لنتصور الآتي: العميد إلياس يوسف عُيّنَ، اليوم، رئيس جهاز أمن مطار بيروت. في اليوم التالي، هل يكون مفاجئا لأحد أن يبادر هذا الضابط إلى فتح صالون الشرف لأي لبناني تعامل مع الإحتلال الإسرائيلي إبان حقبة الإحتلال، وقرر أن يعود إلى لبنان؟
يأتي طرح السؤال غداة واقعة إقدام الضابط المذكور على مساعدة المدعو عامر إلياس فاخوري القائد العسكري لمعتقل الخيام في زمن الإحتلال الإسرائيلي لمنطقة الشريط الحدودي المحتل (1978 ــ 2000)، في الدخول إلى مطار بيروت، ومن تسوية وضعه لدى الأمن العام اللبناني، قبل أن تبادر جريدة “الأخبار” اللبنانية إلى الكشف عن الأمر، ومن ثم يسارع عشرات الأسرى المحررين للتحرك إحتجاجا، ما أدى إلى إعادة توقيف فاخوري لدى الأمن العام، فضلا عن إتخاذ عقوبة مسلكية بحق العميد يوسف.
وعلى مدى يومين، ضجت مواقع التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام اللبنانية بروايات أسرى محررين، ممن إعتقلوا في سجن الخيام، أثناء فترة الإحتلال الإسرائيلي، وفيها يتطرقون إلى دور العميل المذكور، ومسؤوليته عن إستشهاد عدد من اللبنانيين في المعتقل المذكور.
حتى أن العودة إلى أرشيف صحف لبنانية قبل التحرير في العام ألفين، تبين دور العميل فاخوري الذي كان قائدا عسكريا لما تسمى “شرطة” معتقل الخيام، فضلا عن توليه شخصيا تعذيب أسرى ما زالوا يحفظون صورة وجهه. لذلك، بدا دخول فاخوري مستفزاً لشريحة كبيرة من اللبنانيين، إلى حد قول رئيس كتلة نيابية أن هذه القضية “تمس الشعور الوطني وتهدد السلم الأهلي”.
ويقول الأسير المحرر رجائي أبو همين لموقع 180 إنه عندما شاهد صورة فاخوري، سرعان ما عاد به الزمن للحظة دخوله معتقل الخيام وتمضيته سنوات طويلة ذاق خلالها أبشع صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، “كان إسم الفاخوري، كفيلا بجعل كل واحد منا ينتظر الأسوأ والأكثر توحشاً”.
لا تبدو هذه القضية بكل ما أحدثته من ضجيج في الشارع اللبناني، منفصلة عن معيار أساسي، هو معيار الوطنية أو الخيانة. هذا المعيار، وبرغم أن إتفاق الطائف قد حسم هوية لبنان العربية وعدائه لإسرائيل، فإن البعض يريد دائما إما شد لبنان سياسيا إلى الوراء (ما قبل الحرب الأهلية) أو إدخال إعتبارات أخرى مختلفة، يندرج معظمها في خانة “البلطجة الإنتخابية” بحيث يريد بعض الأحزاب أو التيارات السياسية، كسب أكبر قدر ممكن من الأصوات، حتى لو كان أصحابها من العملاء الذين خانوا وطنهم.
في العام 2000، ومع إنسحاب الجيش الإسرائيلي من الجنوب اللبناني المحتل، لجأ أكثر من ثلاثة آلاف لبناني، هم عملاء في ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي”، وعائلاتهم إلى إسرائيل، وأقاموا في معازل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، ما عدا بعض “الميسورين”، ومن هناك، قرر المئات منهم اللجوء إلى دول غربية، وخاصة في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وإستراليا (نالوا جنسيات هذه البلدان)، مثلما قرر المئات منهم العودة إلى لبنان عبر بوابة الناقورة، حيث سلّموا أنفسهم للقضاء العسكري، وخضعوا للمحاكمات، ولو بشكل صوري.
ويقدر عدد الذين ما زالوا في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأكثر من ألفي لبناني، بينهم نسبة صغيرة جدا تمكنت من الحصول على الجنسية الإسرائيلية.
سهى بشارة: “كأنني إعتقلت مجددا في معتقل الخيام، وكأننا ما زلنا في زمن الإحتلال الإسرائيلي، وكأن عامر فاخوري ما زال آمر المعتقل لا بل صار يتسلط علينا بإسم دولتنا”.
والملاحظ، يقول الأسير المحرر نبيه عواضة، أن عددا من الأحزاب والشخصيات في لبنان تتناول هذا الملف بطريقة تدعو إلى التساهل مع هذه الشريحة التي خانت بلدها، على عكس تعامل دول أخرى وبينها فرنسا التي عاقبت من تعاملوا مع الإحتلال النازي، غداة الحرب العالمية الثانية، بالإعتقال والإعدام والسحل أو برسم الصليب النازي المعكوف بأحمر الشفاه على وجوه وصدور نساء متهمات بخيانة بلدهن أو حلق رؤوسهن قبل إجبارهن على السير نصف عراة في شوارع باريس وغيرها من المدن الفرنسية.
“كأنني إعتقلت مجددا في معتقل الخيام، وكأننا ما زلنا في زمن الإحتلال الإسرائيلي، وكأن عامر فاخوري ما زال آمر المعتقل لا بل صار يتسلط علينا بإسم دولتنا”، تقول الأسيرة المحررة سهى بشارة لموقع 180.
