أمضيت السنة الأولى من إقامتي في لبنان، في المقام الأول، في التأقلم مع الواقع السياسي للبلد، واستئناف علاقاتي السابقة، وإقامة علاقات جديدة، بالاضافة إلى حل العديد من المشاكل الأمنية المتنوعة للسفارة وناسنا.
لكن منذ منتصف عام 1987 بدأتُ، بكامل طاقتي، في اعداد الخبز اليومي للسفارة. هذا الخبز، حتى عند الدبلوماسيين، يكون بمذاقات مختلفة. خلال أربعين سنة من العمل في وزارة الخارجية، رأيتُ كل الأشكال.
عملتُ تحت سلطة السفراء، الذين أعتبرهم اساتذتي سواء في المهنة أو في الحياة اليومية. لقد أتقنوا الحرفة الدبلوماسية منذ نعومة أظافرهم.
لكنني رأيت أيضاً سفراء تسربوا الى العمل الدبلوماسي خلال الحقبة السوفياتية من خلال ثقوب كبيرة في العمل الحزبي أو الاقتصادي. كانوا إما سكرتيراً للجنة الإقليمية، أو عضواً في اللجنة المركزية في الجمهوريات الاتحادية ارتكب خطأ ما، وخرجَ بعدما تخطى “خمس دقائق من الخجل والعار”… أو، لو سمحتم، بمجرد ظهور قرار من رئيس مجلس السوفيات الأعلى كان يتم تعيين سفير مفوض فوق العادة للاتحاد السوفياتي… وبعد ذلك لا يتعب من الخبز والزبدة والكافيار!
كانت هذه ممارسة مألوفة ومنتظمة في حقبات الاتحاد السوفياتي. يمكنني أن أحصي من الذاكرة العديد من السفراء السوفيات الذين وصلوا بهذه الطريقة إلى العمل الدبلوماسي في الشرق الأوسط ومناطق أخرى في العالم.
غرقت الحقبة السوفياتية في غياهب النسيان، ولكن لم يختف منها كل شيء. “أبطال عصرنا” – “المظليون” – على الجبهة الدبلوماسية أصبحوا أعضاء في لجنة الانتخابات المركزية، ووظيفتهم احتساب الأصوات، بعد إجراء دورات الانتخابات العامة المتتالية، ولكل من يطلب… وزارة الخارجية الروسية أخذت تتسلم طلبات توظيف، وامتلأت بسفراء جدد في بلاد قليلة المشاكل، وفي مناخات سهلة مليئة بالرفاهية.
بالنسبة إلى جيلي من المستعربين والشرق أوسطيين، كان المصير لا يحسد عليه. مراحل نمو حياتنا المهنية كانت صنعاء، أو حتى الخرطوم والقاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وطرابلس والجزائر… أياً كانت العاصمة، فهي ترتبط على الفور بالحروب والانقلابات والتفجيرات والمناخات غير الصحية والشركاء المحليين الذين يصعب التواصل معهم.
في كثير من الأحيان، كان خبزنا المهني تفوح منه رائحة البارود وحتى مادة “تي إن تي”… لكنني لست نادماً على رحلتي المهنية إلى لبنان في الثمانينات. أعترف بأنه في بعض الأحيان كان الأمر صعباً، ويتجاوز حدود قوتي، ولكنني في ذلك الوقت كنت صغيراً ومندفعاً، وكنت أرغب في تبرير كلام شيفرنادزه حول دور الاتحاد السوفياتي في الشؤون اللبنانية.
لذلك، كنتُ أذهب كل يوم تقريباً إلى المسيحيين، ثم إلى المسلمين والشخصيات السياسية والزعماء الدينيين وقدامى المحاربين في السياسة اللبنانية والقادة الميدانيين الشباب، ولكن الواعدين. تصادقت ليس فقط مع السياسيين، ولكن أيضاً مع شخصيات دينية، وتعرفتُ حتى إلى معبودة كل اللبنانيين – المغنية فيروز.
