حاولت أن أنسحب. الكلام ليس سهلاً. جمال عبد الناصر ليس كأي سياسي. له رمزية سياسية واضحة. عَبَرَ الماضي إلى المستقبل. دفع الثمن مراراً، الوثائق تُقدّم لنا قائداً صادقاً. صدى عبارة يُدندن في مخيلتي: “ارفع رأسك يا أخي”.. وكان أن ارتفعت قاماتنا وتنامت أحلامنا ورفعنا التزامنا بالحرية والقومية والوحدة. نعم. رفعنا رؤوسنا. كنا كثرة. هدَّفنا. قلنا: الحرية جائزتنا. (كان ذلك وهماً) العسكر والحرية نقيضان. العسكر يربح. الحرية تُؤسر. ظلّ وعد التحرير يراودنا. وحدة، حرية، اشتراكية. صدّقناها بصعوبة. السلطة في خدمة الإنسان. حصل العكس، الإنسان في خدمة السلطة. بين السلطة والتسلط، يتغير موضع حرف التاء فقط.
حدث أن رفع كثيرون رؤوسهم بناء على وعد الحرية وصراط المواطنة، وعلى أن تكون السلطة في خدمة الشعب، وليس الإنسان في خدمة السلطة. هذا، يُسمى استبداداً. وقد ذقنا طعمه. العقيدة الإنسانية تضع الإنسان في مرتبة المخدوم، وليس في مرتبة الخادم. الاستبداد إلغاء تام لوجود الكيان الإنساني. يصير الشعب رقماً. علماً أن الإنسان كائنٌ فردٌ حرٌ. كائنٌ يؤمن أن المستقبل أفضل.
قرأت “الثلاثية” بإمعان، ولم أكن حيادياً. ما جناه الدكتور كمال خلف الطويل، من طوافه الواسع، دفعني لأن أطلق عليه لقب السندباد، في رحلته الثلاثية.. نعم، ألقى كمال الضوء على مكونات الوثائق ومضامينها. عرضها في ثلاثية مُدعّمة بالوثائق، بثقة الباحث والملتزم مع نكهة تكرّرت تدل على انحيازه، وهذا أمر طبيعي في عالم السياسة. الانحياز ليس عيباً. الانحياز قانونٌ عامٌ. الناس لا يشبهون بعضهم بعضاً في السياسة.
مجلدان بأكثر من ألفي صفحة، “عبد الناصر كما حكم”، والمجلد الأخير بعنوان “البعث كما حكم”. لست أجرؤ هنا على إطلاق الأحكام، على ما جاء في المجلدات الثلاثة، إنما، من حقي أن أتساءل بحيادية، إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
جمال عبد الناصر، كان وعداً. كان أفقاً. كان حلماً. كان وعياً. كان حاجةً. العالم العربي، يدب على ماضٍ غث وأرضية اشتهتها قوى غربية وداستها بأطماعها. عبد الناصر لم يكن حالماً، كان يحمل مشروعاً للوحدة والحرية والاشتراكية. ألغى الحواجز بين الشعب العربي الواحد. خاطب “الأمة.. كل الأمة”..
من الوثائق نقرأ مساراً لسياسات مستحيلة. وخطوات تعرج من المحيط إلى الخليج. القيادة الناصرية، بلغت مدى عربياً من المحيط إلى الخليج. تدخّل عسكرياً في اليمن. النجاح عسير. الخسارة حتمية. الانسحاب ضروري. وحدة عسيرة مع دمشق، انتهت إلى صراع الجنرالات، فيما أصحاب العقائد باتوا في العراء. غريب: لا يأمن ولا يطمئن العسكر للمدنيين. ثمة فائض عسكري ونتف مطيعة من المدنيين. عسكرة العقائد وبال.. وهذا ما كان.
أقف عند هذا الحد وأنتقل إلى البنية في الدولة الأم: مصر. في الوثائق كلها، التي كانت سنداً للدكتور كمال، لا وجود لمجلس الشعب (البرلمان). لا حديث من قريب أو بعيد، عن مجلس الوزراء. الحرية ممنوعة من التداول. الشعب غير موجود. هو في النسيان وعدمية الوجود. لا أحزاب ولا نقابات حرة، ثم، إن العسكر لا ينشغل عسكرياً بمقدار ما ينشغل بالسياسة، الوافرة والجزيلة. برغم البعد “العقائدي” لجمال عبد الناصر، لا نجد إلا الأتباع. المفكرون؟ الحرية؟ الـ.. الـ.. كلها ممنوعة والمطلوب بشكل طبيعي، الالتزام بالطاعة أو الصمت السياسي.
