

برغم هذه الوقائع وغيرها، لم يتضمّن البيان الختامي لـ”مؤتمر الحوار الوطني السوري” أيّة إشارات إلى مسؤوليّة الدولة في مكافحة الفقر وضمان العيش الكريم للسوريين. واكتفى البيان بالحديث عن ضرورة “تبنّي سياسات اقتصادية تحفيزية تعزِّز النمو وتشجِّع على الاستثمار وحماية المستثمر، وتستجيب لاحتياجات الشعب وتدعم ازدهار البلاد”. بالمقابل، ألقى البيان مسؤوليّة معاناة السوريين على العقوبات الخارجيّة وحدها وتحدّث عن “مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في دعم المجتمع وإعادة الإعمار.. وتحقيق التنمية والاستقرار”. مشاركة من؟
كانت مواضيع الاقتصاد ومعيشة المواطنين قد استحوذت على حيّزٍ كبيرٍ من نقاشات ومفاوضات لجنة تحضيريّة استمرّت 25 يوماً في صيف عام 2012 بغية إقرار “عهدٍ وطنيّ” لسوريا تبنّته جميع أطياف المعارضة السورية في مؤتمر تموز/يوليو بموازاة بيان جنيف 1. وكان لافتاً للانتباه أنّ ذلك المؤتمر قد أقرّ مواد الاقتصاد ومعيشة المواطنين دون تعديل، على عكس موادٍ أخرى كحقوق المرأة التي تمّ الانتقاص منها. ومن المفيد اليوم التذكير بالفقرات المعنية بالاقتصاد والمعيشة في العهد:
- “تصون الدولة الملكية الخاصة، التي لا يجوز الاستيلاء عليها إلاّ للمنفعة العامة ضمن القانون ومقابل تعويض عادل، دون أن يعاد تجييرها لمصالح خاصّة.
- تصون الدولة المال العام والملكيّة العامّة لمنفعة الشعب، وتقوم سياستها على العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة المستدامة وإعادة توزيع الدخل والثروة عبر النظام الضريبي بين الفئات الاجتماعية وبين المناطق، وكذلك على ضمان حريّة الاستثمار والمبادرة الاقتصادية وتكافؤ الفرص والأسواق ضمن ضوابط تكافح الاحتكار والمضاربات وتحمي حقوق العاملين والمستهلكين.
- تلتزم الدولة السورية بإزالة كافّة أشكال الفقر والتمييز ومكافحة البطالة بهدف التشغيل الكامل الكريم اللائق والإنصاف في الأجور، وتحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنيّة، وتحقيق التنمية المتوازنة وحماية البيئة، وتأمين الخدمات الأساسيّة لكلّ مواطن: السكن والتنظيم العمراني، ومياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي، والكهرباء، والهاتف والانترنت، والطرق والنقل العام، والتعليم والتأهيل النوعيين، والتأمين الصحيّ الشامل ومعاشات التقاعد وتعويضات البطالة، بأسعارٍ تتناسب مع مستويات المعيشة”.
بلغ تسجيل المنظّمات ذروته عام 2005 مع أكثر من 400 منظّمة جديدة في سنة واحدة، كي يزيد العدد الإجمالي للمنظّمات التي أنشئت منذ العام 2000 وحتّى 2020 إلى أكثر من 2300 منظّمة في سوريا، مقارنةً مع 7400 منظّمة في لبنان
واللافت للانتباه هو غياب مفاهيم العدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفقر والمال العام والصالح العام في نصّ بيان “مؤتمر الحوار الوطني السوري”، في حين تشكّل هذه المفاهيم دوراً أساسيّاً للدولة وفي ظلّ الحاجة الماسّة لترسيخها اليوم، وبخاصّةً بعد الانتهاكات الكبيرة التي انتهجتها السلطة السابقة حيالها. واللافت للنظر أيضاً في نصّ البيان، كما على أرض واقع اليوم، تحميل “مؤسسات المجتمع المدني” مسؤوليّات كبيرة “في دعم المجتمع وإعادة الإعمار والتنمية”.
بالمقابل، تشهد ما تسمّى “المنظّمات غير الحكوميّة” (NGO) واقعاً متناقضاً. فتلك التي كانت تعمل في مناطق الشمال الخارجة عن سلطة الدولة وحملت طويلاً عبء إعاشة ودعم معيشة النازحين في المخيّمات تناقصت تمويلاتها أصلاً منذ سنتين. لكنهّا انتشرت اليوم في مناطق مختلفة، ما أدّى إلى تراجعٍ في أحوال أولئك النازحين المعيشيّة، ودون أن تستطيع تلبية احتياجات الإغاثة والمعيشة على نطاقٍ سوريّ ٍواسع.