تصادقت مع السياسيين والشخصيات الدينية، وتعرفتُ حتى إلى معبودة كل اللبنانيين – فيروز.
ومن دون استثناء، كنت أقول وأكرر للجميع إنّ استمرار الحرب هو الطريق إلى التدمير الذاتي للبلاد والأمة، وأنّ الحوار أمر ضروري، والمصالحة بين جميع اللبنانيين ضرورية، وأنّ لا أحد لديه عصا سحرية، يمكن من خلالها وقف الحرب الأهلية بين ليلة وضحاها، وأنّ مفتاح إنهاء النزاع يكمن فقط من خلال الإجماع على الإصلاحات السياسية والصيغة المحدّثة للدولة اللبنانية.
كررتُ الأفكار نفسها في مقابلاتي العلنية وتصريحاتي أمام الصحفيين اللبنانيين. بعد فترة قصيرة، بدأتُ ألاحظ اهتماماً بشخصي، ليس بسبب ابتعادي عن نمط سلوك سلفي الكسندر سولداتوف فقط. تغيّر الانطباع الأول بشأني، وتغيرت المفاهيم الاصلية، فما كنت أقوله وأكرره ليس ارتجالاً من قبل دبلوماسي شاب وغير ناضج سياسياً يرتدي زي السفير، ولكنه يعبّر عن الخط الرسمي لموسكو في الشؤون اللبنانية. وبعد مرور عام ، اعتادوا على هذا النمط من السلوك عند السفير السوفياتي، وأخذوا يستقبلونه بتفهّم وترحيب.
علاوة على ذلك، بدأ العديد من السياسيين اللبنانيين يطلبون صداقتي! أعترف بذلك بأمانة: لقد ساعدتني كثيراً العلاقات السابقة التي قمت بتطويرها في السبعينيات.
بالنظر الى الاهتمام بشخصيتي في الأوساط السياسية اللبنانية، قرّر طلال سلمان، صاحب ورئيس تحرير صحيفة “السفير” المقروءة للغاية، والذي أصبحنا أصدقاء في العام 1973، تقديمي إلى اللبنانيين. في نهاية شهر شباط في العام 1986، نشر مادة رائعة توضح رأيه الشخصي حول السوفياتي الجديد. فحوى مقالته كان: لا تعتقدوا أنه إذا كان السفير شاباً، فهذا يعني أنه عديم الخبرة أو فريد من نوعه. في الواقع، بالنظر الى أنه يعمل في لبنان للمرة الثالثة، فهو يعرف عن هذا البلد ليس بأقل من أي من السفراء الأجانب المعتمدين في بيروت… وعلى الأرجح، أكثر من ذلك.
طلال سلمان: لا تعتقدوا أنه إذا كان السفير شاباً، فهذا يعني أنه عديم الخبرة
في الوقت ذاته، كانت هناك لفتة ودّية تجاهي قرر تقديمها صديق قديم، غسان تويني، صاحب جريدة “النهار” اللبنانية المؤثرة.
تعرّفت اليه أيضاً من خلال علاقاتي في بيروت في السبعينيات، والأهم من ذلك، في الاجتماعات المتكررة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، حيث مثّل غسان تويني لبنان، وكنت أسافر في رحلات عمل كخبير في وزارة الخارجية السوفياتية عند المناقشات في الأمم المتحدة بشأن لتسوية العربية الإسرائيلية. انطلاقاً من هذه المعرفة القديمة تواصلنا بحرارة وبتعاطف كبير مع بعضنا البعض.
في شباط من العام 1987، أرسل إليّ السيد تويني لإجراء مقابلة، إحدى أفضل الصحافيين، مي كحالة. جلستُ للحديث معها لمدة ساعتين على الأقل: سألتني عن كل شيء. ولماذا اخترت اللغة العربية في المعهد، وكيف تطورت مشاعري تجاه لبنان، وكيف أرى سبل الخروج من مأزق الحرب الأهلية.
