إنّها بوهيميا الخراب الوطني.. تبّاً لنا!

سأبدأ هذه السطور من أرشيف السينما العالميّة. من فيلمٍ لا أعرف لماذا يخطر ببالي كثيراً، هذه الأيّام. ربّما بسبب ما ينتابني من "عوارض صحيّة"، كتلك التي شعرتُ بها قبل عشرين عاماً. أي، عندما شاهدتُ فيلم "الوليمة الضخمة". القرف نفسه. الدوار عينه. الغثيان ذاته. ومن ثمّ .. رغبة جامحة للتقيُّؤ!

La grande abbuffata (الوليمة الضخمة) فيلمٌ مأساوي هزلي. إنتاجه إيطالي- فرنسي مشترك، وأخرجه ماركو فيريري. عند خروجه في صالات العرض عام 1973، أثار جدلاً كثيراً. وُصِف بـ”الفضيحة النادرة في السينما”. لماذا؟ يروي الفيلم قصّة أربعة رجال (طاهي، قاضي، طيّار، مذيع تلفزيوني)، سئموا حياتهم المملّة ورغباتهم التي لم تتحقّق. فقرّروا حبْس أنفسهم في فيلا ريفيّة، لحضور ما سمّوه “ندوة تذوّق الطعام”. لكنّهم كانوا، في الواقع، قد عقدوا النيّة على الانتحار الجماعي، بطريقةٍ غريبة. الأكل حتّى الموت.

وعليه، نظّموا وليمةً فخمة مسعورة وجنائزيّة. إنّها “مهزلة أربع آلاتٍ فيزيولوجيّة”، بحسب المخرج فيريري. فالفيلم، يركّز على الجزء الحيواني من الإنسان. بحيث يتصرّف الأصدقاء الأربعة، مثل الكلاب والخنازير التي تغزو حديقة الفيلا في نهاية الفيلم، لتلتهم الموتى. رأى العديد من النقّاد في ذلك الفيلم “إساءة إلى الأخلاق البرجوازيّة”، كونه يصوِّر رذائلها. واعتبره البعض الآخر، جلسة محاكمة شرسة للمجتمع الاستهلاكي. والهدر. والانحلال. والأنانيّة. واللامبالاة بالعالم الخارجي. إذْ كان، ببساطة، اللحم البشري غارقاً في السلطة والمال والنفوذ والعربدة والتجارة. نعم، هكذا.

أذكر أنّني، وبعد مشاهدة “الوليمة الضخمة”، بقيت أيّاماً لا أقوى على مجرّد النظر إلى أطباق الطعام. لا آكل، إلاّ ما أسدّ به رمقي. منذ فترة، عاد هذا الإحساس ليجتاحني. كلّما مرّ أمامي طيف مسؤولٍ على الشاشة. كلّما نطق أحد حُكّامنا بكلمة. كلّما بدأ سياسيٌّ بمرافعة “دستوريّة” عن مظلوميّته. كلّما استعرض أحدهم تضحياته فداءً للوطن. كلّما تنصّل وزيرٌ حالي أو سابق (أو مشروع وزير)، من فضيحة. كلّما ابتسم نائبٌ من نوائب الأمّة للكاميرا. وكلّما نطقت مذيعة بلفظة “معاليك”، وهي توجّه سؤالاً غبيّاً إلى الضيف. أغبى من الابتسامة السمجة للنائب إيّاه. يا إلهههههههي! ماذا يحصل لي؟ ماذا يحصل لنا؟ ماذا يحصل لهم؟

نحن لن نرتطم الارتطام الكبير لأنّنا نتحلّل. يا أيّها الذين فظّعوا، أين كنتم تخبّئون كلّ تلك الإنجازات؟ سؤالٌ برَسْم المنجّمين والبرّاجين. لعلّ تقنيّاتهم في قراءة الغيب، تشفع لنا. فبارقة الأمل الوحيدة لم تعد تأتينا، إلاّ من صوبهم

