعوبهم. يسري ذلك على حالة مثقفي الفرنكوفونية المغاربة (من تونسيين وجزائريين ومغاربة) إزاء بقية العرب. نفس هذا الموقف النفسي الثقافي تلقاه في لبنان، حيث تجد كثيراً من المثقفين الفرنكوفونيين اللبنانيين يُعاملون بقية النخب ذات اللسان العربي بحس من التفوق والتعالي الكولونيالي.
وقد لاحظ علماء النفس موقفاً يتضمن مفارقة هي كالتالي: فرنسا بالنسبة للفرنكوفونيين هي المثال والعدوّ!
سألت يوماً هشام جعيط وهو من أساتذة التاريخ، عاش تجربة الثقافة والفكر والكتابة في إطار اللغة الفرنسية، ولم تتشكل تجربته الثقافية في إطار اللغة العربية.
سألته: أنت، كيف تُحدّد نفسك؟
أجاب بكل شجاعة: في فرنسا أعتبر نفسي تونسياً عربياً، وفي تونس شيئاً آخر.
أي أن هويته تتحدد كرد فعل، وليست كهي هي، لا يعرفها بذاتها.
وموقف القبول والرفض هذا للثقافة الفرنسية لدى الفرنكوفونيين عبّر عنه كاتب ياسين بما دعاه تراجيديته اللغوية والنفسية في احساسه بالذنب الذي حاول التخفيف منه بقوله كانت اللغة الفرنسية غنيمة حرب لدينا والحال أن الفرنسية وبكل بساطة كان قد فرضها عليه الاستعمار، وفي الحقيقة كان هو غنيمتها.
***
التقيت في فرنسا وفي كندا بمثقفين فرنكوفونيين من بلاد مختلفة، من تونسيين وجزائريين ومغاربة ولبنانيين وأفارقة، ووجدت كثيراً من التشابه ومن القواسم المشتركة في موقفهم النفسي وفي احساسهم اللاواعي بالدونية؛ ذاك التعاطي المبني على مفارقة هي كالتالي: إحساس قوي بالدونية وباحتقار الذات إزاء الثقافة الفرنسية والغربية اجمالاً، وفي الوقت نفسه، إحساس لا يقل عنه قوة بالتعالي إزاء شعوبهم
وباستثناء مثقفي وكتاب مقاطعة كيبيك الذين تختلف طبيعة علاقتهم بفرنسا؛ فهم ليسوا أبناء مستعمرات ذوي ثقافة مغايرة، ممن ضارَّه الاستعمار الثقافي في هويته ولغته وحمل في أعماقه جروح التاريخ. وإنما هم فرنسيون هاجروا منذ القرن السابع والثامن والتاسع عشر إلى العالم الجديد، وهم يتكلمون لغة فرنسية قديمة شبيهة بلغة فولتير كما يقولون عن أنفسهم، وهي اللغة التي كانوا يتكلمونها لحظة هجرتهم للعالم الجديد. وهكذا تطوّرت لغة عصر فولتير الفرنسية في كيبيك مستقلة وبعيداً عن المركز الباريسي. وحافظت بالتالي على كثير من خصائص لغة القرن الثامن عشر. وبرغم ذلك، هم في صراع مستمر مع المركز الباريسي، كما أعلمني الشاعر الكندي فرنند واليت في حوار أجريته معه ذات سنة في مونتريال؛ وكذلك الشاعر الكندي الآخر غاستون ميرون، وهو أحد زعماء الحركة الاستقلالية وقد ظلّ ذات ظهيرة في شقته الباريسية في شارع فوجيرار على مرمى حجر من ساحة السوربون يشرح لي الفروق بين اللغة الفرنسية في فرنسا، أي في المركز، وبين فرنسية مقاطعة كيبيك المستقلة بخصائصها الصوتية والدلالية عن اللغة الفرنسية كما هي اليوم في فرنسا، وظلّ يُخرج لي القواميس والموسوعات اللغوية الكيبيكية التي تشرح وتُدعّم موقفه، فقد كان غاستون ميرون مناضلاً، من أشد المدافعين عن قومية وهوية كيبيك، في مواجهة التبشير الفرنسي كما هو الاسم الرسمي: (La mission française).
الموقف نفسه يتكرر تقريباً في مصر إذ كان هناك شبه صراع بين الثقافة الفرنسية ممثلة في طه حسين وتوفيق الحكيم وجماعة العقاد الانكلوسكسونيين.
وأنت في لندن تتعلم اللغة الإنكليزية من دون أن يمس ذلك هويتك؛ تتعلمها وأنت حيادي إزاء الثقافة التي تحملها/ وأنت تجد المثقف الأنجلوسكسوني، وأحسن مثال على ذلك ادوارد سعيد الذي لا يتنكر أو يحارب ثقافته وهويته وبخاصة لا يحارب لغته، وذلك لأن الاستعمار الإنكليزي يقتصر على الاستراتيجي و”البزنس”، (ما ترجمته اليوم: البترول والكيان الصهيوني) هذا كل ما يهم الاستعمار؛ وليس للإنكليزي أي مؤسسة تبشيرية كما هو شأن الفرنسيين. وليس للانكليزي أي رسالة ثقافية يحملها لأبناء المستعمرات..
