عندما ينسحب مرشح الحزب الديمقراطى المضطرب، قبل نحو أربعة أشهر فقط من موعد الاقتراع تغدو كامالا هاريس فى نظر ديمقراطيين كثر شككوا فى جهوزيتها لدحر منافسها الجمهورى العنيد ترامب وكأنها “مرشح الضرورة”.
ألبس بايدن تخليه عن الترشّح لولاية رئاسيّة ثانية رداء الحرص على توحيد صفوف الحزب الديمقراطى، بما يخوله الاحتفاظ بالرئاسة وأغلبية الكونجرس والولايات.
وعلى الفور، اصطف الديمقراطيون، عن بكرة أبيهم، خلف هاريس حتى يُسلّم المؤتمر العام للحزب بشيكاغو الشهر المقبل، من السيناريو المأساوى، الذى شاب مؤتمر العام 1968. فوقتذاك، تحول المؤتمر العام المفتوح، الذى التأم عقب انسحاب الرئيس الديمقراطى، ليندون جونسون، من السباق الرئاسى، على وقع تداعيات حرب فيتنام وتدهور حالته الصحية؛ إلى كابوس. ففى حينها، اشتعلت اشتباكات فى الشوارع بين المحتجين والشرطة والحرس الوطنى، وانتشرت الحرائق فى أكثر من مائة مدينة، واندلعت انتفاضات فى أنحاء الولايات المتحدة. كذلك، تم اغتيال الناشط الحقوقى، مارتن لوثر كينج، والمرشح الرئاسى الديمقراطى السيناتور روبرت كينيدى.
دونما تردد، هرعت قيادات الحزب الديمقراطى إلى تقديم الدعم لهاريس. فبعد أقل من 36 ساعة على انسحاب بايدن من السباق وتأييدها خلفا له، أعلن المئات من مندوبى الولايات، أكثرية المشرعين، الحكام الديمقراطيين، مجموعة من قادة الأحزاب فى الولايات وكثير من مجموعات المصالح المؤثرة، دعمهم هاريس. وحذا كبار قادة الكونجرس حذوهم، حيث عبّر زعيم الأكثرية الديمقراطية بمجلس الشيوخ السيناتور، تشاك شومر، وزعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس النواب حكيم جيفريز، ورئيسة مجلس النواب السابقة نانسى بيلوسى، عن دعمهم لهاريس. فيما أكد مساعدو حملتها، تسابق أكثر من 28 ألف متطوع جديد، فى تسجيل أسمائهم لتقديم الدعم، أى أكثر من 100 ضعف العدد المعتاد. وقد كلل رؤساء ديمقراطيون سابقون مثل كلينتون وأوباما، تظاهرة الدعم تلك، بإعلان تأييدهم خوض هاريس للسباق الرئاسى، ممثلة للحزب الديمقراطى.
وبرغم أنه يروق للبعض الادعاء أن انتخاب الديمقراطى ذى الأصول الأفريقية، باراك أوباما، رئيسا للولايات المتحدة عام 2008، قد بشّر بـبزوغ حقبة ما بعد العنصرية فى السياسة الأمريكية، لا يبدو أن معركة هاريس الرئاسية، ستكون بالأمر الهين. فما برحت المرأة، التى تعد أول أمريكية من أبوين مهاجرين، ذوى أصول أفريقية وآسيوية، تبدو، فى نظر ملايين الأمريكيين البيض،«أمريكية خلاسية»، من خارج نسل «الواسب» القديم و«اليانكى» التاريخى. الأمر، الذى لم يعصمها من مكابدة اضطهاد جنسى، وتمييز عنصرى من لدن قطاع عريض من المحافظين الأمريكيين. فلطالما شكّك نفر من موظفى البيت الأبيض فى قدرة، هاريس، على العمل ضمن فريق موسع، أو التصدى لمهام تنطوى على مخاطر. وقد شكا مساعدوها من أن فريق بايدن يتعمد عدم منحها فرصا للتألق، بقصد تقليص حظوظها فى الترشح للانتخابات الرئاسية.
برغم تمترسها خلف ركائز قوة عديدة، كمثل التفاف الديمقراطيين، التدفق التاريخى للتبرعات، دعم النساء، الأقليات والشباب؛ تظل هاريس أسيرة الحاجة الملحة لتحطيم «السقف الفولاذى». فعلاوة على صلابة منافسها الجمهورى، تواضع خبراتها السياسية، وسجلها غير الحافل بالانجازات كنائبة للرئيس، تحتاج هاريس إلى قهر شوائب الاضطهاد الجنسى والتمييز العنصرى التى ظلت دهرا تعكر صفو الديمقراطية الأمريكية
وعلى مدار تاريخ الديمقراطية فى بلادهم، والذى يعود لأكثر من قرنين، لم ينتخب الأمريكيون سوى رئيساً أسود وحيداً فقط، وبشق الأنفس؛ فيما لم يسبق لهم انتخاب امرأة ذات بشرة سوداء، أو حتى بيضاء قط. ما يجعل بعض الناخبين السود يتساءلون عما إذا كانت هاريس قادرة على تجاوز ما يمكن تسميته «السقف الفولاذى» التاريخى، فى السياسة الأمريكية.
