جبهة الجنوب اللبناني.. بانتظار الكلمة الأخيرة لحزب الله 

إلى أي مدى يمكن أن تتطور المواجهة بين المقاومة وجيش العدو على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة؟ وإلى أي مدى ستؤثر هذه الجبهة على السلوك الإسرائيلي التدميري في غزة؟ 

من الواضح من خلال المسار اليومي لعمليات المقاومة التي يقودها حزب الله ضد المواقع الإسرائيلية على امتداد الحدود مع فلسطين أن هناك إرادة بتحويل القتال الى فعل يومي على طول الجبهة الممتدة من الناقورة غرباً على البحر المتوسط الى مرتفعات مزارع شبعا وكفرشوبا شرقاً على حدود الجولان السوري المحتل. ويستهدف المقاومون مجموعة كبيرة من المواقع الإسرائيلية ذات الأهمية الاستراتيجية، فارضين على الجانب الاسرائيلي حالة استنفار عسكري خلف هذه المواقع واتخاذ إجراءات تحوُّط تمثلت بإجلاء ما لا يقل عن 50 ألف مستوطن من 28 مستوطنة على مسافة 2.5 كلم إلى 5 كلم من الحدود مع لبنان.

تنشيط العمليات

وقد قُتل وجُرح نحو 120 ضابطاً وجندياً في جيش العدو في هذه العمليات، وفق مصادر المقاومة التي قدّمت ما يزيد على 50 شهيداً، غالبيتهم قضوا في قصف جوي بطائرات مُسيّرة على مناطق مفتوحة قريبة من الحدود. وما ساهم في تسجيل هذه الحصيلة المرتفعة أن المقاومين كانوا يقتربون كثيراً من مواقع العدو لتقليص دائرة الخطر على المناطق الجنوبية المأهولة ولزيادة نطاق الإستهداف في المناطق المحتلة حيث اتخذ العدو مؤخراً مجموعة تدابير لتقييد حركة جنوده وآلياته وبالتالي لخفض خسائره. وقد لجأت المقاومة بدورها إلى إدخال تعديلات عملياتية فرضتها تجربة الأسابيع الأخيرة للحدّ من الإصابات بين أفرادها، مع الإستمرار في وتيرة عمليات نشطة. كما أدخلت سلاح الدفاع الجوي للتأثير على حركة الطائرات المُسيَّرة للعدو.

وأرسلت قيادة المقاومة إشارات إلى أنها في صدد رفع مستوى المواجهة في حال تطلب الأمر ذلك ربطاً بأي اعتداء على لبنان يتجاوز قواعد الإشتباك (وظيفة ردعية) وتبعاً لتطور الموقف الميداني في غزة، وتحديداً في ما يتعلق بمنع العدو من تحقيق الإنتصار وكسر شوكة المقاومة في غزة. ويؤكد حزب الله أن موقفه الميداني يرتكز على دعائم عدة:

  • أولاً؛ تشتيت انتباه العدو عبر دفعه إلى توزيع قواته على غير جبهة، حيث ينشر حالياً ثلاث فرق عسكرية في جبهة الشمال مع لبنان، بموازاة خمس فرق بمواجهة قطاع غزة.
  • ثانياً؛ التدرج في العمل العسكري، حيث ألمح حزب الله إلى أن تدخله سيكون أكبر حجماً في المرحلة المقبلة، عندما ينشأ ما يستدعي ذلك. وهنا يحتفظ الحزب بخيارات لا يُفصح عنها حتى الآن.
  • ثالثاً؛ الإمساك بالموقف اللبناني من الوسط؛ ففي مقابل من يَدْعون المقاومة في لبنان إلى شن حرب مفتوحة مع العدو للتخفيف عن غزة، هناك في الداخل اللبناني من يتحفظ أو يعترض صراحة على العمل العسكري انطلاقاً من لبنان، وإن كان يتعاطف مع الشعب الفلسطيني ويرفض العدوان الحاصل عليه. وهنا يحاول حزب الله توجيه خطاب إقناعيّ لهذه الشريحة بأن القتال في جنوبي لبنان هو من أجل لبنان، كما هو من أجل فلسطين، على اعتبار أن لبنان سيكون الهدف التالي في حال تمكن العدو من سحق المقاومة في غزة. كما يؤكد للفئة الأولى أن الخطوات الميدانية التي يتخذها راهناً مدروسة وتتلاءم مع الوضع العسكري في غزة، باعتبار أن المعركة البرية في أيامها الأولى، مع ملاحظة أن لبنان هو جبهة إسناد للجبهة الأساسية حيث يتصدّر الشعبُ الفلسطيني المواجهة ويلقى الدعم في ذلك من قوى المقاومة الأخرى.

