تحيّة إلى الشّهيد “الحاج”.. الكوموندَنتي ـ تْشي جيفارا

رأينا في ما سبقَ من هذا الحديث (بعنوان: "متى نخرجُ من هذه الحياة، ونرتاح؟") أنّ وضع الحياة الدّنيا هذه مذرٍ بلا أدنى شكّ، والشّرّ والظّلم والمعاناة في سدّة الحكم في كلّ مكان.. أقلّه في الظّاهر. الوضعُ في هذا العالم الظّاهر صعبٌ ومُظلمٌ، ولا بُدّ إذن من "الفرار" سريعاً، كما قلنا سابقاً: من الله.. إلى الله! (وهل يُمكن الفرار مِن-هُ إلّا إلي-هِ مولانا؟ وذلك ما سنعود إليه في الأجزاء اللّاحقة إن شاء الله).

أمّا كيفيّة الخروجِ من الحياة الظّاهرة هذه، فقد رأينا أنّها تأخذ أشكالاً متعدّدة، وقد سبق وذكرنا أوّلَ هذه الأشكال: الخروج “مِن” الدّنيا، وهو خيار بعضِ النّسّاك والرّهبان والفلاسفة والسّالكين. وسنرى أنّ مذهب صاحب هذا المقال يميل – حتّى الآن – إلى مدرسة الخروج “من خلال” الدّنيا، وليس “منها”.

ولكن، بين المذهبَين المُحترَمَين السّابقَين، هناك مذهبٌ ثالثٌ، قد يكون أكثرها رومنطيقيّةً وتراجيديّةً وعُنفاً في الوقتِ عينِه. ويمكن تسميةُ المذهب الأخير هذا: بمذهب الخروج “على” الدّنيا. فهناك من النّاس من وصل ويصل إلى قناعةٍ بأن ليس هنالك من حلّ مع هذه الدّنيا إلّا بالخروج.. عليها: أي بالانقلاب والثّورة على ما تُظهره لنا من أدران وقبائح وشرور وبغي ومعاناة. علينا أن “نُغيّر” هذه الدّنيا وسريعاً. الحلّ هو بالانقلاب على الواقع!

إنّه، بامتياز، مذهب ثوّارٍ كبار كُثُر عرفهم تاريخنا البشري، من أقصى الأرضِ إلى أقصاها. ولكنّ رمزَهم الأكبر والأجمل والأرقى في عصرِنا هو، بلا أدنى شك: ملهم الثّوار، وشُعلة الأحرار، وكابوس الفُجّار.. الكرّارُ غيرُ الفرّار، “الحاج” في طريق العدل والحريّة، الشّهيد والقائد العالمي: الثّائر الأرجنتيني-الكوبي، إرنستو “تشي” جيفارا (Ernesto “Che” Guevara de la Serna, 1928-1967).

إذا ما تأمّلتَ جيّداً في سيرة هذا الرّجل العظيم، يتراءى لك مفهوم “الخروج على الدّنيا” بوضوح شديد، وعند أهمّ محطّاتِ حياته، إلى أن يستشهد مجاهداً ومظلوماً، عام ١٩٦٧، على أيدي بعض الجنود البوليفيّين المحجوبين، والمدرَّبين من قبل خبراء وضبّاط “وكالة الاستخبارات المركزيّة” الأمريكية (CIA).. وهو لم يصل بعدُ إلى الأربعين من عمره على هذه الأرض.

علمٌ يلتقي علماً

“خرجَ” ال-تْشِي (Le Ché) أوّلاً من منزل والدَيه في الأرجنتين، وهو تلميذٌ طبيبٌ قريبٌ من التّخرّج حسبما تروي صحاحُ الماركسيّة اللّاتينيّة[1]. فهاجرَ مستكشفاً بعض مناطق أميركا اللّاتينيّة على ظهر درّاجة ناريّة (غدت أسطوريّة في ما بعد). فرأى بأمّ عينه وقلبه، على ما رواه لاحقاً، وضع المزارعين والعمّال وغيرهم من الشّعب في هذه المناطق: فقر، واستغلال، ومَظلمة، وقمع، وفساد. عاد تشي جيفارا بعد سنتين، أي عام ١٩٥٣، إلى غواتيمالا “خارجاً” مرّةً أخرى، حيث يُقال إنّه تعرّف هناك على فكر الشّيخِ الشّيوعيّ الأكبر، وعلَمِهم الأحمر، كارل ماركس (ت. ١٨٨٣)، وبشكل خاص على يدِ امرأة ستصبحُ في ما بعدُ زوجَته الأولى.

