التحديات التي تواجه قضية فلسطين هي هي؛ إنها تنتقل، على جدول أعمال الشعب الفلسطيني، من عام إلى عام. ويمكن إيجاز التحديات التي تواجه الفلسطينيين اليوم على النحو التالي:
1- تحدي الدولة الإسرائيلية في المجال الدولي، خصوصاً لدى محكمة الجنايات الدولية، والبرهنة على إرتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة وفي الضفة.
2- تحدي الميل العربي إلى التصالح مع إسرائيل، ومحاولة إعادة الإعتبار للقضية الفلسطينية لدى العائلات الحاكمة في البحرين والإمارات والسعودية وقطر وعُمان، ووقف الجنوح نحو التطبيع.
3- تحدي العوائق التي تحول دون إجراء الإنتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية؛ فالسلطة الفلسطينية تحتاج اليوم إلى تجديد شرعيتها، في الوقت الذي تواجه فيه رفضا إسرائيليا لشمول الإنتخابات مدينة القدس.
4- تحدي إتمام المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية؛ تلك المصالحة التي تبدو أنها لا تسير إلى خواتيمها المأمولة. فالمصالحة بين طرفين مثل رقصة الفالس أو التانغو، تحتاج إلى إثنين يدوران على الإيقاع نفسه، وإلا ارتطمت الأرجل وبات المشهد مهزلةً، وهذا ما يحصل بالفعل بين حماس وفتح.
5- تحدي انقطاع المعونات الدولية عن مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية جراء العقوبات الأميركية المتمادية، بعد رفض السلطة الفلسطينية خطة ترامب للسلام (صفقة القرن)، ورفض اعتبار الولايات المتحدة الأميركية وسيطا في مفاوضات السلام، والإنعطاف نحو تدويل قضية فلسطين، والتهديد بالسعي إلى إنتفاضة شعبية غير مسلحة. وتجسدت العقوبات الأميركية في توقف الولايات المتحدة عن دفع حصتها في ميزانية السلطة باعتبارها دولة مانحة، واقتطاع السلطات الإسرائيلية جزءًا من أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل لمصلحة السلطة الفلسطينية تساوي قيمة رواتب الشهداء والجرحى والأسرى. وسبق ذلك، وقف المساهمة الأميركية في ميزانية “الأونروا”، والإنسحاب من اليونيسكو.
6- تحدي تجديد الحياة السياسية واستمرارها، أو ما يعرف بـ”خلافة الرئيس محمود عباس” في المؤسسات الثلاث، أي منظمة التحرير الفلسطينية وحركة فتح والسلطة الوطنية.
****
يدرك الفلسطينيون أنهم عالقون في وضع لا يمكنهم البقاء فيه إلى فترة مديدة. لكن المخارج من هذه الحال عسيرة جداً بعدما باتت قضية فلسطين بلا ظهير عربي قوي. فمصر تغرق بالتدريج في حقبة من الإضطراب السياسي والأمني والإقتصادي، والمخاطر التي تحدق بها، ولا سيما بنيلها، مرة ومريرة.
المصالحة بين طرفين مثل رقصة الفالس أو التانغو، تحتاج إلى إثنين يدوران على الإيقاع نفسه، وإلا ارتطمت الأرجل وبات المشهد مهزلةً، وهذا ما يحصل بالفعل بين حماس وفتح
وها هي سوريا ما برحت ملتهبة بالنيران التي كادت أن تحوّل تراثها العظيم رماداً. وفي العراق، موت جهنمي ربما يبدد بقاء هذا البلد الذي شهد ظهور أقدم حضارة وأقدم حرف وأقدم ملحمة في التاريخ البشري. والأمر على ما عهدنا وعلمنا وذقنا في ليبيا واليمن حيث يجري تحطيم هذين البلدين لكي لا تقوم لهما قائمة في أي يوم من الأيام القريبة، فضلا عن صراع التنانين على الغاز وممراته وفوائضه، وعن الإرهاب الدموي الذي يسربل كل شيء في بلادنا، ويغمر مجتمعاتنا التي تموت ببطء بمزيد من الخوف والموت. وفي هذا العياء، أُرغمت قضية فلسطين، بقوة الوقائع القاهرة، على الدخول إلى محطة الإنتظار إلى حيت انقشاع الحرائق العربية المندلعة في كل مكان.
هل يستطيع الفلسطينيون أن ينتزعوا إنجازا تاريخيا لقضيتهم في معمعان هذا التهتك العميم؟ هذا من المحال التاريخي، وربما يكون الإنتظار الإيجابي، كما يلوح لي، هو الخيار الأمثل في هذه الحقبة السديمية. والإنتظار الإيجابي، نقيض علائقي للإنتظار السلبي؛ فالإنتظار السلبي كمن يقف في محطة القطار ملوحا بالمناديل، بينما الإنتظار الإيجابي كمن يُجهّز الحقائب كي يصعد إلى القطار. والإنتظار الإيجابي يعني تمكين الفلسطينيين من التشبث بأرضهم، وإبقاء شعلة التحرر مضاءة، والسعي إلى إعداد العدة في سبيل النضال مجدداً ضد الإحتلال بجميع الوسائل المتاحة، بما في ذلك الإنتفاضة الشعبية والمقاطعة الأممية ومحكمة الجنايات الدولية ومنابر الأمم المتحدة. فهل يكون الفلسطينيون من حملة المناديل أم من حملة الحقائب؟
في هذا الميدان، ليس الفلسطينيون وحدهم في مأزق. إسرائيل أيضا في مأزق مغاير؛ فبعد إثنين وسبعين عاماً على النكبة الأولى في سنة 1948، ها إن الفلسطينيين والإسرائيليين قد وصلوا معاً إلى عجزين غير متناسبين: عجز الإسرائيليين عن إطفاء شعلة التحرر لدى الفلسطينيين، وعدم قدرة الفلسطينيين على تحرير وطنهم. وها هي إسرائيل، المتعجرفة والمقتدرة، غير قادرة على ضم الضفة الغربية بسكانها، وغير قادرة، في الوقت ذاته، على الإنسحاب منها بعدما بات عدد المستوطنين فيها، بما في ذلك مدينة القدس، أكثر من 800 الف مستوطن. ثم أن ما تعرضه إسرائيل والولايات المتحدة (صفقة القرن) يرفضه الفلسطينيون، وما يريده الفلسطينيون لا تقبل به إسرائيل. إذاً، الصراع ما برح مفتوحا على المستقبل، وعلى إحتمال تغيير موازين القوى في لحظة من لحظات مكر التاريخ. غير أن المستقبل هو، في نهاية المطاف، ما نصنعه اليوم. واليوم ثمة استنزاف لقوى الشعب الفلسطيني في غزة في ظل انحسار الوحدة الوطنية، وفي ظل غياب تام لأي مشروع وطني موحد، أو حتى رؤية سياسية موحدة. ومع ذلك، فإن أي خطط أو إتفاقات أو تفاهمات لن تجد لها سبيلاً إلى التنفيذ من دون الختم الشرعي الفلسطيني، وهذا الختم ما زال مصوناً.