لعل عبد الناصر أدرك أن الحرية هي أفدح الأخطار على السلطة التي يقودها عسكر.
هذا النهج الوحدوي، قسراً وعسكراً، تناسل في معظم الكيانات وأفضى إلى تكريس العنف. القبضة الحديدية، السلطة البوليسية. العسكرة قضاءً وفكراً وسياسةً واجتماعاً.. وقد أنتج ذلك أفدح السياسات.
إن حضور العسكر في السيرة السياسية فاضح. كل المراكز بيد العسكر. وهذا العسكر لم يُنتج إلا الهزائم والخسائر. والمؤسف أن لا محاسبة ولا نقاش ولا من يحزنون.
مثلاً؛ حرب حزيران/يونيو 1967. النكسة المهولة. “إسرائيل” تُدمّر وتهزم ثلاثة جيوش. يستعد عبد الناصر لإلقاء خطبة الوداع، العالم العربي تعرى. ذهول. بكاء. نشيج. شعوب طربت، تولول، ترقص.
غريب، لا شيء في المجلد الأول عن هذا. لا سؤال أبداً، عن الأسباب. حوار طرشان. استقالة أو لا؟ من يتحمل مسؤولية الهزيمة؟ اتهامات وتراشق. والغريب أكثر، أن الجميع يتناتش المواقع. خلافات طازجة، بعد الانهيار: من سيتولى قيادة الجيش؟ من يكون رئيس الوزراء. منْ ومنْ إلخ..
إنه لأمر فادح جداً. أن لا نقاش إلا في الحصص.
كيف ولماذا انهارت الوحدة المصرية ـ السورية؟ لا جواب لأن لا بحث فيها. إنما، هناك انهماك دائم، بمن سيتولى الحكم وتفرعاته. والغريب، أن الأكثرية عسكر بلا مدنيين.
من فدائح الوحدة أنها كانت قسرية وانقلابية. أدت إلى شعور السوريين بالتبعية الكاملة: فرض عبد الحكيم عامر، حاكماً مطلقاً على سوريا. ألحق عددٌ كبيرٌ من الضباط المصريين بالخدمة في وحدات الجيش السوري. 900 ضابط مصري لملء الشواغر. تسريح الضباط الشيوعيين ونقل آخرين إلى مصر. ولّد ذلك نفوراً بين السوري والمصري. وكانت كارثة الانفصال.. مؤسف: لم يسألوا لماذا؟
يشير الدكتور كمال خلف الطويل إلى العلاقات السيئة بين الجيشين السوري والمصري. ضباط مصريون يسيئون التعامل عمداً مع الضباط السوريين. عروبة مصر ولدت قبل أربع سنوات فقط. عروبة سوريا عريقة وأصيلة وصادقة. ليست ترفاً. إنها هوية. يضاف إلى ذلك ما يلي “أحزاب.. بح”.
ثم اختلط الحابل بالنابل. تشقق الالتزام العسكري: اقالات واستقالات.. وليس مستغرباً أو غريباً، أن أكثرية من تسلَّموا السلطة، كانوا من العسكر.. العسكر يقيم في الثكنات والمواقع. باختصار: الحاكم: مصري عنوة. المحكوم: وجوه سورية، عسكرية ومدنية. وصراعات كامنة، بين الضباط السوريين والعسكريتاريا المصرية. وأغرب أنماط الخلاف، بين عامر والسراج. عبد الحكيم عامر مصري وعبد الحميد السراج سوري.
الوحدة كانت شعاراً وأملا. تحوَّلت في سوريا، إلى مغانم ومواقع وتسلط. ما أشعر السوريين، بأنهم تحت نير الحزبيين والمناصب العسكرية..
النتيجة المؤلمة لم تحمِ عقيدة الوحدة. فاز الانفصال. وكان ما كان.
أمثولة لا بد منها وبلا تعجب: العسكر إن حكم. الصمت سياسة آمنة. الكبت تراكم أحقاد.. ومشروع تآمر.
