بالعودة إلى الماضي في بيروت، توصلت إلى استنتاج مفاده أنني كنت محظوظاً للغاية في هذه المهمة مع موظفي السفارة. ومع ذلك، لا يمكنني مقارنة ذلك مع الإسكندرية والقاهرة في الستينيات، وبيروت في السبعينيات، وبغداد في أوائل الثمانينيات، والرباط في التسعينيات، بالرغم من أن الظروف التي اضطررت فيها للعمل في بيروت، من الناحية المحلية والنفسية كانت أكثر تعقيداً من مصر والعراق والمغرب.
سأحاول أن أتقاسم ذكريات عن الأشخاص الذين أتيحت لي فرصة للعمل معهم، وحول الحياة الداخلية لفريق السفارة بشكل عام.
بالنسبة إلى أولئك الذين لم يعملوا في بيروت، قد تبدو تصوّراتي مثيرة للاهتمام حول الذين كانوا هناك، إذ يمكن استعادة التجربة مرة اخرى كما لو أنهم يعيشونها من جديد. سأبدأ بالتذكير بأنّ السفارة كانت تعمل في ظروف العمليات العسكرية الدائمة داخل المدينة.
علاوة على ذلك، في بعض الأحيان، كانت المعارك في الأحياء تقع على مسافة الرؤية البصرية. بشكل عام، تطوّرت العمليات القتالية بشكل تدريجي، وكانت تتراكم مع تدهور الوضع السياسي الداخلي، وبالتالي كان يمكن التنبؤ قبل أيام قليلة باللحظة التي تبدأ فيها الطلقات الأولى في شوارع المدينة.
ولكن في الوقت ذاته، كانت تظهر حوادث استثنائية تماماً، على سبيل المثال، انفجار سيارة ملغومة في مكان مزدحم يخلّف عدداً كبيراً من الضحايا، أو قناص لا يرحم يطلق النار على مجموعة من الأطفال وهم يلعبون. ثم، من هذه الشرارة التي تبدو عشوائية، تصبح المدينة هائجة وتشتعل فيها النيران لعدة أيام متتالية.
في مثل هذه الأوقات، لم نكن نعرف كيف سننظم يوم عملنا. لم نكن نعرف كيف سنبني يومنا، وماذا سيكون نظام عائلاتنا. كل صباح، عند الساعة التاسعة صباحاً، كان يُعقد اجتماع عمل في مكتب السفير، والنقطة الرئيسية على جدول أعماله هي تقييم اللحظة الراهنة.
بعد مراجعة مقطتفات من الصحف، كنا نقوم، ضمن دائرة ضيقة من المستشارين ورؤساء المؤسسات السوفياتية الأخرى، بعملية تلخيص وتحديد لدرجة المخاطر التي قد يتعرض لها ناسنا.
كانت ثمة مجموعة من الحلول القياسية: إذا بدأت المعارك في المدينة على مسافة معقولة من السفارة، كان يُسمح للموظفين وزوجاتهم بمغادرة مجمع السفارة إلى أقرب محل بقالة أو محلّ للصرافة في مار إلياس، أي على بعد مئات الأمتار من السفارة. إذا لم يكن هناك إطلاق النار في المدينة، يمكن لأفرادنا الذهاب إلى المحلات التجارية ضمن دائرة نصف قطرها كيلومتر واحد من السفارة.
لكن لسوء الحظ، في كثير من الأحيان، بعد اجتماعنا، كان يأتي مسؤول جهاز الأمن أ. ل. دينيسنكو ليلفت انتباه موظفي السفارة والمؤسسات السوفياتية الأخرى إلى الأخبار السيئة: “المدينة مغلقة”!
أعتقد أن هذه العبارة المحزنة لا يزال يتذكرها كل من عمل في بيروت في تلك الأيام. من الصعب أن ننسى ذلك، لأنها كانت مصحوبة بدويّ انفجارات، وصدى رشقات نارية، وأحياناً مبارزة بالمدفعية بين منطقة المسيحيين وبين بطارية مدفعية نصبها خصومهم على أرض قاحلة في جوار السفارة.
