نام اللبنانيّون مساء الأربعاء، على جري عادتهم منذ ثلاث سنوات، وجبل الهموم والأخبار المقلقة جاثمٌ على صدورهم. فالغد سيحمل لهم في طيّاته الردى، في جميع الأحوال. فجأةً، استفاقوا فجر الخميس على خبرٍ مُفرح. خبر، بلسم نَزْراً من القهر الذي يعيشونه. وحمل لهم، من خلف البحار، الأمل. مثلما تحمل حبّة العنب الشمس والثمالة! فلقد فازت الفرقة اللبنانيّة للرقص الاستعراضي “ميّاس” بلقب البرنامج الأكثر شهرةً في أميركا والعالم “America’s Got Talent”. وصارت الدنيا تتحدّث عن أدائها الذي كان كالراية الخفّاقة. حتّى أنّ أحد أعضاء لجنة التحكيم وصفه بـ”الأداء الذي سيغيّر العالم”!
لبنانيّون كُثُر بكوا تأثّراً. كيف لا، وهم من زمااااااااان لم يعودوا يعرفون بكاء الفرح؟ أدمنوا بكاء الوطن مثلما بكى العرب الأندلس. ولن يتوقّف، في المدى المنظور، سيل التعليقات المتفاخرة بالإنجاز اللبناني. إنجازٌ يأتي في وقتٍ، بات على اللبنانيّين أن يتعرّفوا على ما تعنيه هذه الكلمة. لذا، اعذروهم يا أصدقاء! وتحمّلوا، لو سمحتم، الإلحاح على تكرار المعزوفة الممجوجة إيّاها. عن “عظمة الإنسان اللبناني”. فيحتاج أهل هذا الوطن المتداعي إلى “شيءٍ ما”، يطرد مذاق الرماد من أفواههم. ويوقِف، مؤقّتاً، سرديّات شقائهم لبعضهم البعض. ويعزّز الشعور بأنّ هذا “القوس الاعتراضي” من البهجة، الذي فتحته “ميّاس” في حياتنا، لن يُغلَق عمّا قريب. لكن، كيف رقصت “ميّاس”؟
أجمع المعلّقون على وصف العروض الراقصة، بالخياليّة وغير المسبوقة. والأداء، بالسحري الذي لا تشوبه شائبة. وعلّق الموقع الرسمي للبرنامج، بأنّ ما قدّمته “ميّاس” كان جديداً ومبتكراً للغاية. ما جعله أفضل العروض التي شهدتها المواسم الـ17 للبرنامج! ستٌ وثلاثون صبيّة رقصْنَ، على أنغامٍ عربيّة، فوق أنقاض الوطن. أذهلْنَ الجمهور اللبناني وسائر الجماهير، بحالة التناغم والانسياب المذهلة. في ما بين الموسيقى وحركات الراقصات ودوراتهنَّ. مستعينات، في أدائهنَّ، بأزياء مطعّمة بالخرز. والشعر المستعار (الفرعوني). وأغطية للرأس والوجه. وأقنعة. وأكثر من ذلك. تضمّنت الأكسسوارات الزخرفيّة، المجوهرات والأشرطة والتطريز والريش.
في فوز فرقة “ميّاس” رسالتان؛ إحداهما، للّبنانيّين اليائسين. والثانية، للطغمة الحاكمة المتحكّمة. تقول الأولى: “الحياة، يا أعزّاء، ليست الانتظار حتّى تمرّ العاصفة. فهي لا تزال تكفي للضحك والغناء وتعلّم الرقص تحت المطر”. أمّا الرسالة الثانية، فموجّهة لحُكّامنا الأشاوس. وهي تُردّد قول أشهر فلاسفة وحُكماء الصين كونفوشيوس: “لا يهمّني مَن يضع قوانين الصين، طالما أنا مَن يكتب أغانيها”
بإيقاعٍ واحد وبتوقيتٍ متزامن، تمايلت الأجساد. كان كلّ شيء فيها يرقص. من الرأس حتّى أخمص القدميْن. الأرداف تبتعد وتهتزّ ثمّ تقترب، لتضبط إيقاع الموسيقى مع الجسد. هو رقص الروح الذي منح الاستعراض مذاقاً خاصّاً. فالروح كانت ممتلئة بالجسد. والجسد كان ممتلئاً بالروح. والروح كانت ممتلئة بالنور. نورٌ شعّ علينا من بعيد، نحن القابعين هنا في عتمةٍ كالحة. “فليس المهمّ أن تكون في النور كي ترى. المهمّ أن يكون ما تودّ رؤيته موجوداً في النور”، يقول عملاق الفكر العربي عبّاس محمود العقّاد. بدت العروض، في خفّتها وسلاستها وإيحاءاتها ونظامها الحرّ، نوعاً من الحلم بالإفلات والانعتاق. لاح في تعبيرات “ميّاس”، وبالرغم من صرامتها واتّساقها القاسي، توْقٌ للطيران. وكأنّنا كنّا أمام رقصةٍ تتأرجح بين الانتظام والمحاكاة. وبين الانتقال الصعب أو المهدّد بالتلاشي.