حتى أقرب المقربين لعبد الناصر شكا بمرارة، ما آلت إليه الكراهية المتبادلة. عبد الحميد السراج أفصح وقال:
-إن للإقليم كرامة، لن أسمح بأن تداس كرامة الإقليم.
-لن أسمح بأن تكون سوريا مزرعة لمصر.
إنهم يحاولون اظهاره بمظهر الحاكم البوليسي، فيما هو لم يفعل شيئاً إلا بأوامر منهم.
فشلت الوحدة القهرية. تنامى العداء. وئدت الأحلام. لا وحدة بعد اليوم، قبل يومها وبعدها. عبد الحميد هو الابن المدلل لعبد الناصر في سوريا.
خلاصة بديهية: الوحدة لا تعني الاستيلاء على السلطة، ونتائج فشلها كارثية. أكثر من ثلاثين صفحة في المجلد الأول. وأكثر من انهيار ونبوءة نهاية الوحدة.
ملاحظة: فركت إسرائيل يديها فرحاً. الوحدة صارت وهماً.
هل كان الفشل نصيب عبد الناصر؟
فشل في اليمن. فشل في سوريا. ثم كانت الطامة الكبرى: هزيمة حزيران ووصول قوات الجيش الإسرائيلي إلى قناة السويس، واحتلال الجولان، والسيطرة الكاملة على فلسطين.
الغريب جداً جداً جداً، أن الخطوة الأولى كانت باستقالة القائد. وهذا ما رفضته الشعوب العربية التي نزلت واحتلت الشارع، مانعة تنفيذ قرار الاستقالة.. حسناً، عاد عبد الناصر عن الاستقالة، وبدأت سلسلة من الاجتماعات.. غريب، لم يكن السؤال: لماذا انهزمنا، أبداً.
أخيراً، بعض المقتطفات.
أولاً؛ عدد العسكر المصري في سوريا كان أكبر من عدد القادة السوريين.
ثانياً؛ الوحدويون السوريون طوردوا. صار الحكم مصرياً.
ثالثاً؛ رواية تدمير سلاح الطيران في المطارات المصرية، ودور عامر.
رابعاً؛ خلاف حول الانسحاب من سيناء.
لم يكن خروج الجيش المصري انسحاباً. الشهداء بالآلاف. 10 آلاف عسكري. 500 ضابط. خسارة 800 مدفع و700 دبابة.. وكل الحق عالمشير.
أختصر الكلام، وأدعو إلى قراءة الثلاثية، لأنها تضيء لنا عتمة ذلك الزمن الكئيب. شهادة في الهزيمة قول لعبد الناصر: “رجعت بقى القيادة الخميس بالليل 8 يونيو. كان تقريباً الجيش خلص. وأصبح لا مفر أمامنا.. يا نقبل وقف اطلاق النار، يا اليهود يبقوا موجودين هنا بعد ساعتين في القاهرة”.
كتب عبد الناصر تقييمه. غريب. الفداحة، سببها عبد الحكيم عامر.
تحميل عبد الحكيم عامر كل المسؤولية غلط. انهيار الوحدة، بسبب غلو السيطرة والاستبداد والاستعلاء والـ.. والخسائر العسكرية في ما بعد، كانت نتاج سياسات، لا نتائج وقائع الميدان.
هناك إدمان عربي على الهزائم، باستثناء فلسطين. الذين يقاتلون في غزة ليسوا من البضاعة العسكرية. العسكر شيء والمقاومة من فقه الانتصارات.
آمل قراءة هذه الفصول بدقة، لأنها مدرسة متقنة، لارتكاب الفشل.
أخيراً، أعتذر عن مناقشة الكتاب الثالث: “البعث كما حكم”. لأنه لا طاقة عندي لاحتمال المزيد من القهر والعنف والخسران والتفتت والتشرذم.
أختم بنبوءة الدكتور كمال: “ستطول محنة العراق، ومعه محنة الإقليم والأمة وعالم الإسلام والعالم الثالث”.
نبوءة للأسود الآتي.
الكوارث في انتظارنا.
وبرغم هذا السواد، لست متشائماً. غزة، أكبر من الغارات. إسألوا العالم. إنه مع غزة القضية التي أصبحت الرتبة الإنسانية الأولى.