ها هم، مَن نتكلّم عنهم دوماً، يلتهمون جيفة الدولة. أوْلَموا لأنفسهم أكبر وليمة لصوصيّة، عرفتها شعوب المعمورة. ها هو القرف يرشح من الشاشة. يقفز إليّ، وأنا أراهم يمعنون في التخريب ومرمغة سُمعتنا بالوحل. كلّ يوم نقول، حسناً إنّها النهاية. يبزغ الفجر مع فضيحةٍ جديدة، تُشغِل البلد أسبوعاً وأكثر. يغيب النهار مع حطامٍ جديد، يطمر حطاماً أقدم منه. نحن لن نرتطم الارتطام الكبير لأنّنا نتحلّل. يا أيّها الذين فظّعوا، أين كنتم تخبّئون كلّ تلك الإنجازات؟ سؤالٌ برَسْم المنجّمين والبرّاجين. لعلّ تقنيّاتهم في قراءة الغيب، تشفع لنا. فبارقة الأمل الوحيدة لم تعد تأتينا، إلاّ من صوبهم. أنا، يا أصدقاء، عندما يدبّ اليأس في قلبي، وأشعر بعيوني تمتلئ غيماً كثيراً لا يُمطِر، ألتجئ إليهم! أُنقِّب عن توقّعاتهم، كمَن يبحث عن حبل نجاة. أطمئنّ حين يجزمون، بأنّ سقوطهم سيكون مدوّيّاً، بلا ريب. وأسأل نفسي، والكآبة تعتصرني؛ كيف يمكن لوطنٍ بهذا الجمال، أن يُنجِب سياسيّين وحُكّاماً بهذه البشاعة؟ أمرٌ محيِّر فعلاً!

لقد رسّخ حُكّامنا صورةً ذهنيّة لهم، لدى معظم اللبنانيّين. صورة بمنتهى القبح. يقول الكاتب الأميركي جاك شاهين في كتابه “المخادعون”، إنّ الإعلام الغربي يصوّر المواطنين العرب على أنّهم شيوخ نفط ومُترَفون وإرهابيّون وسمينون. لهم أنوف معقوفة ولحى كثّة، ويرتدون الـ”دشداشة” مع الغترة والعقال. “لا تتبدّل هذه الصورة في أذهانهم. مهما تبدّلت الأحوال والعلاقات بين دولهم. ويتصرّفون معهم بعدائيّة من وحي هذه الصورة. هذا ما دلّت عليه أبحاثي طوال عشرين سنة”، يؤكّد كاتبنا. ونحن أيضاً، صرنا نرسم في عقولنا صوراً ذهنيّة، لا تتبدّل، لسياسيّينا وحُكّامنا. صوراً قبيحة ومقزّزة، بطبيعة الحال. من الصعب، حتماً، قيامي بدراسة للتعرّف على صورهم الذهنيّة في عقول اللبنانيّين. لكنّني شخصيّاً، وبمجرّد سماعي اسم أحدهم، ترتسم صورته فوراً. أتخيّله مثل الطيّار مارسيلو (ماستروياني) في أحد مشاهد “الوليمة الضخمة”. أراه، وهو يتسابق مع صديقه (القاضي) لمعرفة مَن يأكل المحار بشكلٍ أسرع! لا داعي للغوص بتفاصيل المشهد المقزّزة. أترك لكم، إطلاق العنان لمخيّلتكم. وبعد؟

اللبناني ضائع. لا يعرف متى يعود لبنان، إلى لبنان. مصيره معلَّق على حبال نزق وهوس ونكد وعنجهيّة وغطرسة وحقد “الرجال الستّة”. عالقٌ بين الأطباق الوسخة، في “وليمتهم الضخمة”. فهؤلاء اتفقوا، على جعْل “صلاحيّاتهم” تنحصر في تقاسم المواقع و”الغلّة”، تحت خرائب الدولة. أمّا مصير تلك الدولة، فمتروكٌ تقريره لأصحاب النفوذ ما وراء البحار والمحيطات! كائناً مَن كانوا. حتّى ولو كانوا إسرائيليّين! فبعض مهووسي الحُكم عندنا، لم يعودوا يجدون ضيراً من مشاركةٍ إسرائيليّة في شؤوننا. إسرائيل نعم إسرائيل، ولما لا؟ فشهوة السلطة، تشبه الأعشاب التي تنمو، فقط، في القِطع الشاغرة من الأدمغة المهجورة. وحبّ الذات لدى رجل السلطة (وليس رجل الدولة)، يقول الكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا، هو “حيوانٌ غريب. يستطيع النوم تحت أقسى الضربات. ثمّ يستيقظ وقد جُرِح حتّى الموت بخدشٍ بسيط”!

