لم تكن محاولة اغتيال دونالد ترامب حادثة فريدة واستثنائية في تاريخ الإغتيالات أو محاولات الإغتيال الرئاسية في الولايات المتحدة، وعلى الأرجح لن تكون الأخيرة، ففي قائمة الذين قضوا نحبهم اغتيالاً، أربعة رؤساء، فيما نجا اثنا عشر رئيساً أميركياً من لظى الإغتيال، وتشمل لائحة الرؤساء المُغتالين الأسماء الآتية:
أولاً؛ ابراهام لينكولن (1809ـ1865):
ربما لم يخطر على بال الرئيس الأميركي السادس عشر، ابراهام لينكولن، أن يرديه قاتل من الولايات الجنوبية التي كانت تلقت هزيمة ساحقة قبل سنة من عملية الإغتيال، ففي عقيدة المقتول أن حربه ضد الجنوب، المعروفة بـ”الحرب الأهلية” (1861 ـ 1864) كان لها هدفان جليلان هما “وحدة الدولة الإتحادية” و”تحرير العبيد” من ربقة الأسياد ونيرهم.
وإشكالية العبيد كانت تفجرت عام 1860 في عهد الرئيس جيمس بيوكانان المنتمي إلى الحزب الديموقراطي، وانقسم الديموقراطيون عشية الإنتخابات الرئاسية في ذلك العام كما يقول أودو زاوتر في “رؤساء الولايات المتحدة” ويجاريه آخرون في رأيه كما في “موجز تاريخ الولايات المتحدة” لآلن نيفيز وهنري كوماجر “فالحزب الجمهوري اقبل على الإنتخابات بوحدة كاملة” وفيما لم يتقدم بيوكانان للترشح لولاية ثانية، وبما أن الديموقراطيين كانوا منقسمين على أمرهم، فقد أتاح انقسامهم للجمهوري ابراهام لينكولن أن يفوز في الإنتخابات الرئاسية”.
وقبل أن يتسلم لينكولن مهامه الرئاسية، كانت ولاية ساوث كارولينا المؤيدة للعبودية أعلنت انفصالها عن الولايات المتحدة، وتبعتها ست ولايات على عجل، وهكذا ما أن استقر لينكولن في البيت الأبيض في الرابع من آذار/مارس 1861 حتى كانت الحرب الأهلية تُلهب الولايات المتحدة بشمالها وجنوبها، فالشمال كولايات صناعية كان يبحث عن أسواق داخلية وجدها في الجنوب الذي كان اقتصاده يقوم على القطاع الزراعي، والعبيد المستجلبون من القارة الأفريقية عماد هذا القطاع، وثمة شروحات وافية حول الصراع بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي في “موجز التاريخ الأميركي” الذي أشرف على إعداده وود غراي أستاذ التاريخ الأميركي في جامعة واشنطن وريتشارد هوفستدتر أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا في نيويورك.
في الثاني عشر من نيسان/أبريل 1860، بلغ عدد الولايات الجنوبية المنفصلة عن الإتحاد 11 ولاية، وفي هذا اليوم اتخذ لينكولن قرار الحرب على الجنوب تحت شعار “وحدة الدولة والحفاظ على الإتحاد”، وخلال الحرب الضروس التي استمرت أربع سنوات قُتل 600 ألف أميركي، بحسب ستيفن فنسنت بنيه في كتاب “أميركا” الصادر عن “مكتب الولايات المتحدة للإستعلامات” عام 1945.
وفي قراءة جون ستيل جوردن في “امبراطورية الثروة” المنقول إلى العربية ضمن سلسلة “عالم المعرفة” أن الحرب الأهلية الأميركية “كبرى الحروب التي شهدها العالم الغربي في القرن الفاصل بين معركة واترلو (نابوليون بونابرت) عام 1815 والحرب العالمية الأولى عام 1914 وتجاوز العدد الكلي للطرفين المتحاربين نحو 3 في المائة من الذكور، أي أربعة أضعاف خسائرنا البشرية في الحرب العالمية الثانية”.
ومع هذه القراءة يتفق المؤرخ الأميركي اريك فونر في “ثورة لم تكتمل” حيث يقول “في الأزمة التي اعقبت انتخاب لينكولن عام 1861 انسحب من الإتحاد 11 ولاية من ولايات الرقيق، معجلة بأكثر الحروب دموية في نصف الكرة الغربي على الإطلاق” فجنوب الولايات المتحدة كان “قطع عهداً على نفسه ألا يقبل رئيساً من الجمهوريين”، كما يؤكد ستيفن فنسنت بنيه، واستمر المندوبون الجنوبيون في المجمع الإنتخابي الرئاسي يحجبون أصواتهم عن المرشحين الجمهوريين حتى عام 1928 مثلما يرد في “موجز تاريخ الولايات المتحدة”.
كان من نتائج تلك الحرب، أنه في الرابع عشر من نيسان/أبريل 1865، كما يروي زاوتر، “كان الرئيس (لينكولن) وزوجته يشاهدان مسرحية، وتمكن متآمر يُدعى جون ويلكس بوث من ماريلاند ومتعاطف مع الجنوب، من التسلل إلى حجرة الرئيس وأطلق رصاصة على رأسه ثم قفز إلى المنصة صارخاً: هذا هو مصير الطغاة”.