بعد بضعة أيام، ظهر مقال كبير في “النهار”، سردَ للمناقشات مع السفير السوفياتي. قرأت المقال وسألت نفسي، هل هو حقًا عني؟ نجاح باهر: أنا، كما اتضح، قادر على قول أشياء منطقية ومثيرة للاهتمام! خلف هاتين الصحيفتين، بدا أن مجلة “الصياد” الرصينة للغاية، قد نشرت مقابلة كبيرة معي، ووضعت صورتي على الغلاف.
بهذه التوصيات فُتحت كل الأبواب في لبنان! كل لقاء كان يُعزز العلاقة مع السياسي، الذي احترمته بصدق – رئيس الوزراء رشيد كرامي. كان، مثل كل القادة السنة، ضد التطرف في كلا الجانبين، وكان يعتقد أن المخرج للصراع اللبناني الداخلي يكمن في إصلاح النظام السياسي، وكان يعرب عن انزعاجه لأن القادة الموارنة يعيشون في الماضي، ولا يدركون أن الإصلاحات في البلاد ليست ضرورية فحسب – بل تأخرت! ذلك أنه علاوة على الطائفتين الدينيتين الأساسيتين في البلاد في ذلك الوقت – الموارنة والسنة – برز بالفعل دور للشيعة، الذين أصبحوا ليسوا فقط الأكثر عدداً، وإنما باتوا أيضاً المجتمع الأكثر ديناميكية في البلاد.
في الوقت ذاته، أصبحت صديقاً لواحد من زعماء الطائفة الشيعية، وهو رئيس البرلمان الذكي والهادئ وصاحب النوايا الطيبة، حسين الحسيني.
كان أول زعيم لحركة “أمل”، تحت قيادة الإمام موسى الصدر، لكنه اضطر للتنازل عن القيادة إلى نبيه بري الأكثر راديكالية وديناميكية.
بالإضافة إلى ذلك، وكلما سنحت الفرصة، كنت أذهب في زيارات إلى لقاء السلطة الأخلاقية اللبنانية المعروفة عالمياً – البطريرك الماروني صفير والمفتي السني حسن خالد، المليء باحترام صادق.
أقمتُ صداقات مع العديد من السياسيين على جانبي المتاريس. ومع ذلك، لن أخفي، أنه لم تكن لديّ عملياً علاقات مع رئيس لبنان آنذاك، أمين الجميل، منذ البداية.
من أجل الموضوعية، يجب أن أقول أنه حاول التقرّب عن طيب خاطر. لكن كان لديّ رأي مبني على حصيلة من المعلومات، التي تفيد بأنه شخص غير موثوق به، ولديه مصالح أنانية خاصة به في المقام الأول.
على سبيل المثال، اقترح فكرة الذهاب إلى موسكو في زيارة رسمية ولكن لهدف واحد هو أن يضعنا في مواجهة مع سوريا.
أبلغتُ عن رغبة أمين في الذهاب إلى موسكو، لكنني أبديت تحفظاً: هل نحن في حاجة إلى ذلك؟ في ما يتعلق بالتسوية العامة للوضع في البلد، لم تكن زيارة أمين لتقدم شيئاً، لكنها بالتأكيد ستخلق مشاكل جديدة.
أظهر مسار الأحداث أن النقص في علاقتي الشخصية مع أمين تحوّلت في ما بعد إلى ميزة إيجابية بالنسبة إلي.
اقترح أمين الجميل فكرة الذهاب إلى موسكو ولكن لهدف واحد هو أن يضعنا في مواجهة مع سوريا
بالمناسبة، بينما كنت أتصدى للتلميحات المستمرة التي ألقاها الجميل عن الزيارة الرسمية للاتحاد السوفياتي، وجدت أن لفتة إيجابية تجاه المسيحيين الموارنة اللبنانيين يمكن أن تفرض نفسها.