بعث لي أحدهم صورة كاريكاتوريّة. في هذه الصورة، طاولة جراحة تُسجّى عليها جثّة إنسان. ويتحلّق حول الطاولة، سبعة أطبّاء من اختصاصاتٍ مختلفة. كُتِب على الصورة ما يلي: “إنّ هذه الجثّة هي لمواطنٍ لبناني. يحاول الأطباء تشريحها، لمعرفة سرّ قدرة اللبناني على تحمّل الذلّ”

نعود إلى “الوليمة الضخمة”. فالرجال الذين ذهبوا لينتحروا بالأكل، إنّما كانوا يعانون من مشاكل نفسيّة جمّة! الأوّل عاجز. والثاني يعاني من مشاكل زوجيّة. والثالث يشكو من رفض المجتمع لمثليّته. والرابع تقمع صديقته نزواته! ومعروفٌ في علم النفس الاجتماعي، أنّ كلّ مَن يصل إلى السلطة ويكون عنده عقدة نفسيّة ما، تطرح عقدته ظاهرة خطيرة. فهو يصبح جلاّداً. وليس أيّ جلاّد. يكون جلاّداً مذعوراً. والجلاّدون المذعورون، يرغبون، عادةً، بالانتقام من واقعهم وماضيهم، في آنٍ معاً. لذا، لا تعود تقتصر صلاحيّاتهم على الزنزانات. بل إنّهم ينقلونها وسياطهم ووحشيّتهم معهم، أينما تنقّلوا. يحوّلون المجتمعات، حيث يحلّون، إلى مجتمعاتٍ مذعورة. إلى زنزاناتٍ كبيرة. وكلّ إنسانٍ يصبح معرَّضاً للقمع والعنف والإهانة والإذلال فيها، في أيّ لحظة. ومن دون سببٍ واضح، بالضرورة. تظلّ غرائزهم العدوانيّة مستيقظة ومستمتعة، بذلك الذعر الذي يسود. هذا السلوك، للإشارة، يكون في الغالب انتحاريّاً. وهذا ما حصل لنا بالضبط. فحُكّامنا وزعماؤنا وسياسيّونا، ينتحرون وينتحروننا معهم (انتحار جماعي على طريقة ماركو فيريري). ماذا بعد؟

إقرأ على موقع 180   عن كورونا ونظرية المؤامرة: غيتس ضحية أم مجرم؟

برأي أحد عمالقة الروائيّين الروس ليو تولستوي، “فإنّ الحرب التي تشنّها الدولة تُفسِد الناس في سنةٍ واحدة، أكثر ممّا تُفسِدهم جرائم النهب والقتل التي يرتكبها الأفراد في ملايين السنين”. نعم. هذا حالنا، نحن اللبنانيّين. ألم تُفسِدنا الحروب التي تشنّها دولتنا علينا؟ بلى وألف بلى. لقد أفسدت أرواحنا التي دَهَتْها دهياء. لم يعد أهل لبنان شعباً منهكاً ويائساً وبائساً فحسب، بل صار فاسداً. والفساد لا يعني، فقط، أن يسرق المرء. أو يرتشي ويُرشي غيره. أو يبيّض الأموال. ويهرّب الممنوعات. ويعقد الصفقات المشبوهة. الفساد هو نهجُ حياة. هو ثقافة، بالمختصر. ولأنّه تمرَّس على العيش الفاسد، إكتسب المواطن اللبناني مناعة. لا يؤثّر فيه ذلٌّ أو هوان. إذْ لشدّة ما يُصاب الأشخاص المحزونون بالإعياء، لا يعودون قادرين حتّى على التفكير في مصابهم، بحسب الكاتب أمين معلوف (في “التائهون”).

لكن، ماذا زرعنا كي نحصد كلّ هذه المناعة على الذلّ؟ أيُعقَل أن يحدث لنا ما يحدث لنا؟ ماذا ننتظر لننقضّ عليهم وندفنهم تحت سابع أرض؟

كلمة أخيرة. بعث لي أحدهم صورة كاريكاتوريّة، يتمّ تناقلها على مواقع التواصل الاجتماعي. في هذه الصورة، طاولة جراحة تُسجّى عليها جثّة إنسان. ويتحلّق حول الطاولة، سبعة أطبّاء من اختصاصاتٍ مختلفة. كُتِب على الصورة ما يلي: “إنّ هذه الجثّة هي لمواطنٍ لبناني. يحاول الأطباء تشريحها، لمعرفة سرّ قدرة اللبناني على تحمّل الذلّ”! إقتضى عدم التعليق، بل التعمّق أكثر في أسباب الذلّ اللبناني، هذا. للبحث صلة (بالإذن من الزميل حسين أيوب).

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  صفعةُ شيرين.. مراكمةٌ للوعي وتحصينٌٌ للذاكرة