ربما تراهن هاريس على مبدأ «الالتزام الحزبى» أثناء الاقتراع، حيث يلتزم 90% من المنتمين للحزبين الرئيسيين بالتصويت لمرشح الحزب؛ بينما لا يغرد خارج السرب، سوى 25% فقط من الناخبين، الذين يندرجون ضمن قائمة المترددين. ومقارنة بمنافسها ذى الثامنة والسبعين عاما، لم تتجاوز هاريس التاسعة والخمسين. وقد أظهر استطلاع رأى أجرته شبكة «إيه بى سى» الأمريكية منتصف يوليو/تموز الجارى، أن 60% من الأمريكيين، لا سيما الشباب يعتقدون أن ترامب بات طاعنا فى السن، إلى حد يمنع ترشحه لولاية ثانية. وبين هؤلاء 82% من الديمقراطيين، 29% من الجمهوريين و65% من المستقلين. وتتطلع هاريس للمحافظة على تلك الكتلة التصويتية، التى كانت حاسمة فى فوز بايدن، بانتخابات 2020، بعدما اقتنص دعم 60% من الناخبين تحت سن الثلاثين.
بانتمائها إلى شريحة تمثل 15% من الأمريكيين ذوى الخلفيات العرقية المختلطة، تجسد هاريس «بوتقة الصهر الأمريكية»، التى تتسع لمختلف الأقليات والأعراق. وبرغم أن الناخبين الملونين يشكلون نسبة 30% من القوة التصويتية الأمريكية، لم تتجاوز نسبة مشاركتهم التصويتية 22% أثناء انتخابات 2020. الأمر الذى يضع علامات استفهام بشأن قدرتهم على حسم السباق الرئاسى لصالح هاريس. ولعل هذا ما يدفعها إلى التعويل على دعم الناخبين من «الجيل Z»، الذين شرعوا فى التحرك عبر الإنترنت لحشد التأييد لها. وذلك ضمن تحوّل فى المزاج التصويتى لدى الناخبين الشباب، من ذوى الميول اليسارية والمنظمين والناشطين؛ الذين تملكهم شعور بالإحباط حيال ترشيح بايدن جراء كبر سنه، عدم لياقته الصحية، وتعاطيه غير الإبداعى مع قضايا داخلية وخارجية شتى. خلافا لهاريس يظل ترمب المرشح الأقل شعبية فى صفوف النساء.
فقد أدين فى قضية الاعتداء على الكاتبة جين كارول، تزوير سجلات مالية لإخفاء علاقته الجنسية مع ممثلة إباحية. وبينما يعارض كما نائبه، جيمس دى فانس، حق الإجهاض؛ تصر هاريس على مواصلة جهود الديمقراطيين لحماية ذلك الحق على المستوى الوطنى. وقد رصد المراقبون تحولا فى أصوات النساء بالولايات المتأرجحة ضد الحزب الجمهورى، منذ إصدار المحكمة العليا حكمها التاريخى بشأن حق الإجهاض فى يونيو/حزيران 2022. إذ أقرت أن الدستور لا يمنح أو يحمى ذلك الحق، كما قررت إعادة سلطة تنظيمه إلى الشعب وممثليه المنتخبين .
فإبان الانتخابات النصفية التى أجريت بعد وقت قصير من هذا الحكم، حققت 12 ولاية رقما قياسيا، بانتخابها حكامها من النساء، كما كان لتصويت النساء الفضل فى حرمان الجمهوريين من تحقيق «موجة حمراء» خلال تلك الانتخابات.
ولقد أظهرت أحدث استطلاعات الرأى أن نسبة النساء اللاتى تنتوين التصويت لترامب ونائبه، فى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ستكون أقل من تلك التى سجلت عام 2020، خصوصاً فى الولايات الحاسمة، التى تأتى فى عداد ما يسمى «حزام الصدأ». وتشكل النساء حاليا 51 % من القوة التصويتية الأمريكية، كما سجلت الناخبات معدلات تصويت أعلى من الرجال فى عام 2022، خصوصا فى الولايات المتأرجحة، مثل أريزونا، ميشيغان، بنسلفانيا وويسكونسن، والتى من المرجح أن تحدد مصير السباق الرئاسى المقبل.
لاريب أن هاريس قد نجحت، غير مرة، فى تحطيم الأسقف الزجاجية، فى السياسة الأمريكية. إذ كانت أول امرأة سوداء من أصول آسيوية لاتينية تشغل منصب المدعى العام لمنطقة سان فرانسيسكو، ثم لولاية كاليفورنيا قاطبة، قبل أن تفوز بمقعد فى مجلس الشيوخ عام 2017. وصولا إلى القفزة التاريخية بتوليها منصب نائب الرئيس، فى يناير2021. حتى قال عنها، بايدن، فى مارس/آذار 2023: «لقد حطمت السقف الزجاجى مرة تلو الأخرى».
برغم تمترسها خلف ركائز قوة عديدة، كمثل التفاف الديمقراطيين السريع حولها، التدفق التاريخى للتبرعات، دعم النساء، الأقليات والشباب؛ تظل هاريس أسيرة الحاجة الملحة لتحطيم «السقف الفولاذى». فعلاوة على صلابة منافسها الجمهورى، تواضع خبراتها السياسية، وسجلها غير الحافل بالانجازات فى مهامها كنائبة للرئيس، تزامنا مع انحسار الأفق الزمنى للاستعداد لمعركة نوفمبر/تشرين الثاني المقبل؛ تحتاج هاريس إلى قهر شوائب الاضطهاد الجنسى والتمييز العنصرى، التى ظلت دهرا تعكر صفو الديمقراطية الأمريكية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“