فكّرنا مطولاً في السفارة في هذا السؤال: من الذي يجب أن ندعوه؟ وصلنا إلى خيار صدم الجميع: توجيه دعوة إلى البطريرك الماروني صفير لزيارة موسكو عبر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
تحدث البطريرك مع رجال كنيستنا عن الأمور الروحية، وفي وزارة الخارجية عن القضايا العالمية والسياسية، ولكن لا يسعني إلا أن أتذكر حدثاً ممتعاً آخر في ذلك الوقت.
في صباح أحد الأيام الرائعة م العام 1987، إتصل بي طلال سلمان نفسه، وسألني عمّا إذا كنت أرغب في شرب فنجان ساخن. كان التلميح إلى “الساخن” واضحاً… أجبت منطقياً: بالطبع، بكل سرور.
بعد 15 دقيقة، زارني طلال وأخبرني أنه قبل يوم، كان في دمشق، وأمضى فترة ما بعد الظهر مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، الذي كان يشرف على الشؤون اللبنانية في القيادة السورية. خلال محادثة طويلة بشأن الوضع في لبنان، تحدث خدام، وفقاً لضيفي، بشكل مفاجئ عن نشاط السفارة السوفياتية في بيروت وأشاد بها بشكل غير متوقع.
لاحظ خدام، على وجه الخصوص، أن أسلوب السفير الجديد لم يساعد في تدمير العديد من العوائق النفسية التي واجهها الاتحاد السوفياتي مع جزء معيّن من القوى السياسية اللبنانية في المرحلة الأولى من الصراع فحسب، ولكنه سمح له أيضاً، للاتحاد السوفايتي، بأن يصبح عاملاً موثراً في الشؤون اللبنانية.
وقد فوجئ طلال سلمان بحقيقة أن نائب الرئيس السوري أتى على ذكر السفير بثقة، بالاسم، وتحدث عنه كشخص مألوف له شخصياً.
“بالطبع – قلت لطلال تعليقاً على تعبير خدام – لقد ترجمت كلامه أكثر من مرة خلال محادثات حافظ الأسد في الكرملين، وجلست حينها تماماً بين الرئيس السوري وخدام عندما كان وزيراً للخارجية”.
كذلك، تطورت العلاقات ضمن السلك الدبلوماسي مع السفير الإيراني الذي مثّل نظام الإمام الخميني المتشدد… وحتى مع الأميركيين.
سوف أخبركم بالتفصيل عن العلاقات معهم. كان ثمة موضوع شائع في تصريحات السياسيين اللبنانيين في ذلك الوقت، وهو التأكيد على أن السبب الجذري للصراع اللبناني يكمن في صراع قوتين عظميين – الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية – وهو يجري من خلال عملائهما وحلفائهما بالوكالة، وبشكل غير مباشر، في لبنان الصغير.
كانت هذه الخرافة ملائمة للغاية للسياسيين اللبنانيين، لأنها تعفيهم من المسؤولية عن عيوب النظام السياسي في البلاد، والطموحات المفرطة للزعماء المحليين ومشاكل النظام الاجتماعي التي تراكمت منذ سنوات.
في العلاقات مع أول سفير للولايات المتحدة وجدته في بيروت، جون كيلي، كانت بيننا مسافة، كلّ من موقعه: نعرف بعضنا البعض، نتواصل، ولكن من دون صدق أو استحسان.
اللبنانيون، في المقابل، كانوا يعتقدون أننا، كسفراء، كنا مسؤولين عن مأساتهم. مثال نموذجي: بثت واحدة من أكثر القنوات التلفزيونية اللبنانية شعبية بعد النشرة الإخبارية المسائية رسما ًكاريكاتورياً ساخراً، فحواه: أرزة لبنان مقسومة، ويتنازعها شخصان يمكن التعرف إلى وجهيهما بسهولة. يعمل المنشار في اتجاه واحد، فيظهر على الشاشة “كيلي”، ومن الجهة الجهة الأخرى “كولو”… تبقى هذه الصورة على شاشة التلفزيون لعدة دقائق: صوت المنشار وشخصان عند جذع الأرزة يستخدمانه بالتناوب: “كيلي – كولو – كيلي – كولو”.