ومع ذلك، ثمة حقيقة: كل الذين مرّوا بلبنان في تلك السنوات يتذكرون هذه الفترة من حياتهم باعتبارها واحدة من الفترات الأكثر فرادة وإثارة للاهتمام.
لماذا؟ ما السبب؟ لقد عمل الجميع بأعباء هائلة، دونما فارق واضح بين يوم العمل والوقت الشخصي.
بالإضافة إلى ذلك، كما هو معلوم، فإن الحياة ضمن جماعة صغيرة وضيقة تخلق نوعاً من التعب تجاه الآخرين، وهي في بعض الأحيان تلامس مرحلة الحساسية، بالنظر الى وجود مشاكل تطرأ على الترتيبات المحلية، بسبب نقص الغذاء، على سبيل المثال، أو بسبب فشل البئر في السفارة في تزويدنا بالمياه… الخ. ومع ذلك، أخبرني الكثير ممن عملوا في بيروت في الثمانينيات بأنهم يتذكّرون ذلك الوقت بإحساس بالحنين إلى الماضي.
حدثَ، بطريقة ما، أن وقع الاختيار في المناصب القيادية على أشخاص من جيل واحد وتربية واحدة ورؤية واحدة. بالطبع، لكلّ منهم طباعه الخاصة، ولكن مع ذلك، كلّهم شخصيات بارزة ومهنيون في مجالهم.
لذلك كان ثمّة فريق متناغم في السفارة. أقدّرُ تقديراً عاليا ًإيغور إيفاشينكو، مستشار السفير الذي يمكن الاعتماد عليه، والذي طلبتُ أن يحلَّ مكان ي. ف. سوسليكوف.
عندما أصبحتُ رئيساً لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في العام 1990، حاولت منع إيغور من البقاء في بيروت مع خلفي غ. ب. اليتشييف. وغالباً، في العام 1990، غادر ايغور كسفير في اليمن الشمالي.
كان هناك موظف قوي، رغم أنه لا يخلو من خشونة الشخصية، وهو مستشار من “الجيران المقربين” ي. ن بيرفيلييف، وكان يعجبني بهدوئه ودماثته المستشار ف. أ كروخين من “الجيران البعيدين”.
++
بلغة البعثات الأجنبية السوفياتية تعني “البعثات السوفياتية المجاورة ” ممثلي المديريات الرئيسية لجهاز الاستخبارات السوفياتي (المعروفة الآن باسم جهاز الاستخبارات الخارجية)، وكان “الجيران البعيدون” موظفين في مديرية الاستخبارات الرئيسية للأركان العامة للاتحاد السوفياتي.
++
يؤسفني أنه بسبب الظروف القائمة حينها عملتُ معه أقل مما كنت أرغب.
ومن بين هذه المجموعة الصلبة كان الملحق العسكري أ. ن بيلوف. كنا نسميه “فون تايكوف” بسبب عينيه وقامته الممشوقة وترتيبه الزائد ومظهره الوسيم. هل الكثيرين من ضباطنا يبدون بهذا الشكل؟ وتايكوفو هي مسقط رأس أناتولي نيكولايفيتش.
كان هناك أشخاص لطيفون بين الدبلوماسيين الشباب. ومع ذلك، في أوائل التسعينيات، ذهب كثير منهم لممارسة أعمال خاصة: غ. تشوباروف ، ن. بودغورني، س. شرفتدينوف.
ولكن من ناحية أخرى، واصل فاليري شوفاييف، الذي بقي في العمل الدبلوماسي، مسيرته بنجاح كبير. في بيروت، كان السكرتير الأول، وفي التسعينات كان المستشار الخاص في الرباط عندما كنت سفيراً لروسيا في المغرب، ثم عمل سفيراً لروسيا في ليبيا. آخر منصب له كان السفير الروسي في العراق.
أعتقد أن اختيار مجموعة حرس الحدود في تلك السنوات كان ناجحاً جدًا للسفارة. كان لدينا 10-12 منهم على أساس دائم، وجميعهم من الشباب من رتبة ملازم إلى رتبة رائد، وقد تمّ اختيارهم من الحاميات من الشرق الأقصى إلى الحدود الغربية. ولكن المعيار الأساسي في الاختيار كان الذكاء، والعمل الجاد، والديناميكية.
