كنفاني بذكرى استشهاده الـ52.. الأدب الملتزم لا يموت

لستُ من محبي لهيب الصيف. دائماً أسمّي شهر تموز/يوليو بشهر الحرائق تيمنا بعنوان قصيدة مترجمة عن الإنجليزية للروائي والتشكيلي الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا، وكلما اقترب هذا الشهر تزداد الحرائق.

في ذاكرتي، لعل أول هذه الحرائق كان استشهاد غسان كنفاني المناضل الفلسطيني الكبير والأديب اللامع برغم قصر رحلة حياته، إلا أنه ترك أثراً لا يُمحى في الأدب الفلسطيني والعربي لا بل في ما يسمى “الأدب الملتزم”، وهو أحد عناوين ورموز هذا النوع من الأدب العالمي.

في كتاب بشير أبو منة (الرواية الفلسطينية من سنة 1948 حتى الحاضر)، أن الأدب عند غسان كنفاني سبق السياس، ويُمكننا فهم هذا التصنيف عند أبو منة لأنّ غسان عاش القهر الفلسطيني المتعدد الأوجه منذ الخروج من يافا عام 1948 وبدء رحلة التشرد ومن ثم الكفاح لأجل القضية التي أعطاها أعز ما يملك، وأقصد قلمه وعقله أولاً وحياته ثانياً.

نعم، لقد آمن غسان كنفاني أن الوصول إلى الناس هو الوصول الحقيقي إلى السياسة ولا يمكن الوصول إلى الناس إلا من خلال تبني أوجاعهم وحكاياتهم التي شكّلت النواة الأساسية لأدبه.. هنا يحضرني ما قاله شاعر فلسطين العظيم محمود درويش، عن غسان كنفاني: “لدى قراءة كنفاني اليوم نكتشف أولاً ودائماً أنه في عمق وعيه أن الثقافة أصل من عدة أصول للسياسة وأنّه ما من مشروع سياسي من دون مشروع ثقافي!”

هذا المنسوب العالي من الالتزام بالقضية أقلق الأعداء فقرّرت إسرائيل في صبيحة الثامن من تموز/يوليو 1972 اغتيال الأديب الذي قضّ مضاجعها بأعماله التي رسخت في الذاكرة الجمعية للعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً منذ أن كتب أولى أعماله الأدبية “عائد إلى حيفا”. يسأل غسان: “ماهو الوطن؟ ما هي فلسطين؟ فلسطين أكثر من ذاكرة. لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط. إن الإنسان هو القضية”.

أما روايته الثانية (حقٌ لا يموت)، فقد سرت كالنار في الهشيم وتُعدُّ أحد أشهر أعماله، وهي أيضاً غير بعيدة عن زمن النكبة (1948)، وجاءت مُحمّلة بمشاعر الأسى والألم لكل من غادر وطنه قسراً ويحلم بالعودة، ومن هنا قال النقاد إن رواية “حق لا يموت” هي دعوة صريحة للكفاح المسلح من خلال شخصية “أم سعد”، و”أم سعد” التي تسكن في المخيم، تزور الكاتب، وتحكي له عن ابنها سعد الذي تطوع ضمن العمل الفدائي، ويبدأ غسان كنفاني يصف لنا يديها وهما تتعانقان كحمامتين أليفتين؛ ثوبها الفلسطيني العريق؛ الطرحة التي تضعها على رأسها؛ يصف لنا كلَ شيء فيها حتى نشعر أنها أمّنا التي ربتنا على يديها، وعلينا أن نلتحق بابتها “سعد”، فلدينا حق لن يموت أبداً ولعل هذه الرواية من أكثر الأعمال التي ما زالت طازجة في ذاكرتي.

في بلدي الحبيب سوريا، كان غسان كنفاني أكثر الأدباء حضوراً في مناهجنا التعليمية، فقد أدرجت ضمن حصص اللغة العربية بوصفها أكثر الروايات إلتزاماً بما سمي الأدب الفلسطيني لاحقاً.

وفي قصته الإنسانية الخالدة “موت سرير رقم 12” يتألق حب غسان للحياة من خلال الشخصيات التي تقاوم المحتل؛ فتقول إحدى الرسائل “صدّقني يا أحمد أن قرحة الدماغ أقسى من قرحة الأمعاء. الطب يستطيع سد ثقب الامعاء لكنه لا يستطيع أن يسد بها ثقوبا كثيرة في التفكير”.

تناول كنفاني مفارقات الواقع العربي القاسية من ثروة هائلة وبؤس أكثر هولاً ولعله من أبرز الكتاب الذين عاشوا التجربة ثم كتبوا عنها وهنا من المفيد الرجوع إلى حوار أجرته مجلة “الآداب” اللبنانية مع زوجة غسان، آني، التي تتذكر لقاءهما الأول في بيروت سنة 1961، عندما كانت مُرسلة بتوصية من أحد رفاقه في دمشق، ولدى طلبها منه الذهاب إلى المخيمات لتشاهد عن كثب، “غضب، وقال إنني لا أوافق على أن تشاهدي مخيمات اللاجئين قبل أن تعرفي أكثر عن المسألة كلها”.

وبالمقارنة والمقاربة مع سيرة غسان، يمكن الانتباه مباشرة إلى أن أدبه تناول حياة شعبه كموثّق عبر الأدب من جانب، وعبر الدراسات من جانب آخر. أما على المستوى السياسي، فكان غسان الناطق الرسمي وعضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لكنه أبى إلا أن يستنطق القلم فأسّس مجلة “الهدف” الناطقة باسم “الجبهة الشعبية”، فالقلم أقوى من البندقية. هو لم يحمل بندقية ولم ينفذ عملاً انتحارياً لكن قلمه المؤثر جعله هدفاً لدى “الموساد” حيث أصدرت رئيسة وزراء اسرائيل غولدا مائير قرار تصفية غسان ورفاقه مثل وديع حداد وكمال عدوان وكمال ناصر وامتدت فترة القتل سنة كاملة حيث وضعت متفجرة داخل سيارته فاستشهد على الفور ومعه ابنة شقيقته لميس وبذلك فقد الأدب العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص شخصية ثقافية لا تتكرر.

رحم الله الشهيد غسان كنفاني صاحب الحضور الكاريزمي القوي والمؤثر.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الصعود الصيني.. مكاسب كبيرة ونزاعات قليلة
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  غزو العراق في وثائق بريطانية.. كذبة عمرها 20 عاماً