مع خليفة كيلي، جون مكارثي، كانت العلاقة أكثر بساطة. لقد فهمنا بعضنا البعض من أولى اللحظات، وقمنا بتنسيق مواقفنا، وفي كل مناسبة كنا نقول بصوتين إن لا الاتحاد السوفياتي ولا الولايات المتحدة ينظران إلى لبنان باعتباره تفاحة للخلاف. على العكس، كانت القوتان العظميان تدعوان اللبنانيين إلى السلام على أساس توازن جديد للمصالح بين الطوائف الدينية الرائدة في البلاد.
… يمكنك أن تضحك، يمكنك أن تصدّق أو لا تصدق، لكن مع ذلك، أصبحتُ شخصية منتظمة في ثرثرة اللبنانيين. لا أريد التحدث عن منشورات الصحف – سيكون ذلك مملًا. لكنني ما زلت أنظر إلى الرسوم الكاريكاتورية بشعور من السعادة: إنها مضحكة وليست ضمن سياق غير ودي.
إليكم إحدى هذه الرسوم الكاريكاتورية: أربعة أشخاص بوجوه مميزة لسفراء الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا، يرقصون على خشبة المسرح في ملهى ليلي شهير في بيروت “Crazy Horse”. عبّر رسام الكاريكاتير عن كل شيء بشكل صحيح: من بين الراقصين الأربعة على المسرح، يمكن قراءة تعبيرات ذات معنى أو أكثر على وجهي سفيري فرنسا والاتحاد السوفياتي. وحتى لا يخلط القارئ بيني وبين أي شخص آخر، قام رسام الكاريكاتير، ولمزيد من الإقناع، بتصوير وشم على كتفي – مطرقة ومنجل! الحمد لله، أنني صُوّرت مرتدياً كنزة. بخلاف ذلك، لربما رسم صورة ستالين أو غورباتشوف على صدري!
أفهم أن فكاهتي في هذا الفصل قد بدأت تكسبني شخصية غير صحية. ولكن بعد كل شيء، لا يمكن اعتبار حياتنا في تلك الأوقات طبيعية وصحية. السلك الدبلوماسي كان مجزأً ومقسماً جغرافياً.
لم يعتبر الجزء الرئيسي من السفراء أن ثمة ضرورة للخوض في الشؤون اللبنانية. أكثر من تحدّث بصراحة عن هذا الموضوع كان السفير الإيطالي، أنطونيو مانشيني: لماذا أحلّل المشاجرات اللبنانية، طالما أنني أعلم بأن البرقيات الصادرة من بيروت الى روما لا يقرأها إلا كتبة صغار، وأنا شخصياً سأطير إلى بلد آخر خلال عامين! لم يفلح أنطونيو في الانتقال إلى بلد آخر أكثر راحة: لقد توفي متأثراً بأزمة قلبية خلال قصف مدفعي على منطقة مقر إقامته.
كان سفراء الدول العربية مهتمين بالتفاصيل الواقعية للأحداث اللبنانية، بالإضافة إلى الأربعة الكبار – الفرنسيون والأميركيون والبريطانيون والروس. لكننا كنا نتحدث مع بعضنا البعض بشكل قليل ونادر.
انتقل الغربيون إلى الجزء المسيحي من بيروت، وبقيت سفارتنا في الجزء المسلم من المدينة. وبين القطاعين كان “الخط الأخضر”، في جوهره، الخط الأمامي. لم تكن لدى جميع الدبلوماسيين رغبة في عبوره، والذهاب في زيارات للثرثرة وتبادل الأخبار.
في هذا الصدد، أود أن أخبركم كيف أصبحنا، في أحد المرات، أنا زوجتي، عن غير قصد أبطالاً في حديث الناس. في أحد ايام تشرين الأول من العام 1987، ذهبنا لزيارة جوزيف أبو شرف في مدينة جونيه في الجزء المسيحي من لبنان. غادرنا السفارة، وكان لدينا متسع من الوقت، آخذين في الاعتبار الصعوبات المحتملة على الخط الأخضر. ولكن لم تكن هناك مشاكل في الواقع، ووجدنا أنفسنا في المنطقة المسيحية مرتاحين في الجدول الزمني المخطط له.