ماركسيّاً مخلِصاً وخالِصاً تقريباً.. وصلَ التْشِي من هذه المحطّة إلى المكسيك، حيث التقى بعَلمٍ ثوريٍّ كونيٍّ آخر – أكثر براغماتيةً ودهاءً على ما يبدو، ولكن، ليس أقلّ عشقاً وشجاعةً وجنوناً – ألا وهو القائد الثّوريّ الكوبيّ الخالد: الـFidèle المخلص، الكومندَنتي الأكبر، فيديل كاسترو روز (ت. ٢٠١٦). ثمّ “خرجَ” التْشِي مع فيديل وبعض الرّفاق مرّة أخرى في غزوة مجنونة على متن سفينة صغيرة سُمّيت من قبلُ بالGranma، إلى أن انتهت به الطّريق، بعد انتصار الثّورة الكوبيّة ببضع سنين، إلى “الخروج” مجدّداً – حتّى من كوبا التي عيّنه فيها كاسترو وعلى التّوالي: قائداً ثوريّاً (كومندَنتي)، ثمّ رئيساً للمصرف الوطني ووزيراً للصّناعات.

لا يمكن لـ”الحاج جيفارا” أن يقبل أيّ مساومة على قاعدة أنّ “الغاية تبرّر الوسيلة”.. أو على قاعدة أنّ علينا تأجيل تطبيق المبادئ الكبرى بسبب مساومات ومفاوضات مرحليّة. إمّا أن نكون أنقياء في حياتنا.. أو أن نموت أنقياء

من أوّل رحلة حجّ على ظهر الدّرّاجة النّاريّة، إلى آخر “خروجٍ” من منصب الوزارة والقيادة.. إلى المحطّة الأخيرة على هذه الأرض، وهي محطّة الجهاد العسكري المباشر إلى جانب “المستضعفين في الأرض” خارج حدود كوبا.. في أدغال الكونغو ثمّ في جبال بوليفيا النّائية حيث كان استشهاده البطولي: كان “الحاج جيفارا” يتحرّك ضمن مفهوم “الخروج على الدّنيا”. علينا أن نثور على الظّلم حيث كان. علينا أن نهزّ عروش المستكبرين حيثما وجدوا. علينا أن نتحرّك سريعاً في سبيل تحقيق ثورة طبقة البروليتاريا على طبقة البرجوازيّة الرأسماليّة، تماماً كما سعى وتوقّع كارل ماركس. علينا أن نُغيّر هذه الدّنيا وهذا العالم: بالجهاد وبالنّضال، وبالكفاح السّياسي والاقتصادي والثّقافي والعسكري. إمّا أن تكونَ حياتُنا ثورة عالميّة مستمرّة.. أو لا تكون. وفي النّهاية: إمّا انتصارٌ وفتحٌ مبين.. وإمّا شهادةٌ مشرّفةٌ ولو في الغربة والعراء والبلاء!

هل كان شخصٌ مثل جيفارا يعيش بيننا حقّاً؟

وجهٌ شديد الجمال والطّيبة. جاذبيّة قياديّة وثوريّة لا مثيلَ لها.

 إيمانٌ راسخٌ ومخلصٌ.. بمبادئ وقضيّة. طبيعةٌ عالميّةٌ للعقيدة.. لا تمييز فيها ولا عنصريّة.

وقوف إلى جانب الضعفاء والمستضعفين. مقاومة مبدئيّة للمحتلّين والمستعمرين. وقوفٌ ضدَّ الأمبرياليّات الظّالمة (كما يراها هو): وقوفٌ ثابتٌ ومبنيٌّ على عقيدة واضحة.

على المستوى الشّخصي: صلابةٌ، وثباتٌ، وهيجانٌ ثوريٌّ مستمرّ.. وعزمٌ، وقوّة. أضِف إليها ما يميّز التْشي عن كثيرٍ من الثّوريّين الآخرين حول العالم: طيبةٌ بيّنةٌ على وجه صاحبها، ومحبّةٌ عميقة للثّورة، وأملٌ عظيمٌ في الإنسان ومستقبله.. برغم حجم الصّعوبات والآلام.