تتفق بشارة مع زميلها نبيه عواضة بأن العمالة ليست إلتباسا أو وجهة نظر، “إلا إذا كان البعض في لبنان يريد أن يجعل التطبيع مع الإحتلال أمرا واقعا بمرور الزمن”، تقول بشارة.
يستغرب الأسرى كيف أن البعض في الدولة ينادي بالمقاومة ويرفع رايتها في المحافل الدولية، بينما يتصرف مع قضية العملاء بطريقة مهينة “شو نحنا فاتحين كنيسة أم نحن دولة”، تسأل سهى بشارة.
يرفض الأسرى أبو همين وبشارة وعواضة منطق العفو عما مضى. يأخذون على الدولة اللبنانية أنها تهمل ملف أقدم سجين سياسي لبناني هو جورج إبراهيم عبدالله، فلا أحد من أهل السلطة يحمل قضيته إلى المحافل الدولية، بينما هناك من يريد في السلطة جعل العملاء يعودون وكأنهم كانوا مجرد سائحين في تل أبيب وأن جواز سفرهم الإسرائيلي مثل أية جنسية أوروبية أو أميركية!
ويقول عواضة الذي شارك مع العشرات من زملائه في تحرك إحتجاجي تُوّج بتقديم إخبار قضائي إن مرور الزمن لا ينطبق على حالة العملاء وجرائمهم، ولذلك يجب تعديل القانون لتحصين الموقف ضد التطبيع.
في هذا الإطار، أكدت المحامية بالإستئناف الاستاذة ملاك حمية، وهي واحدة من المحامين الذين تقدموا بالإخبار، لموقع 180 إن الاخبار إستند إلى تمادي فعل التعامل لدى فاخوري إستناداً إلى ثلاث معطيات هي:
1- حيازته على جواز سفر إسرائيلي.
2- دخوله إلى لبنان بجواز سفر لبناني، وإخفاؤه جواز سفر أميركي موسوم بتأشيرات دخول وخروج من وإلى إسرائيل مرات عدة.
3- ورود معلومات عن قيامه وحتى زمن قريب بتجنيد لبنانيين وفلسطينيين مقيمين في الولايات المتحدة للعمل لمصلحة إسرائيل، وهذه كلها مسائل تستوجب إخضاعه للتحقيق من قبل السلطات اللبنانية المعنية، برغم مرور الزمن في القضية الأساس المحكوم عليه بها.
وترى حمية أن قانون العقوبات اللبناني لا يخلو من ثغرات، لا سيما في ما يختص بمسألة العمالة. “فنحن في بلد يعيش حالة لا إستقرار، وإحتمال الخرق من قبل بلد عدو كإسرائيل أمر وارد”، مع إشارتها إلى أن النص القانوني في الأساس متشدد وتصل عقوبته الى الإعدام، لكن الثغرة تكمن في الأحكام التي تخضع للتدخل السياسي. وهنا أزمة القضاء ومكمن دائه: غياب الإستقلالية.
بدورها، تسأل سهى بشارة :”لماذا كلما دق الكوز بالجرة، يطالب العونيون بإيجاد حل وتسهيلات للعملاء الذين فروا إلى إسرائيل، لكأن المطلوب منا أن نقدم لهم إعتذارا على ما قمنا به، عندها تنقلب الأدوار ونصبح نحن الخونة وهم الأبطال، فهل يعقل هذا الأمر”؟
وكشفت بشارة لموقع 180 أنها وثّقت منذ 8 سنوات قيام جهة بتنظيم رحلة حج مسيحية من القدس إلى روما ثم باريس فلبنان، “وتبين لنا أن أحد العملاء دخل إلى لبنان، وزار مزار القديس مار شربل ضمن الحملة بجواز سفر أجنبي، ولم يتعرض لأية مساءلة”.
وخاطبت بشارة الأسيرات والأسرى بالقول “لأننا نريد دولة القانون، علينا أن نتحرك ليس كأسرى فحسب، بل كمواطنين ومواطنات أولا، فنحن لسنا هواة ثأر، وما دفعناه من أثمان كان تعبيرا عن قناعات وواجبات، أما الموقف من الإحتلال والتطبيع، فهو يخضع للقانون الذي يحدد العدو والصديق وكيفية معاقبة من يطبّع أو يتعامل. القانون ليس إنتقائيا أو إعتباطيا، وإذا كانت هناك ثغرات لا بد من تفاديها وأن نستمر بالتحرك حتى نحقق هدفنا”.
تجدر الاشارة الى أن المديرية العامة للأمن العام قد أعلنت أن فاخوري قد إعترف بعد التحقيق معه لديها “بتعامله مع العدو الإسرائيلي والعمل لصالحه، وانه استحصل بعد فراره عام 2000 الى داخل فلسطين المحتلة على هوية اسرائيلية وجواز سفر اسرائيلي غادر بموجبه الاراضي الفلسطينية المحتلة”.
وبعد إنتهاء التحقيق معه، أحال الأمن العام اللبناني عامر إلياس فاخوري على النيابة العامة العسكرية إستناداً الى اشارة مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس الذي أمر بتوقيفه.
بدورها، أوضحت مصادر عسكرية لموقع 180 أن فاخوري وفور وصوله قبل أيام قليلة إلى بلدته في قضاء مرجعيون، تم إستدعاؤه إلى مقر مخابرات الجيش اللبناني للإستماع إلى إفادته ومن ثم تركه حرا. كما تبين أن زوجة الضابط نفسه الذي إصطحبه إلى الأمن العام هي المحامية التي ستتولى الدفاع عنه.