يمكن للمرء عادة التحرك هنا أو هناك على الطريق السريع الساحلي الجميل لقتل الوقت، لكن زوجتي اقترحت أن نذهب إلى سوبرماركت عند جانب الطريق من أجل شراء احتياجاتنا. بينما كانت تسير بين أرفف المتجر، وتختار ما تحتاج إليه، رحت أنظر إلى المجلات المعروضة هناك، ثم قادنا سائقنا، فيكتور غوبين إلى جوزيف (بحلول ذلك الوقت كنا نتحرك من دون مرافقة حرس الحدود).
بعد بضعة أيام بدأت الصحافة اللبنانية تتناول رحلتنا إلى المتجر. ونقلاً عن شهود العيان، وصفت كيف كانت السفيرة السوفياتية مع زوجتها تتجول في السوبرماركت في وضح النهار مثل المشتري اللبناني العادي، حاملة حقيبة اليد مع المشتريات، والشخص الوحيد الذي كان يرافقهما إلى السيارة، هو السائق. ومن كل هذا الوصف، طرح السؤال التالي: ما الذي سيحدث في هذا المتجر لو جاء السفير الأميركي إلى هناك للتسوق؟!
اهتم الصحفيون الأجانب بالموضوع. سأل مراسلو “لو فيغارو” الفرنسيون في بيروت الناس، ثم لخصوا انطباعاتهم في مقال بعنوان “Metier de tous les dangers: ambassadeur a Beyrouth” (المهنة الأكثر خطورة: سفير في بيروت).
المقال كان مثيرا للغاية، مع الصور والرسومات الملونة. عند اختيار صور السفراء الغربيين، تم عرض جميعهم تقريباً محاطين بحراس مسلحين – الإيطالي، البلجيكي، البريطاني، سفير ألمانيا الغربية…كُتب عن السفير الأميركي أنه عندما يخرج من السفارة ، يجب أن تكون هناك أربع سيارات متطابقة في القافلة، وبها نوافذ مظلمة، من أجل تضليل أولئك الذين يقررون إلقاء 200-250 كيلوغرام من المتفجرات سيئة السمعة من مادة “تي أن تي” على طول الطريق. يجب أن تتحرك المجموعة بأقصى سرعة من دون توقف حتى وإن تسبب ذلك في وقوع حوادث مع السيارات الأخرى.
كُتبت قصة مثيرة للاهتمام حول سفير فرنسا المعين حديثاً. عند وصوله إلى بيروت، سارع أولاً إلى طمأنة أقاربه في فرنسا. أرسل صوره، بما في ذلك واحدة التقطت له على شرفة مقر إقامته. أُغلقت الشرفة أيضاً بقضبان معدنية محكمة الغلق لمنع الدخول إلى المنزل من الشارع، علاوة على ذلك، كانت مغطاة باسلاك شائكة في حال قرر شخص أن يرمي قنبلة يدوية عبر الشرفة.
كانت رغبة السفير واضحة: يقول لهم لا تقلقوا، انظروا بأنفسكم كيف أحمي نفسي! كانت الصورة تدور ضمن دائرة الأسرة، لكن عندما بدأ حفيده ينظر إليها، لم يكن بإمكانه الامتناع عن التعجب مما رآه وسأل: “ماذا، جدي في السجن في بيروت؟”.