أضف إلى ذلك: رومنسيّة أمريكيّة-لاتينيّة لا مثيل لها، يشترك فيها مع رفاقه، لا سيّما في تيّار الثّورة الكوبيّة. الرّومنسيّة الثّوريّة سمة ممَيِّزة للثّورة الكوبيّة منذ ما يقارب القرنين، وخصوصاً ثورة ١٩٥٩. كم نحتاج إلى هذه الرّومنسيّة وكم نتوق إليها في عالمنا العربي الذي أمسى يتصحّر قلبه يوماً بعدَ يوم.. تيمّناً بصحرائنا الأولى.

إقرأ على موقع 180  وحيد حامد.. ونبوءته السياسية

غير أنّ هنالك ميزةً أخرى في شخصيّة التْشي، تجعله فريداً ومتعالياً بين القادة الثّائرين حول العالم وبامتياز: “المبدئيّة” القيَميّة، ورفض المساومات على المبادئ العقائديّة والمبادئ الأخلاقيّة (كما يؤمن بها هو طبعاً). لا يمكن لـ”الحاج جيفارا” أن يقبل أيّ مساومة على قاعدة أنّ “الغاية تبرّر الوسيلة”.. أو على قاعدة أنّ علينا تأجيل تطبيق المبادئ الكبرى بسبب مساومات ومفاوضات مرحليّة. إمّا أن نكون أنقياء في حياتنا.. أو أن نموت أنقياء. قد تكون هذه الميزة الأعظم عند تْشي، إلى جانب كلّ ما سبق، هي التي جعلتهُ الرّمز الأكبر للثّائرين في عصرنا وبامتياز.. وهي أيضاً التي قتلتهُ بعدَ أن فرّقته عن بعض صانعي القرار السّوفييت، وعن قائده ورفيقه فيديل كاسترو.

ظاهرة “الحاج جيفارا” وظاهرة الثّورة الكوبيّة ليستا بالأمر العابر في التّاريخ الإنساني، ولا بالنّسبة إلى مستقبل البشريّة. كما تحدّثنا في مقالاتنا السّابقة حول الثّورة العالميّة والثّورات العربيّة-الإسلاميّة.. فمن الواضح بالنّسبة إلى كلّ ذي بصيرة أنّ القصّة لم تنتهِ وأنّ الرّحلة مستمرّة، وليصبرْ وليتحضّرْ وليرابطِ الأحرار والثّائرون، فإنّ “نصر الله” (أو نصر “الوعي الكوني” أو نصر-“هُ”) قريبٌ ولكنّ أكثر النّاس محجوبون.

أرى أنّ على المقاومين الحاليين في منطقتنا تبنّي عمليّة إكمال موجة جيفارا واندفاعة الثّورة الكوبيّة (برأيي الشّخصي طبعاً)، فالطّريق، كما سبق وذكرنا، لم تنتهِ.. والموجة الثّوريّة العالميّة عائدة لا محالة، ولو تغيّرت المفاهيم والأيديولوجيّات التي تعتمدها (راجع مقالنا بجزئيه الأول والثاني حول الثّورة الماركسيّة العالميّة). أعتقد أنّه علينا إعادة تْشي جيفارا ورفاقه إلى مجموعة شعاراتنا ورموزنا المقاوِمة والثّوريّة في لبنان والمنطقة.

“إلى الأبد أيّها القائد[2]

 قد يسألنا السّائلُ، مجدّداً: كيف يمكن لمن ينطلق في “حركيّته” من عقيدة دينيّة وضمن بعدٍ صوفيّ وعرفانيّ.. أن يمجّد رجلاً “ماركسيّاً”، “مادّيّا” على الأرجح بالمعنى الفلسفي، كتْشي جيفارا؟ نحيلُ، في هذا الإطار، السّائلَ هذا وغيرَه إلى مقالاتنا السّابقة حول البعد الصّوفي-العرفاني للدّين، وحول مقترحاتنا الأوّليّة في سبيل تجديد الفكرَين الثّوريّين الإسلامي (والرّوحاني-البُعد عموماً) والماركسي. ونجدّد، في هذا الإطار أيضاً، دعوتَنا إلى الخروج سريعاً من النّظرة الإثْنينيّة – التي لا يُعوَّلُ عليها عندنا – إلى “المادّة” من جهة، وإلى “الرّوح” من جهة ثانية.

