تمكن مسؤول الامور اللوجستية في منظمة التحرير الفلسطينية عدنان ياسين من تأمين كرسي جديد إلى مكتب القيادة الفلسطيني البارز محمود عباس (أبو مازن)، بالإضافة إلى مصباح كهربائي، بحيث وفّر للإسرائيليين قدرة عالية على التنصت على عباس، وذلك بالتزامن مع إنطلاق محادثات أوسلو.
مع هذا “الانجاز”، برز أمرٌ لم يكن بالحسبان، فقد علم رئيس “الموساد” شبطاي شافيت من خلال “الكرسي الغنّاء”، كما كان يطلق على كرسي محمود عباس (ابو مازن)، ان الحكومة الاسرائيلية تدير مفاوضات متقدمة مع منظمة التحرير الفلسطينية من وراء ظهره. وكانت اوامر رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين إلى وحدة “التنصت 8200” وجهاز “أمان” ان تقدّم ما تحصل عليه من معلومات إليه وحده ولكنه لم يعطِ هذه الاوامر إلى “الموساد”. فواجه شافيت رابين غاضباً ومُشتكياً لأن “الموساد” لم يكن على علم بما يحصل على الخط الدبلوماسي (الأكاديمي) مع منظمة التحرير، فاسترضاه رابين وقال له ان الامر لا يعدو كونه “مبادرة هامشية” من شيمون بيريز (وزير الخارجية) لا يُعلّق هو نفسه عليها أي أهمية تذكر.
يتابع رونين بيرغمان، “كما بدأ الارسال من الكرسي (الغنّاء) فجأة فإنه توقف فجأة، فبعد ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع من زرع الميكروفونات، توقفت الأنتينات العملاقة للإرسال في تل أبيب عن تلقي الإشارات من الكرسي. في البداية، ظنّ الاسرائيليون ان هناك مشكلة تقنية ولكن بعد التحقق التقني الدقيق، وجد خبراء “الموساد” ان كل الوصلات مع مكتب ابو مازن كانت بحالة جيدة وانه كان من غير المنطقي ان يتوقف الإرسال من جهازي الكرسي والمصباح الكهربائي في الوقت نفسه. وبات من شبه المؤكد ان الميكروفونات قد إنكشفت ومعها أيضا إرتفع إحتمال أن تكون كل عملية “الجزة الذهبية” قد كُشفت أيضاً وان جائزتهم التي لا تقدر بثمن، عدنان ياسين، قد كُشِفت أيضاً وبات ياسين في خطر وجودي”.
ينقل بيرغمان عن جبريل الرجوب قوله “ان اعضاء وفدنا في اوسلو شعروا ان الاسرائيليين كانوا على بينة من كل شيء بصورة مسبقة وكانوا يعرفون ما سيقولونه في اليوم التالي وما هي المواقف التي كانت ستتخذ، وهذا ما طرح الشكوك بوجود تنصت، لذلك قمنا بعملية مسح فني لمكتب ابو مازن”
وينقل بيرغمان عن مسؤول في وحدة مكافحة الارهاب في “الموساد” قوله “إننا لم نفهم كيف حصل انكشاف أجهزة التنصت والعميل خلال هذا الوقت القصير بعد وضع المعدات في المكتب”. وكانت الإجابة على هذا التساؤل تكمن في اسم جبريل الرجوب الذي كان هو من كشف الاجهزة بمساعدة من جهاز استخباري محلي (إسرائيلي). وينقل بيرغمان عن الرجوب قوله “ان اعضاء وفدنا في اوسلو شعروا ان الاسرائيليين كانوا على بينة من كل شيء بصورة مسبقة وكانوا يعرفون ما سيقولونه في اليوم التالي وما هي المواقف التي كانت ستتخذ، وهذا ما طرح الشكوك بوجود تنصت، لذلك قمنا بعملية مسح فني لمكتب ابو مازن”.
وفي الجانب “الاسرائيلي”، يقول بيرغمان، كل العملاء الذين كان لهم علاقة بعملية “الجزة الذهبية” (تجنيد ياسين) كان لهم رأي آخر في الامر. فقد اعتبروا انه تمت خيانتهم من قبل جماعتهم. وتبعاً لهذه النظرية التي لم يكن بالامكان التأكد من صحتها، ولكنها كانت مدعومة بشواهد ظرفية، فقد رأى أحد أعضاء الوفد “الاسرائيلي” في اوسلو التقارير الاستخبارية التي جُمعت خلال العملية ووزعت على رئاسة الحكومة ورؤساء الاجهزة الاستخبارية واستوعب فكرة ان مصدر المعلومات الاستخبارية ناجم عن عملية تنصت ما في مكتب ابو مازن او عبر التنصت على هواتفه، فقام بتزويد الفلسطينيين بهذه المعلومة لعلمه انهم سيقومون على الفور بكشف اجهزة التنصت وازالتها، وما ان يحصل ذلك لن يكون بعد ذلك بامكان الاستخبارات “الاسرائيلية” بأي طريقة معرفة ما يحصل في المفاوضات، وذلك يعني أنه لن يكون بامكان المتشددين أن يسربوا اي معلومات الى الصحافة لتدمير المفاوضات، بكلام آخر فقد خان ديبلوماسي ما أجهزة الاستخبارات “الاسرائيلية” لمنع التخريب على الدبلوماسية “الاسرائيلية”، وفي هذه الحالة كان مصدر لا يقدر بثمن للاستخبارات عرضة للقتل (عدنان ياسين).