أرسلت قيادة المقاومة إشارات إلى أنها في صدد رفع مستوى المواجهة في حال تطلب الأمر ذلك ربطاً بتطورات الوضع في غزة، وتحديداً في ما يتعلق بمنع العدو من تحقيق الإنتصار وكسر شوكة المقاومة في غزة

هنا، لا بد من الإشارة الى أن المقاومة في قطاع غزة تمكنت من استغلال عامل المفاجأة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، حيث كان العدو يغطّ في سُبات حسابات استخبارية غير دقيقة، ووافقت العملية عطلة الأعياد اليهودية وعطلة السبت الأسبوعية مما وفّر أجواء استرخاء إضافية لدى جيش الإحتلال. لكن لا يمكن الآن استخدام عامل المفاجأة، لا في غزة ولا في الجنوب اللبناني في ذروة الإستعدادات الإسرائيلية. وعلى هذا، فإن أي مبادرة هجومية من نوع اقتحام مستوطنات شمالية للعدو تتطلب عناصر نجاح قد لا تتوفر حالياً.

بين “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”

لفهم سياق المواجهة القائمة حالياً، من المفيد العودة قليلاً الى الوراء: بعد مواجهة “سيف القدس” التي قادتها حركة حماس ضد العدو الإسرائيلي في أيار/مايو 2021، إلتزمت الحركة بتهدئة ميدانية وانصرفت الى ترميم قدراتها القتالية وتطويرها، وتولت حركة الجهاد الإسلامي في أعقاب ذلك قيادة معركتين ضد جيش الإحتلال (آب/أغسطس 2022 وأيار/مايو 2023). لا يخفى أن عدم مشاركة حماس في المواجهتين الأخيرتين ما قبل “طوفان الأقصى” ترك ملاحظات نقدية لدى كثيرين في الساحة الفلسطينية وخارجها، غير أن الحركة لم تُغيّر موقفها من التهدئة وإن قامت بتوفير التغطية السياسية والإعلامية للجهاد الإسلامي وللفصائل الأخرى في المواجهتين المشار إليهما.

وبعد انفجار “طوفان الأقصى” إتضح أنه كانت لدى كتائب عزالدين القسام خطة عمل تقوم على “خدعة إستراتيجية” بدأ الإعداد لها قبل عملية “سيف القدس”، وحافظت على سرّيتها لفترة طويلة، ووجدت أن من غير الضروري إطلاع بقية الفصائل على تفاصيلها من أجل تأمين عناصر نجاحها. يُقرّ الجميع اليوم لكتائب القسام بأنها قامت بإنجاز تاريخي في المواجهة مع العدو يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، متسلحةً بعنصرَيْ المفاجأة والكتمان. والعبرة هنا أن الحلفاء لا يتشاركون المعطيات حول كل شيء، في ظل احتمال وجود إختراقات إستخبارية معادية بوسائل مختلفة.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": سوء الحسابات بين حزب الله وإسرائيل يُهدّد باندلاع الحرب!

اليوم، تتكرر القصة مع حزب الله الذي انصرف بعد حرب عام 2006 الى بناء قدرات نوعية لا سيما الصواريخ الدقيقة، وطوّر خطط العمليات الحربية لديه في شكل يلحظ إمكانية السيطرة على الجليل في شمالي فلسطين. مع اندلاع “طوفان الأقصى”، توجه كثيرون بالخطاب إلى حزب الله كي يفتح جبهة الشمال الفلسطيني بدون تأخير؛ إعتبر بعضهم أن ردود المقاومة اللبنانية على هذه الجبهة مهمة ولكن غير كافية، وقال آخرون إن هذه العمليات قد لا تكون وفق توقعات الشارع الفلسطيني أو العربي لكنها تتناسب مع طبيعة الواقع العسكري في هذه المرحلة، وقدّر فريق ثالث هذه المساهمة باعتبار أنها تخلق إرباكاً لخطط جيش الإحتلال وتُرغمه على توزيع قواه العسكرية على جبهتين بدلاً من جبهة واحدة.