بدورها، منظّمات الأمم المتحدة التي كان يعمل بعضها لصالح “المنظمات غير الحكومية” أيضاً شهدت نفس التناقص في تمويل قبل أن يضحى التناقص أكثر حدّةً مع قطع الإدارة الأمريكيّة لمساعداتها الخارجيّة، وهي كانت أكبر المساهمين في سوريا. ويشمل ذلك “برنامج الغذاء العالميّ” (WFP) الذي كان يؤمّن الحصص الغذائيّة التي كانت المنظّمات السورية توزّعها، وكذلك كثيراً من “المنظّمات غير الحكوميّة الدوليّة” (INGO). وحدها لم تتأثّر كثيراً المنظّمات التابعة لدولٍ معيّنة، كتركيا وقطر، التي وسّعت نشاطاتها برغم أنّها لم تكن تشكّل سوى قدراً محدوداً من الإغاثة والإعانة في الشمال السوري.
النموذج الذي كان قائماً في إدلب هو الذي جرى تعميمه، اليوم، بما فيه من خلال بيان “مؤتمر الحوار الوطني السوري”. الدولة تهتمّ بقضايا الأمن والاستثمار بينما تحمل المنظّمات غير الحكوميّة عبء المجتمع وإعادة الإعمار و”التنمية”! هذه المنظّمات كانت قد تعدّدت بشكلٍ ملحوظ في سوريا مع سياسة “رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء” التي أطلقها بشار الأسد وبعيد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003. وبلغ تسجيل المنظّمات ذروته عام 2005 مع أكثر من 400 منظّمة جديدة في سنة واحدة، كي يزيد العدد الإجمالي للمنظّمات التي أنشئت منذ العام 2000 وحتّى 2020 إلى أكثر من 2300 منظّمة في سوريا، مقارنةً مع 7400 منظّمة في لبنان. ولكن تُوقِف الكثير من هذه المنظّمات في البلدين اليوم أعمالها وتُسرّح موظّفيها.
إسرائيل عرضت مؤخّراً أن يستطيع سوريّون العمل في هضبة الجولان السوريّة التي يحتلّونها. وبالطبع جاءت ردّة الفعل الوطنيّة كبيرة تستنكر هذا العرض الاستفزازيّ. لكن إذا بقيت الأحوال على ما هي عليه، كيف يُمكِن حقّاً منع الناس من تأمين سبل العيش إذا تعذّرت السبل الأخرى
الأكثر غرابة في هذه الظروف هو وضع مسؤوليّة كبيرة على هذه المنظّمات في إعادة الإعمار. برغم بعض التجارب خلال الصراع لإسكان النازحين في قرى نموذجية في الشمال. إذ أنّ إعادة إعمار الدمار الكبير الذي أحدثه الصراع في الحجر والبشر وفي البنى التحتيّة يتطلّب نظرة شموليّة على تغيّر التوزّع السكّاني الذي حصل وعلى كيفيّة إعادة تأهيل البنى التحتيّة لتأمين الاستدامة، هذا بالإضافة إلى إشكالات الأحياء غير النظاميّة التي كانت قد قامت قبل 2011 (فهل يجب إعادة إعمارها كما كانت؟) كما إشكالات الملكيّات والتعديات عليها، وغير ذلك الكثير. أي أنّ دور الدولة يبقى أساسيّاً في إعادة الإعمار، في التخطيط الإقليمي على المستوى المركزي وفي التخطيط العمراني على المستوى المحلّي. علماً أنّ هناك سباقاً زمنيّا ً بين توجُّه المواطنين لإصلاح مساكنهم السابقة أو إعادة تشييدها وبين وضع هذا التخطيط والحصول على توافق اجتماعي حوله وحلّ النزاعات التي يُمكِن أن تنشب بصدد ذلك. فتطوّر الواقع يُمكِن أن يسبق أيّ رؤى مستقبليّة.. حتّى لو كانت مزدهرة على شاكلة “دبي”!
لقد صبر السوريّون كثيراً وتحمّلوا الكثير من المعاناة. والجميع حول العالم يعترِف أنّهم يقيّمون العمل لكسب الرزق مهما كانت مشقّته. وهم بالطبيعة ينتظّمون في جمعيّات أهليّة لمعالجة مختلف الإشكاليّات الاجتماعيّة والصحيّة. لكنّهم يحتاجون بعد كلّ هذا الصبر إلى دولة راعية ترسم طريقاً لنهضتهم وتحمي الفئات الأضعف بقوانين وإجراءات. فدولة الرعاية هي التي تحمي المجتمع ليس فقط من الاستغلال الداخليّ، بل أيضاً من ألاعيب النفوذ الخارجي.
إنّ إسرائيل عرضت مؤخّراً أن يستطيع سوريّون العمل في هضبة الجولان السوريّة التي يحتلّونها. وبالطبع جاءت ردّة الفعل الوطنيّة كبيرة تستنكر هذا العرض الاستفزازيّ. لكن إذا بقيت الأحوال على ما هي عليه، ومع العقوبات، والتخلّي عن الرعاية، كيف يُمكِن حقّاً منع الناس من محاولة كسب الرزق وتأمين سبل العيش إذا تعذّرت السبل الأخرى؟