يتابع بيرغمان ان اجهزة الامن الفلسطينية اعتقلت عدنان ياسين وعذّبته في تحقيق مضن حتى حصلت منه على كل شيء، كيف تم تجنيده وما هي المعلومات التي زوّد “الاسرائيليين” بها وكيف جعله طمعه ينقلب ضد شعبه. ويقول الكاتب الإسرائيلي رونين بيرغمان إن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات صُعقَ بخبر اعتقال مساعد موثوق له وذهب شخصياً لرؤيته في زنزانته في احد مراكز التحقيق التابعة لحركة فتح (في تونس) وسمع منه شخصياً روايته لما فعله. وكان الاستنتاج الذي لا مفر منه ان ياسين سيُعدم لانه كان بما لا يقبل الشك خائناً وعلى علاقة عميقة بقتل القيادي الفلسطيني عاطف بسيسو في باريس.
بعد ذلك بوقت قصير، كان أحد اعضاء الوفد الفلسطيني في أوسلو غاضباً جداً لاغتيال بسيسو، فسأل أحد اعضاء الوفد “الاسرائيلي” عما يعرفه عن الموضوع فأجابه “لا اعلم اي شيء عن هذه القصة”، وهو كان صادقاً بأنه لا يعرف لانه لم يكن على اطلاع على اي من اسرار الاستخبارات، ولكنه فهم ما حصل من خلال القليل مما سمعه من شيمون بيريز ويوسي بيلين، فقال لنظيره الفلسطيني “على اي حال دعنا نشرب نخب ان يكون قتل بسيسو هو آخر عمليات الاغتيال”، واضاف كلمة واحدة باللغة العربية “انشاءالله”. فرفع اعضاء الوفود، اربعة فلسطينيين وثلاثة “اسرائيليين” ونروجيين، كؤوسهم عالياً وشربوا النخب. فالجو كان تفاؤلياً، فقد كان مر على المفاوضات ستة اشهر تم فيها تبادل رسائل الاعتراف المتبادل بين “الأمتين” (الفلسطينية و”الاسرائيلية”) من رابين لعرفات ومن عرفات لرابين والتي انتهت بما بات يعرف باتفاقات اوسلو التي انجبت الحكم الذاتي للسلطة الفلسطينية التي كان لها ان تحكم معظم الاراضي التي يسكنها فلسطينيون مقابل ان يوقف الفلسطينيون انتفاضتهم وينبذون الارهاب (الكفاح المسلح)، يقول بيرغمان.
بدا من خلال اتفاقيات أوسلو ان الصراع الدموي في الشرق الاوسط سينتهي الى السلام، فغادر ياسر عرفات ومعظم قادة فتح ومنظمة التحرير تونس واتخذوا من الاراضي الفلسطينية الواقعة تحت حكم السلطة الفلسطينية مقرا لهم، وحتى عدنان ياسين استفاد من هذا الامر بصدور حكم مخفف بحقه!
وقد بدا من خلال اتفاقيات أوسلو ان الصراع الدموي في الشرق الاوسط سينتهي الى السلام، فغادر ياسر عرفات ومعظم قادة فتح ومنظمة التحرير تونس واتخذوا من الاراضي الفلسطينية الواقعة تحت حكم السلطة الفلسطينية مقرا لهم، وحتى عدنان ياسين استفاد من هذا الامر لان الاتفاقيات اوجدت لجان تنسيق امني بين الجانبين تضم مسؤولين من الاجهزة الامنية والعسكرية لدى الطرفين. وللمرة الاولى كان مسؤولون كبار من “الشين بيت” و”الموساد” يلتقون برجال حتى امد قريب لا يتجاوز الاشهر القليلة يعتبرونهم هدفاً للقتل او للتجسس عليهم. وكانت اللقاءات بين الطرفين تحصل اما في فنادق تل ابيب والقدس او في الاراضي الفلسطينية. تناول الطرفان صراعهما السابق بتبادل الطرائف عمن استطاع ان يخدع من وعما اذا كان الفلسطينيون استطاعوا ان ينفذوا عمليات لم يعلم بها “الاسرائيليون” واين ومتى استطاع “الاسرائيليون” ان يُفشلوا عمليات الفلسطينيين وخططهم.
يتابع بيرغمان ان “الاسرائيليين” استفادوا من الجو اللطيف الذي ساد علاقتهم مع الفلسطينيين وطالبوا بالرأفة بعدنان ياسين. وينقل الكاتب عن احد اعضاء لجان التنسيق الامني قوله “لقد رفعنا الامر كنداء من اجل مبادرة حسن نية في مقابلها يطلق سراح الاف الفلسطينيين تعهدت اسرائيل بتنفيذها بالمقابل”، مع الضغوط والجو الملائم نجح الامر ولم يُعدم ياسين بل حُكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما، وهو حكم مخفف اخذاً بالاعتبار كل الامور (التي قام بها ونفذها).
(*) في الحلقة المقبلة: كيف وصل “الإسرائيليون” إلى المفاعل النووي العراقي؟