ثانياً؛ جيمس غارفيلد (1831 ـ 1881):
أتى هذا الرئيس المصنف في قائمة العشرين من بين الرؤساء الأميركيين بعد خلافات عاصفة داخل الحزب الجمهوري، فقد تم اختياره إثر 36 دورة انتخابية حزبية، وقبل القبض على سلطاته الدستورية، تفاوض مع مجموعة الضغط “ستال وارتس” في نيويورك حول توزيع الوزارات والمواقع الإدارية في عهده، لكنه لم يفِ بوعده، فأقدم على تعيين جيمس لاين وزيراً للخارجية، وهو مناهض لـ”ستال وارتس” طبقاً لنص زاوتر، مما دفع شخصاً فاعلاً في المجموعة إلى إطلاق النار عليه ولقي حتفه في 19 أيلول/سبتمبر 1881، ولم يكن قد مضى على رئاسته سوى ستة أشهر.
وعن اغتيال غارفيلد، يروي اللبناني باسيليوس الخرباوي أسباب الإغتيال في “تاريخ الولايات المتحدة” الصادر في نيويورك عام 1913 فيقول:
“أرسل الرئيس إلى الكونغرس أسماء الوزراء وغيرهم، فتمت المصادقة، وباشرت الهيئة الجديدة وظائفها، وتعكر جو الهيئة بغيوم المشاحنات، فانشطر الحزب الجمهوري إلى قسمين، الأول تلقب بإسم هافبريدس، والثاني ستال وارتس، ووجه الخلاف أن رجال القسم الثاني كانوا يقولون إن الوظائف المختلفة في الولايات يجب أن تُمنح بمعرفة نواب تلك الولايات، وأهم ما قام الخلاف عليه تعيين مدير عام لمرفأ نيويورك، فاعترض على ذلك التعيين نائبا ولاية نيويورك، وحمي وطيس الجدال واتسعت دائرة الشقاق في الحزب الجمهوري حتى خشي عليه من الإنحلال والتلاشي، وفي الثاني من تموز/يوليو دخل ـ غارفيلد ـ محطة سكة الحديد في أوهايو، وإذ بمفتون سياسي يُدعى شارلز غيتو، يُباغت الرئيس من وراءه ويُطلق عليه عيار مسدسه”.
ثالثاً؛ وليام ماكينلي (1843 ـ 1901):
الرئيس الخامس والعشرون للولايات المتحدة، وترتبط عملية اغتياله بعاملين، الأول ذو خلفية اقتصادية ناتجة عن انهيار “البيوت التجارية وإغلاق المصارف أبوابها وانتقال السكك الحديدية إلى أيدي الدائنين واستيلائهم على المرهونات واقفال المصانع ووقوف المتعطلين أمام مطابخ الحساء” للحصول على بعض من القوت، على ما جاء في “موجز تاريخ الولايات المتحدة”.
والعامل الثاني يتعلق بشيوع مفاهيم الحركة الفوضوية، ووفقا لـ”رؤساء الولايات المتحدة” أن ماكينلي “ذهب في أيلول/سبتمبر 1901 إلى بوفالو ـ في ولاية نيويورك ـ وأثناء حفل استقبال أقيم ـ له ـ في باحة المعرض أصيب برصاصتين من أحد الفوضويين” وفي ” موجز تاريخ الولايات المتحدة” أطلق “أحد الفوضويين على ماكينلي الرصاص في 6 أيلول/سبتمبر 1901” والفوضوية هي المصطلح الموازي لمفهوم “اللاسلطوية” المناوئة لكل أشكال الدولة وتراتبية المواقع الإدارية، ومعروفة بـ”الأناركية” ذات الجذر الإصطلاحي اليوناني.
بعد القاء القبض على قاتل ماكينلي، تبين أنه من أصول بولندية وإسمه ليون كولجوش، وفي جلسات محاكمته كان يردد بلا انقطاع “إني قتلت رئيساً عدواً للناس الطيبين، وكيف لإنسان (ماكينلي) أن يحظى بتقدير لا يحظى به غيره” ونُفذ حُكمُ الإعدام بالقاتل بالكرسي الكهربائي.
إلا أن المفاجأة في عملية الإغتيال تمثلت بتوجيه أصابع التحريض إلى إيما غولدمان، المرأة اليهودية من أصول روسية وقائدة الحركة “الأناركية”، ولما اعتقلتها السلطات الأميركية، تدخل كنيس يهودي في نيويورك للإفراج عنها، وحين شهدت الولايات المتحدة سلسلة تفجيرات غير مسبوقة عام 1919، تبين للسلطات المختصة أن غولدمان هي المُحرّضة على أعمال التفجير، فطردتها من الولايات المتحدة لتستقر في روسيا، لكنها انشقت عن النظام السوفياتي وهاجرت إلى أوروبا متنقلة بين دول عدة إلى أن حطّ مطافها الأخير في كندا وتوفيت عام 1940.