كان يقع على عاتقهم عبء كبير: كان من الضروري تأمين بوابة السفارة على مدار 24 ساعة في اليوم، وخلال النهار، أو بعد الظهر، كان عليهم أن يحملوا سلاحهم ويخرجوا لحراسة السفير أو المستشارين أو موظفي السفارة الآخرين.
كنت أقوم بالكثير من الزيارات: على سبيل المثال، إلى القصر الرئاسي أو وزارة الخارجية اللبنانية. في بعض الأحيان، لم تكن الدوافع “الوظيفية” واضحة تماماً، كما في حالة الذهاب إلى الجبال أو وادي البقاع، عند وليد جنبلاط وجوزيف هاشم وعاصم قانصوه أو أنطوان الهراوي.
ظاهرياً، كانت هذه الرحلات تبدو ترفيهية وصاخبة على مائدة “لذيذة”، ولكن بعد كل شيء، بين (الكأس) “الأول” و “الثاني” يمكنك أيضاً أن تهمس شيئاً جدياً “مثيراً للاهتمام المتبادل”.
بمعنى ما، كانت زياراتي وزوجتي إلى المناسبات الاجتماعية رسمية أيضاً. على سبيل المثال، في “كازينو لبنان”، خلال العرض الأول لمسرحية الموسيقار الشهير منصور الرحباني، والذي يجب أن تحضره كل شرائح لبنان المسيحي، وكان بالإمكان رؤية الكثير من الأشخاص المهمين والضروريين للعمل!
بطبيعة الحال، خلال الأمسية لم أكن أتحدث عن شؤون العمل، ولكن بين المصافحات، و”البونجور” و “البونسوار”، كان يمكن الاتفاق على لقاءات يمكن ترتيبها لاحقاً! بعد العرض، ذهبنا إلى مطعم مع منصور الرحباني العناصر الرئيسية لفرقته. في مطلق الأحوال كنت مسروراً للغاية بالأمسية التي قضيتها في ذلك المساء! لأن منصور الرحباني كان سِلف المغنية اللبنانية فيروز، وشارك مع شقيقه عاصي في تأليف موسيقى أغانيها وأوبريت الفولكلور. التواصل معه كان ممتعاً للغاية.
لكن في أمسية كهذه، كان من المألوف الحديث عن “الوضع السياسي”، لأن قضاء السهرة في ضيافة منصور أمام أعين كافة المسيحيين المعروفين في لبنان كان سبباً آخر للحديث عن سياسة الاتحاد السوفياتي المنفتحة تجاه هذا البلد والتي تخدم كل اللبنانيين.
بالطبع لم يكن السائق والحراس الذين الذين يرافقوني في سيارتي يعرفون هذه التفاصيل الدقيقة. على الأرجح، كانوا يظنون أن السفير بعد هذه الرحلات يعود في مزاج جيد فحسب، أو على الأقل يقولون أنه لسبب ما “قضى وقتاً ممتعاً، تناول وجبة زكيّة، وشراباً لذيذاً” (بالرغم من أنني كنت حريصاً على التأكد من إطعامهم أيضاً!).
الآن تسمح لي الفرصة أن أروي ما هي أسباب القيام بهذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر المتعددة في بيروت المتحاربة، والتي سلكناها على حد السكين.