فالقِدادُ الميّاسة، التي شاهدناها، لم تكن كيانات ماديّة أو أجساداً متمايلة أو منثنية ومتحرّكة، فحسب. إنّما كانت وكأنّها مظهرٌ وأطيافٌ لصراع القوى. بل رأينا فيها، أحياناً، اشتباك القوى المحرِّكة لتلك الأجساد القادرة على خلق المعنى من غير معينٍ شكلي أو لفظي. والقادرة على أن تتماهى، في اللحظة ذاتها، مع إدراكنا وأحاسيسنا. أذرعٌ تتشابك وتميل. أو تعلو وتهبط. مرّةً نحسبها نباتات. ومرّةً أشجاراً. وتارةً ثعابين. وأخرى أغصان أرزة سرعان ما تتحوّل إلى أجنحة طائر الفينيق التي تستعدّ للتحليق. تركض الراقصات. وتتدفّقْنَ كنهرٍ هادر باتّجاه الجمهور. ثمّ تتجمّعْنَ كجذع شجرة. أو كفانوسٍ سحريٍّ كبير. حركة صغيرة “تفركه”، فتُطلِق الجنّي الصغير المختبئ في داخله. ليعلن انتهاء الرقصة. ولكن لا نهاية للشغف والمتعة.
أكثر ما كان مدهشاً في رقص “ميّاس”، هو ذلك “التزامن السمعي الحركي” بين الراقصات. ستٌّ وثلاثون امرأةً تتحرّكْنَ كامرأةٍ واحدة (بحسب ما عبّرت المُحكِّمة صوفيا فيرغارا). هذا ما نسمّيه، بلغة الرقص، الإحساس بالقدرة على التوفيق بين الحركات الجسديّة بالتزامن مع الأصوات الخارجيّة. والقدرة على ضبط الإيقاع الخارجي وتوقّعه وملاءمته، بعدئذٍ، مع الحركات الإيقاعيّة للجسم. بماذا يتميّز رقص الفرقة اللبنانيّة الفتيّة (تأسسّت قبل تسع سنواتٍ فقط)؟
من الصعب أن نوصّف طبيعة الرقص الذي تقدّمه “ميّاس”. فلا قصّة خاصّة ترويها رقصاتها، كما هو الحال في أنواعٍ عديدة من الرقص. ومن الصعب، أيضاً، أن نصنّف نوع الرقص الذي “خطف الأنفاس وسرق الضوء من سائر العروض”، على حدّ تعبير وسائل الإعلام الأميركيّة. كوريغرافيا الرقصات التي عرضتها “ميّاس”، كانت حديثة ومعقّدة إنّما مبهرة. فبمواءمته بين الجماليّة الفنيّة والمهارات الرياضيّة، منح تصميم العروض الميّاسيّة للمتفرّج متعةً استثنائيّة. إذْ بنى المصمّم نديم شرفان الرقصة الواحدة من أنماطٍ مختلفة من فنون الرقص العالمي. فجاءت العروض مزيجاً بين الرقص الشعبي. الرقص التعبيري. الرقص الابتكاري. الرقص الصوفي، والرقص الدرامي.