في خاتمة هذا المقال، يبقى السّؤال الأساسي والأعمق طبعاً: هل يمثّل هذا النّوع من الخروج على الدّنيا الطّريقة الأقربَ إلى الصّواب والحكمة برأينا؟ ليس تماماً، مع عشقنا لكثيرٍ من تلك التّجارب الإنسانيّة الرّائعة والسّاحرة، وعلى رأسها، في عصرنا، تجربة الحاج الكومندَنتي جيفارا. ولنا عودةٌ إلى ذلك النّقاش في الجزء التّالي إن شاء الله تعالى، كما سبق وأشرنا..

إلى “من” كان ينظرُ جيفارا؟

لطالما تساءل الكثيرون في أيّ “اتجاه” كان التْشي ينظر في الصّورة الشهيرة له المأخوذة عام ١٩٦٠ من قبل المصوّر الكوبي المعروف باسم ألبرتو كوردا، وذلك أثناء تشييع شهداء التّفجير المريع لسفينة فرنسيّة راسية في ميناء العاصمة الكوبيّة هافانا. يقال إنّ السّفينة تلك كانت تحمل أسلحة وذخائر للحكومة الثّوريّة الكوبيّة المقاوِمة (من قبل الحلفاء الاشتراكيّين، على الأرجح تحت رعاية الإتّحاد السّوفياتي في حينها وذلك تفصيلٌ آخر).

إلى ماذا أو إلى من كان ينظر “تْشي” في هذه الصّورة التي تكادُ تكون أيقونة مقدّسة عند الملايين (وليس عن عبث بالطّبع)؟ أمّا صديقه الذي كان حاضراً في تلك الجنازة على ما يظهر من الصّور، الفيلسوف الوجودي الفرنسي الأكبر، جان بول سارتر (ت. ١٩٨٠)، فقد يعتبرُ أنّ “الحاج” الثّائر كان ينظر في اتّجاه ماهيّة الإنسان الثّوري الكامل[3]، قاصداً أن يجعلها متحقّقة – من خلال عمله – في الوجود.

لن ندخل هنا في نقاش مع الشّيخ الأكبر سارتر، ولا مع صاحبته الكبيرة سيمون دي بوفوار (ت. ١٩٨٦؛ والحاضرة في ذلك التّشييع أيضاً)، حول أصالة الماهيّة وأصالة الوجود، ووحدة الوجود والمَوجود.. ولكنّني سأكتفي بالإفصاح عمّا أراه شخصيّاً (بالقلب قبل العين) في هذه الصّورة العظيمة أو من خلالها: لا بدّ أنّ “أحداً” يحاول أن يقول لنا، عبر هذه الصّورة، أن “لا مكان للتّراجع، لا مكان للضّعف، لا مكان للذّل!” في هذه الطّريق. ويحاول أيضاً أن يقول لنا، “أحدٌ”: إنّ ساعة انتصار العدل لا ريبَ فيها، حتّى على هذه الأرض (عجّل الله ذلك الفرج الموعود)، وأنّ الأرض لا شكّ.. سيرثُها العبادُ الصّالحون!

(بعد الانتهاء من قراءة هذا المقال، من يرغب مثلي بإشعال سيجارٍ ثوريٍّ كوبيٍّ مُبين.. أنصحه بالاستماع معهُ إلى الـHasta Simpre لكن بنسختها الكوبيّة الأصليّة بصوت الفنّان الكبير Carlos Puebla).

[1] تُفيدُ المصادرُ بأنّه قد تخرّج فيما بعد، فأصبح طبيباً بالفعل.

[2] طبعاً، من كلمات النّشيد الكوبي الثّوري الرّومنسي الخالد: Hasta siempre, Comandante!

[3] يقال إنّه – أي سارتر – اعتبر جيفارا: “أكملَ” إنسانٍ في عصره! هل نعي حجم قول كهذا من على لسان رجل كسارتر؟

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مستر بلينكن؛ عندما يَعْجَزُ الكلام.. تموت الإنسانيّة