رابعاً؛ جون كينيدي (1917 ـ 1963):
أكثر الرؤساء الأميركيين شهرة، وهو الديموقراطي الوحيد الذي اغتيل، في حين أن الرؤساء السابقين المُغتالين من الجمهوريين، ولغاية الآن لم تُعرف دوافع اغتياله في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1963، وفي العرض الذي يقدمه زاوتر حول مشاريعه الداخلية الطموحة التي لاقت رفضاً عنيداً من قبل المحافظين في الحزبين الديموقراطي والجمهوري ما يجلب الشك إلى “مؤامرة” ما، أدت إلى اغتياله حين كان وزوجته جاكلين التي لا تقل شهرة عنه، يُروّجان لحملته الإنتخابية الثانية ويجولان في سيارة مكشوفة السقف في مدينة دالاس بولاية تكساس.
ومن بين تلك المشاريع التي حاول كينيدي إطلاقها، تنمية “المناطق الرازحة تحت البؤس والحرمان وتحسين أوضاع السكن في المدن وتعديل قانون الضرائب، وتغيير طريقة إعطاء المعونات للمزارعين، والنهوض بقطاع التعليم، وتأمين ضمان صحي فعّال للمسنين” بحسب زاوتر.
وإلى ذلك يضيف ألن نيفيز وهنري كوماجر في مؤلفهما “موجز تاريخ الولايات المتحدة” أن كنيدي الآتي إلى الرئاسة الأميركية من بيئة كاثوليكية ومن جذور إيرلندية (الصراع البروتستانتي ـ الكاثوليكي) كان يعي معنى الإضطهاد، وهذا ينسحب على الزنوج، فمدارسهم “أدنى شأناً من مدارس البيض، والشباب الزنوج ممنوعون من دخول الجامعات (بعض الولايات) وكان على الزنوج أن يركبوا حافلات لا يركبها البيض، وأن يتناولوا الوجبات الخفيفة على موائد خاصة للملونين، وأن يسبحوا على شواطىء منفصلة عن شواطىء البيض، بل أن يعبدوا الله في كنائس مخصصة للسود، وكان بوسع البيض أن يقتلوا الزنوج في أعماق الجنوب ويفلتوا من العقاب”.
هذه الصورة التي تختصر واقع الفصل العنصري حاول جون كينيدي مواجهتها على ما يقول مؤلفا الكتاب المذكور سابقاً “ولم يكن لأي موضوع لدى الرئيس كينيدي أهمية تفوق الحقوق المدنية” إذ أدرك جرّاء حسن قراءته للتاريخ أن الولايات المتحدة تكاد “تفقد زعامتها الأدبية بفعل المظالم التي تُلحقها بمواطنيها الزنوج، وفي نداء مؤثر في حزيران/يونيو 1963 وقبيل اغتياله بأشهر قال محذراً، إننا نواجه أزمة خُلقية، لا سبيل للتصدي لها بأعمال بوليسية أو تهدئتها برمزية الكلام، لقد حان وقت العمل في الكونغرس، لكن الكونغرس لم يشأ العمل، واستمرت الأعمال الوحشية والظلم والإحباط والتعصب العنصري، واستمرت التظاهرات وبلغت ذروتها في مسيرة هائلة إلى واشنطن ضمت 200 ألف زنجي في أواسط صيف 1963”.
بعد عقدين على اغتيال كينيدي، نشرت مجلة “العربي” الكويتية (1 ـ 11 ـ 1984) عرضاً لكتاب بعنوان “آل كينيدي والحلم الضائع” لجون هامون يرى فيه أن كينيدي اعتمد سياسة أميركية جديدة في الخارج والداخل “تخفيف حدة التوتر مع الإتحاد السوفياتي؛ التقرب من (شارل) ديغول الذي اعتمد أسلوباً يُبعده عن التبعية الأميركية؛ حاول إنهاء مشاكل الزنوج الأميركيين، لكنه كممثل للطبقة الفوقية الأميركية اصطدم بالإتحاد السوفياتي في كوبا، واصطدم في الداخل مع أصحاب الإحتكارات، وخصوصا احتكار الصُلب، واصطدم مع أبناء طبقته التي بدأت تشعر بخطورة سياسته وتأثيرها السيء على أرباحهم، لم يصل التحقيق بمقتل كينيدي إلى شيء، ضاعت القضية وضاع صاحبها”.
ماذا تغيّر منذ عام 1984 تاريخ صدور ذاك الكتاب الذي انتهى مؤلفه إلى القول إن القضية وصاحبها ضائعان؟ لم يتغير شيء، وما فتىء الرصاص ينهمر على الرؤساء الأميركيين والمرشحين للرئاسة الأميركية، وآخر المشاهد محاولة اغتيال ترامب.
آخر الكلام قصيدة:
عن حرية تجارة السلاح واقتنائه في الولايات المتحدة نظم الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو قصيدة، يقول في بعض أبياتها:
“يوماً بعد يوم
يكتسب لون تمثال الحرية شحوب الموت
يا أميركا: من شدة حبك لحرية الرصاص
تطلقين النار على نفسك كل يوم”.