وبدت أفكار الرقصات وعباراتها وحركاتها، مُستلهَمةً من أكثر من حضارة. فلقد دُمِجت أصغر الحركات والأساليب والمفردات التعبيريّة، المتعدّدة المنابت والجذور، في متنٍ واحد. فامتزجت؛ خطوات الباليه التتابعيّة القصيرة. بالحركات الكبيرة المنزلقة على الطريقة القوقازيّة. والمشي، الكعب يلامس الكعب، كما في الرقصات الشركسيّة. وأقواس الظهور الموحّدة والأكتاف المائلة أو المرتفعة أو المنخفضة وقفزات الأرجل بقوّة واندفاعٍ مشترك على الطريقة الروسيّة. وتأرجُح الجسم في موجاتٍ قويّة على المسرح على طريقة الرقصات اللاتينيّة. والرقص بالجسد كاملاً، على الطريقة العربيّة، من خلال حركاتٍ مرتعشة. وكأنّه الحبّ وهو يتساقط من الشجرة. ومن ثمّ انتصاب الجسد وإمساك الراقصات، أيدي بعضهنّ بعضاً، كما في الرقصات الكرديّة والأرمنيّة. وبعد؟
عندما نتحدّث عن عالم الرقص، فإنّنا نتحدّث عن ثنائيّة العلاقة بين الظاهر والباطن في عالم الإنسان. فغالباً ما يُجسّد الرقص البهجة والفرح. لكنّه يُمكن أن يُجسّد، كذلك، الحزن. الرثاء. الامتنان. المغازلة. الواجب. الاحتفال، والطلب. وأكثر من ذلك. قد يكون للصلاة. التكريس. المراسم، أو رقصاً من أجل النجاح وإلهام الأمل والتحدّي والنضال في أوقات القمع. ومن أجل ذلك، كانت بعض القبائل الأفريقيّة ترقص. كي تستحضر الشجاعة والعنفوان وتتمكّن من المقاومة. ولهذه الغاية، رقصت “ميّاس”. لتعبّر عن إيقاع مجتمعٍ انهزم أمام حُكّامٍ نصّبوا أنفسهم “أنبياء الويلات”.
وعليه، من المؤكّد أنّ الإنسان اللبناني قد سمع الصرخة المكبوتة في كلّ عروض “ميّاس” (التي قدّموها ضمن نهائيّات البرنامج). صرخة رافقت الشابّات، من لبنان إلى لوس أنجلوس. هنّ سعيْنَ إلى إخراج هذه الصرخة إلى العلن (هكذا قلْنَ للإعلام). فبدت اللوحات الاستعراضيّة كمحاولة لتحريرٍ جسدي من “ثقل الآخرين”. من أولئك الذين تعرفونهم جيّداً. أي، مَن خلقوا عند معظم هذا الشعب هواجس وجوديّة. بخاصّة، لدى الجيل الناشئ. اسمعوا ما نصح به نيتشيه، أشهر فلاسفة الألمان، حيال هذا الصنف من البشر: “تجنَّبوا هؤلاء المتزمّتين! إنّهم نوعٌ بائس مريض. جنسُ رعاع. ينظرون بخبثٍ إلى هذه الحياة. وعينهم عينُ سوءٍ على هذه الأرض. تجنَّبوهم! فأقدامهم ثقيلة. وقلوبهم تختنق من الرطوبة. إنّهم لا يعرفون الرقص، فكيف للأرض أن تكون خفيفة بالنسبة لهذا النوع من البشر”!
كلمة أخيرة. في فوز فرقة “ميّاس” رسالتان؛ إحداهما، للّبنانيّين اليائسين. والثانية، للطغمة الحاكمة المتحكّمة. تقول الأولى: “الحياة، يا أعزّاء، ليست الانتظار حتّى تمرّ العاصفة. فهي لا تزال تكفي للضحك والغناء وتعلّم الرقص تحت المطر”. أمّا الرسالة الثانية، فموجّهة لحُكّامنا الأشاوس. وهي تُردّد قول أشهر فلاسفة وحُكماء الصين كونفوشيوس: “لا يهمّني مَن يضع قوانين الصين، طالما أنا مَن يكتب أغانيها”. إقتضى التذكير.