تخيّل لو أنّكََ حصلت الآن على خمسمائة ألف دولار. سيكون عندك خيارٌ من ثلاثة خيارات للتصرف بهذا المال: 1) إما أن تستهلك المال كُلّهُ وتنعم به على مدى خمس سنوات قادمة حتى ينفذ؛ 2) أن تستثمر نصف المال في شراء محل تجاري فتؤجّره ليعودَ عليك بريع صغير شهري إضافة إلى النصف الآخر الذي ستستهلكه؛ 3) أن تضع 95% من المال في شركة ناشئة يُتوقع لها أن تنجح نجاحاً باهراً بعد خمس سنوات فيما تستهلك أنت خلال السنوات تلك الخمسة بالمائة المتبقية من هذا المال.
الخيار الأول يُؤمّن لك نوعاً محدوداً من الارتياح والبحبوحة خلال السنوات الخمس تلك لأنك ستستهلك خلالها ما تريد من مأكل ومشرب وملبس وسياحة وغيرها إلّا أن مصير استهلاكك غير مضمون في السنوات التي تليها، فقد تعيش في المستقبل القريب فقيراً من دون مال.
الخيار الثاني وبرغم أنّه قد يُخفّض استهلاكك ويُخفّف منسوب راحتك الحالية إلّا أنّه يُؤمّن لك استقراراً بسبب تدفقات أموال ايجار المحل التي تتلقاها شهرياً.
الخيار الثالث قد يضطرك إلى أن تعيش فقيراً في السنوات الخمس الأولى إلّا أنّه في حال نجاح الشركة الواعدة التي استثمرت فيها فإنّك ستعيش حياة رفاهية قصوى في المستقبل.
المثال أعلاه بالامكان تعميمه على الخيارات الاقتصادية للمجتمعات الإنسانية. فإن أراد مواطنو مجتمعِ معينِ راحة محدودة في المدى القصير ذهبوا إلى الخيار الأول فاستهلكوا كل ما يُنتج المجتمع ولم يدخروا أو يستثمروا شيئاً. وإن أرادوا استقراراً نسبياً ذهبوا إلى الخيار الثاني فاستثمروا جزءاً صغيراً من ثرواتهم وانتاجهم في قطاعات ذات مردود وقيمة مضافة منخفضة مثل القطاع العقاري والصناعات الخفيفة والزراعة التقليدية. وإن أرادوا التنمية الحقيقية التي تذهب بهم إلى مصاف الدول المتقدمة، كان عليهم أن يصبوا جُلّ انتاجهم وثرواتهم في الاستثمار في قطاعات ذات قيمة مضافة عالية والتطوير من تكنولوجيات ذاتية تخدم تلك القطاعات (الخيار الثالث).
اذن، تحقيق التنمية يستوجب زيادة الاستثمار، وزيادة الاستثمار لا تتحقّق إلا بتوجيه الموارد إلى مشاريع تنموية معينة بدل استهلاكها. هذا يعني أنّه لا يُمكن لنا أن نُحقّق تنمية اقتصادية من دون التضحية بمعدلات استهلاكنا. تكلفة هذه التضحية قد تكون عالية في المدى القريب لأن ما يحدث فعلياً هو أنّ أحد الأجيال عليه أن يُضحّي برفاهيته من أجل رفاهية الأجيال المستقبلية.. ولنا في دول جنوب شرقي آسيا العبرة المناسبة.
نمت العديد من الدول الآسيوية مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان والصين لأن حكوماتها أدركت أنّ عليها أن تدعم القطاعات الصناعية المنتجة وأن تقف خلف التطوير التكنولوجي وترفعه حتى تصل الى مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً. ففي ستينيات القرن المنصرم، قرّر زعيم كوريا الجنوبية الديكتاتور (بارك تشونغ) هي دعم القطاعات الصناعية الكيماوية وقطاع السيارات وغيرها من القطاعات الصناعية الاستراتيجية بالرغم من أن معدلات الدخل في كوريا آنذاك كانت أقل من تلك التي في العديد من الدول العربية، حتى أنّ الرئيس الكوري آنذاك ابتعث وفداً لمصر للاستفادة من التجربة الصناعية خلال فترة حكم جمال عبد الناصر.