في المقابل، اللغة الفرنسية حاملة لثقافة وايديولوجيا تبشيرية لا تعترف بالاختلاف، وأنت إذ تتعلم اللغة الفرنسية فإنك تتعلم في الآن أن تصير فرنسياً، ما يدفع الكثير من أبناء المهاجرين إلى حالة من الازدواج الثقافي قد تصل بهم إلى الشيزوفرينية. واليوم هناك مرضى نفسيون يقبعون في العيادات النفسية الفرنسية هم ضحايا هذا الازدواج الثقافي؛ ضحايا هذا الارتجاج الذي تحدثه الثقافة الفرنسية في أعماق أبناء المهاجرين، مما يدفعهم إلى الناحية الأخرى، إلى تبني تيارات إسلامية متطرفة كرد فعل للعدوان على هويتهم.
***
عمل الاستعمار الفرنسي على فرنسة من يسمونهم “الانديجان” (Les indigènes) وهو الاسم الذي تطلقه فرنسا على سكان المستعمرات من الوطنيين مثل سكان المارتنيك وقسم من الجزائريين.. لذلك لا تتعجب من طاهر بن جلون اذ يصم مجاهدي حركة حماس بالإرهاب، وكذلك التونسي عبد الوهاب المؤدب الذي كتب مقالات كثيرة في هجاء حماس، وأيضا رهط كثير من الفرنكوفونيين التوانسة والجزائريين والمغاربة الواقعين تحت تأثيرات الثقافة الكولونيالية.. من أمثال محمد صنصال، ياسمينة خضراء، وكمال داود. وكثير منهم يتبنون السردية الصهيونية؛ إذ كثيراً ما تتسرب الصهينة عبر الثقافة الفرنسية.
وكتب كمال داود عن “طوفان الأقصى” أنه هجوم إرهابي بربري ووصل الأمر بمحمد صنصال إلى الحج إلى حائط المبكى..
ولا ننسى في الآن أن هذه الثقافة الفرنسية برغم ادعاءات اللايكية هي ثقافة ذات جذور وتلوين كاثوليكي. وقد لاحظ ألبرت كامي في كتابه “الانسان المتمرد” أن شعار الثورة الفرنسية: “حرية، مساواة، أخوة”، ليس سوى إعادة انتاج لا واعية للثالوث المسيحي الكاثوليكي، وقد تحوّل من صيغة “الآب والابن والروح القدس” إلى “حرية، مساواة، أخوة”، كما لو أنهم علمنوا المحتوى وحافظوا على الصيغة في بنيتها الثلاثية. أي أن الكاثوليكية حاضرة بشكل ما في الثقافة الفرنسية وهذا ما عبّر عنه جون بول سارتر في كتابه الكلمات وهو سيرة طفولته إذ قال إنه ينتمي لثقافة كاثوليكية.
من ملامح هذا المثقف الفرنكوفوني الذي عادة لا يعرف اللغة العربية على الاطلاق (باستثناء عدد قليل) احتقار الذات من خلال هجومه الدائم والحاد على لغته وتراثه العربي الإسلامي، والناس ما تزال تتذكر في تونس الصراع الذي اتخذ أشكالاً دموية بين النخب السياسية العروبية الزيتونية وبين النخب المتفرنسة أو ما اصطلح عليهم بـ”المدرسيين”، أي بين خريجي الجامعة الزيتونية وخريجي المدرسة الصادقية.
في حوار مع الشاعر الفرنسي برنار نويل، شبّه عملية تلقين الفرنسية لأبناء المستعمرات بالاغتصاب الجنسي الذي يُدمّر روح الضحية. فلا هو يعود إلى هويته الأصلية، ولا هو يستطيع أن يتحول إلى فرنسي.
كان بورقيبة كثيراً ما يهاجم في خطبه الزيتونيين ويصمهم بالرجعية ويسميهم (Les archaïques) متماهياً مع الموقف الثقافي الاستعماري في تحقيره لثقافة الأهالي.
***
أتذكر الصديقة إيلز ماري، الملحقة الثقافية الألمانية سابقاً، وكانت مديرة معهد غوته في تونس. كانت تنتقد الفرنكوفونيين من مثقفي المغرب العربي الذين ينظرون إلى أنفسهم بكثير من الدونية، فتراهم نماذج صارخة للشخصية الكولونيالية المستلبة. وتضع البرنامج الثقافي باللغتين الألمانية والعربية وحاربوها لذلك، إذ كانت البرامج توضع باللغة الفرنسية قبل أن تستلم هي إدارة فرع المعهد في تونس.
قالت لي “عشت في كثير من البلاد الإفريقية وشاهدت نفس الموقف الفرنكوفوني في إفريقيا السوداء”، وذكرت لي بلداً إفريقياً نصفه مستعمرة فرنسية والنصف الآخر مستعمرة إنكليزية، وقالت إن أبناء القسم المستعمَر من فرنسا وهم بالطبع فرنكوفونيون يحتقرون بقية شعبهم الذي يتكلم الانكليزية!
قلت لها إن نفس الموقف عشناه ونعيشه في تونس.
أيضاً، أدركت بعض هذه الفروق عندما ذهبت للمرة الأولى إلى نيويورك وواشنطن وتواصلت مع المثقفين العرب الأنجلوسكسون في الجامعات الأميركية وخارجها الذين اختلطت بهم وتحدّثت إليهم، ولم ألمس لديهم ذاك الزهو وذاك التعالي الذي لدى مثقفي الفرنكوفونية لدينا.