في وقت من الأوقات، حاولت أن أتعلّم جيداً دروس فيكتور إيفانوفيتش مينين، الذي كان سفيرا في بغداد بين العامين 1983 و1986. كان أحد الدروس أن كلاً من الإدارات الثلاث التي تعمل تحت “سقف” السفارة – وزارة الخارجية، والاستخبارات الخارجية التي كانت في العهد السوفياتي إدارة تابعة لـ “كا جي بي” في كل مكان، ومديرية الاستخبارات الرئيسية التابعة لوزارة الدفاع – لديها دائماً مراسلاتها الخاصة مع قياداتها في موسكو. القاعدة المقبولة عموماً تكمُن في عدم عرض تقاريرك على الآخرين! لكن مينين عرض برقيات وزارة الخارجية على “القريب” و “البعيد”، وحين تساءلت “لماذا”؟ أجاب أنه في المواقف الصعبة، من المهم أن تكون للإدارات الثلاث المشاركة في تشكيل موقفنا وجهة نظر موحدة. علاوة على ذلك، كانت تظهر اختلافات وشكوك ونزاعات غير ضرورية بالفعل في موسكو. لذلك، التزم مينين بممارسة إبلاغ ممثلي “القريب” و “البعيد” حول محتوى مراسلات وزارة الشؤون الخارجية مع المركز.
عملياً، قمت بنفس الممارسة في بيروت. لقد أظهرتُ لـ “الجيران” جميع البرقيات المشفّرة حول اجتماعاتي واتصالاتي، وأظهرت أيضاً تقاريري التحليلية التي تضمّنت تقييمات للوضع الحالي في لبنان في اللحظة الراهنة. أما الشيء الرئيسي فهو أنني أظهرت مقترحاتي للمركز في ما يتعلق بخطواتنا اللاحقة في ظروف الصراع اللبناني.
لكن ذلك لم يكن عمل شخص واحد حي … أعتقد أن مشاعر الحنين لدى قدامى المحاربين في سفارتنا في الثمانينيات تفسرها الأجواء السائدة لدى موظفي السفارة في تلك الأوقات.
على الرغم من الصعوبات، عشنا معاً أوقاتاً متعة. كانت حياتنا دائماً صاخبة، مرحة، ومثيرة، خصوصاً حين كنا نلعب الكرة الطائرة. كان يحدث ذلك كل يوم تقريباً، بالتناوب بين الرجال والنساء، ثم ضمن فريق مختلط. كنا نبدأ في المساء الباكر، عند الساعة الخامسة، ولا نتوقف حتى الساعة الحادية عشرة. كنا نلعب حتى في لحظات المبارزات المدفعية بين القطاعين الغربي والشرقي من المدينة.
كان من غير المجدي الإرشاد والنصح. لكن مباريات الكرة الطائرة هذه لم تكن تمنح الناس الاسترخاء الجسدي فحسب بل الاسترخاء النفسي أيضاً.
بالنسبة إلى غير اللاعبين، كان الملعب الرياضي مكاناً للالتقاء والتواصل. كان من الممكن تبادل الأخبار ومشاهدة المباراة والتشجيع.
كان هناك عدد من المشجعين أكبر من أولئك الذين يعملون في السفارة. بمجرد أن تنطلق الكرة، كان المتفرجون بين اللبنانيين يصطفون على شرفات المنازل المجاورة، يمدّون الطاولات ويفتحون الزجاجات. لقد كان اللبنانيون يشجعون بحماسة أكبر من أبناء بلدنا، وكانت رد فعلهم صاخبة على كل ضربة ناجحة. وكما قيل لي، تم تأجير الشقق التي تطل شرفاتها على مجمع السفارة بأسعار أعلى من الشقق التي تطل على أطراف أخرى.
بالطبع، استهلكنا بلا هوادة الكثير من الكهرباء. من الناحية النظرية، كان عليّ الكفاح من أجل توفير النفقات. ولكن بالرغم من هذا الهدر، فقد كنتُ مقتنعا بأنه من الخطأ للغاية التوفير في هذا الجانب. بخلاف ذلك، كان الناس سيبحثون عن متنفس آخر. أي نوع؟ أعتقد أن السؤال بلاغي! من المثير للدهشة، أنه ضمن فريق السفارة في نهاية الثمانينيات لم يكن هناك شخص يمكن أن يزعم تعرضه لـ”سوء معاملة”.
ذهبت شخصياً إلى ملعب الكرة الطائرة عدة مرات ، لكن إيرينا الكسيفنا لعبت لنفسها و “لهذا الرجل” (عنوان اغنية ليوسف كوبزون: المترجم). ومع ذلك، كنت عضواً في فريق السفارة في أكثر الرياضات الفكرية – لعبة شد الحبل!