ومن أجل دعم هذه القطاعات كان على الكوريين أن يُضحّوا بمعدلات استهلاكهم وابقائها منخفضة من أجل رفع معدلات الاستثمار، وقد بقي الأمر على هذا الحال طويلاً بالرغم من تطور الاقتصاد وتقدّمه عبر السنوات. فعلى سبيل المثال، بقيت أجور العمال الكوريين الجنوبيين مُنخفضة خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم من أجل الحفاظ على تنافسية الشركات الصناعية بالرغم من أن القطاع الصناعي كان في تطور سريع بشكل عام. أي أنه تمت التضحية برفاهية العمال وعموم الشعب من أجل دعم القطاع الصناعي الكوري والاستثمار فيه. إنّها صورة من صور كلفة التنمية!
أما في الصين فقد حدث أمر مشابه. فبعد أن بدأ الرئيس الصيني (دينغ شياو بينغ) فتح الاقتصاد الصيني على أسواق العالم بشكل جدي، بدأت الشركات العالمية تدخل السوق الصينية الضخمة لتستثمر فيها مستغلة اليد العاملة الصينية الرخيصة. وقد بنت الصين اقتصادها منذ الثمانينيات الماضية على الاستثمار في القطاعات الصناعية وتصدير السلع المُصنّعة إلى العالم فأصبحت عبارة “صُنِع في الصين” علامة تجارية معروفة في جميع أنحاء العالم. هذا التركيز الصيني على التصدير أفاد القطاع الصناعي بشكل كبير إلا أنّه لم يعد بالافادة على المواطن الصيني بالقدر نفسه. فبالرغم من أن التجربة التنموية الصينية عرفت بأنها أكبر عملية “لإزالة الفقر” في التاريخ العالمي إلا أنها أيضاً تميّزت بارتفاع معدلات اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير بين المواطن العادي وأصحاب الشركات الصناعية الخاصة والمملوكة من الدولة.
ومن أجل الحفاظ على هذا الاقتصاد الذي يعتمد بنيوياً على التصدير، اهتم صُنّاع القرار الصينيون بالابقاء على تنافسية سلع الصين عالمياً ومن أجل ذلك يتدخل البنك المركزي الصيني بشكل مستمر في سوق العملات من أجل أن يحافظ على قيمة منخفضة لليوان الصيني. القيمة المنخفضة للعملة تُتَرجم إلى انخفاض أجر العامل الصيني مقارنة بالعامل الأوروبي أو الأمريكي أو الياباني أو غيره. يُعزّز هذا من تنافسية السلع الصينية التي ستتميز بانخفاض كلفتها بسبب تدني أجور العمّال الذين يقفون وراء انتاجها. اذن، كلفة التنمية في الصين اليوم هي أيضاً انخفاض مستوى معيشة العامل الصيني ومحدودية قدرته الاستهلاكية مقارنة بالحجم الحقيقي للإقتصاد الصيني.
أما في العالم العربي، فتتفاوت الموارد بين دولة وأخرى. بعض الدول رُزِقت ببحور من موارد نفطية وأخرى بموارد بشرية وفيرة وغيرها بموارد مائية وزراعية. لكن كيف تُدير الدولة تلك الموارد اليوم من أجل تحقيق تنمية اقتصادية شاملة مستقبلاً؟
سؤال يجب أن يُطرح ويُفكّر فيه ملياً (ولعلنا نتطرق إليه في مقالات مستقبلية). إلّا أنه يجب أن نعي أنّ للتنمية تكلفة كما أن لعدم التنمية تكلفة. علماً أن تكلفة التنمية في العالم العربي اليوم قد تكون أقل من التكلفة التي تحمّلتها كوريا الجنوبية أو الصين أو تايوان، وذلك أولاً بسبب التقدم التكنولوجي الكبير العالمي الذي يُسرّع من عملية التنمية ويعطي الدول النامية منصة لتسجيل وثبات اقتصادية عالية وثانياً بسبب توفر موارد وريوع مالية كبيرة في كثير من دول العالم العربي الأمر الذي قد يُخفّض من تلك التكلفة بخاصة إن تعاونت الدول العربية وتكاملت ووفّرت واحدة منها ما ينقُص من موارد لدى دولة أخرى.