لم ينسوا كذلك الحديث عن سفير الاتحاد السوفياتي، لكنهم كتبوا عنه بلهجة تشي بأنه يضع قناع الشر، فهو، كما قالوا، يكوّن صداقات مع وليد جنبلاط ونبيه بري (في الثمانينات لم يكن ينظر إليهما كما بعد الحرب)، وهو على تناغم مع السوريين، ولا يقول شيئاً عن الحزب الشيوعي اللبناني. بالإضافة إلى ذلك، لديه دائرة معينة من الأصدقاء المؤثرين من بينهم شخصيات سياسية مسيحية. ويقولون أيضاً أن الكثيرين في لبنان يتذكرون كيف وتحت أية ظروف تم إطلاق سراح الرهائن السوفيات في تشرين الأول من العام 1985.
بالطبع، تعرض كتاب هذه المقالة في “لو فيغارو” للسخرية؛ وبعد كل ذلك، يمكن لسفير اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية أن يسمح لنفسه بالذهاب إلى السوبرماركت من دون أية حماية إلى جانب زوجته!
أفكر في قرارة نفسي أنني بدأت الكتابة بطريقة هزلية لا لزوم لها وتافهة. ولكن في الواقع، بحلول نهاية عام 1987، كنا قد تمكنا من إقامة نظام أمني يحمينا من جميع المخاطر الخارجية الرئيسية.
بالطبع، لم يوفر ذلك الأمن بشكل مطلق، بنسبة مئة في المئة، إذ كان من الممكن أن يقوم أي مجرم صغير بنشل محفظة زوجة موظف السفارة أو سرقة آلة تصوير لأحد الصحافيين السوفيات.
لكن في ذاكرتي من هذه الفئة من هذه الحالات الاستثنائية، لم تكن هناك سوى حالة واحدة مع مراسل محطة الإذاعة والتلفزيون الحكومية، أندريه بوبوف، الذي تم الاستيلاء على كاميرا فيديو الخاصة به أثناء إعداده تقرير في مدينة صيدا في جنوب لبنان.
ومع ذلك، بحلول ذلك الوقت كان نظام حماية ناسنا صارماً، بحيث استعاد بوبوف هذه المعدات في غضون 24 ساعة.
شعرنا بثقة كبيرة، حيث أقمنا في 7 تشرين الثاني من العام 1987، وبعد استراحة طويلة، حفل استقبال كبير لمناسبة عيدنا الوطني. حين يتعلق الأمر ببيروت الغربية، كان هذا بالفعل حدثاً! في الحقيقة، لقد أعدينا لذلك خلال فترة طويلة وبطريقة دقيقة. ولضمان السلامة تكمنا من تأمين الحماية لجميع أصدقائنا وحلفائنا، وتلقينا تأكيدات بأنه لن يكون هناك عمل سيّء من جانب “حزب الله”.
ونتيجة لذلك، كان حفل الاستقبال ناجحاً، حيث حضر عدد كبير من الضيوف، ليس من القطاع الإسلامي في بيروت فحسب، بل كان هناك أيضاً من تمت دعوتهم من المنطقة المسيحية، وهم بالطبع، أولئك الذين يمكنهم تحمّل ثمن الظهور في الجزء الغربي من المدينة.
تفاصيل صغيرة: خلال حفل الاستقبال هذا، كنت أرتدي الزي الرسمي لسفير اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، بحسب الروتين، وهو من القماش الأسود، مع نجوم ذهبية في الثقوب، وخيوط ذهبية مطرزة على الأكمام.
بدا وكأن اللبنانيين تجاهلوا الحدث بحد ذاته، ففي اليوم التالي علّقت بعض الصحف على حفل الاستقبال بشكل غير متوقع: “نحن نعرف الآن على وجه اليقين أنّ السفير فاسيلي كولوتوشا هو جنرال في كي جي بي! إليكم صورته في زي الجنرال!”. بالمناسبة، تم استرجاع هذه الأسطورة الخاصة بـ” جنرال الكي جي بي” بعد عدة سنوات، عندما وصلتُ إلى المغرب في العام 1993، لأعمل سفيراً لروسيا الاتحادية.
عند وصولي أجريت مقابلة مع إحدى الصحف المحلية، وقد نشرت المقابلة، مع مقدمة عرّفت عني بوصفي “السفير – جنرال الكي جي بي العام”.