ويبدو أن لدى حزب الله خطة عمل عسكرية لا يتشارك جميع تفاصيلها مع فصائل المقاومة الأخرى، وهو يعالج الموقف الميداني بالتدرّج وبالتنسيق مع حلفائه على امتداد بلدان عدة، آخذاً في الإعتبار أن الساحة الإقليمية ربما تكون مفتوحة على احتمالات أوسع مستقبلاً، وتحديداً في مواجهة انتشار الجيش الاميركي في البحر الأبيض المتوسط وفي سوريا والعراق وأماكن أخرى. ونعرف اليوم أن الجيش الأميركي يشارك في قيادة عمليات جيش الإحتلال الإسرائيلي ويؤمّن ظهره في جبهات أخرى في البحرَيْن المتوسط والأحمر.

سيناريوهات متحركة 

تفتح المعركة البرية أفقاً جديداً للمواجهة المحتدمة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الإحتلال. ومع مباشرة عمليات يومية في العراق وسوريا ضد القوات الاميركية وانطلاق صواريخ ومُسيَّرات من اليمن في اتجاه فلسطين المحتلة، وازدياد الرسائل الساخنة بين طهران وواشنطن، يبقى الجنوب اللبناني محط أنظار الإسرائيليين والأميركيين. ويدرك هؤلاء أن حزب الله لم يقل بعد كلمته الأخيرة في شأن حجم مشاركته في العمل ضد مواقع الإحتلال في شمالي فلسطين المحتلة.

لا شك أن قطاع غزة يدفع تضحيات كبرى في المواجهة الراهنة، لكنها تعكس بشكل أو بآخر ضخامة المأزق الصهيوني إلى حدّ التفكير بإحداث “ترانسفير” من غزة إلى سيناء، والتلويح بـ”ترانسفير” لاحق من الضفة إلى الأردن. وتفتح هذه التصورات الجنونية الباب أمام انزياح شديد وتدهور للموقف قد لا يرغب به الأميركي

ومن المسلَّم به أن أسابيع وربما أشهراً صعبة جداً في انتظارنا، وهي تتطلب خوض هذه المجابهة بنفَس طويل وكفاءة استثنائية، خاصة أن الحرب – كما تتجلى الآن – ليست مع إسرائيل فقط، بل هي كذلك مع التحالف الغربي المُساند لها. وتبرز أولوية وقف العدوان كهدف أساسي لإفشال مخطط العدو، وذلك عن طريق رفع تكاليف الحرب على جيشه وزيادة استنزافه على جبهات عدة وممارسة الضغوط العسكرية وغير العسكرية على حليفه وراعيه الأميركي. ومن شأن ذلك كله، مترافقاً مع خسارة الولايات المتحدة لرصيدها على المستوى الإقليمي والدولي، أن يتحول عاملاً ضاغطاً على العدو لخفض سقف توقعاته لنتائج الحرب.

وقد لوحظ في هذا الإطار أن الإدارة الاميركية تعمل في اتجاهين: أولاُ؛ إعادة تلميع صورتها بعد انكشاف دورها الفاضح في رعاية العدوان على الشعب الفلسطيني، عبر الحديث المتكرر عن جهود لدى حكومة الإحتلال لفتح معبر رفح امام إمدادات إنسانية. ثانياً؛ الدفع باتجاه تقصير عمر حكومة بنيامين نتنياهو بعد انتهاء الحرب على غزة بهدف إنتاج حل سياسي يترافق ربما مع إرسال قوة متعددة الجنسية الى قطاع غزة، وفق ما ذكر موقع “بوليتيكو” الأميركي نقلاً عن مسؤولَيْن رفيعي المستوى في الإدارة الأميركية. وبرغم أن واشنطن عزّزت قواتها في المنطقة، إلا انها أرسلت إشارات إلى أنها لا تميل إلى توسيع نطاق الحرب، وقد لوحظ ذلك في تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن بعد عودته من تل أبيب إلى واشنطن حين نفى أن يكون قد أبلغ إسرائيل بأن الولايات المتحدة ستدخل الحرب في حالة انضمام حزب الله للصراع. وهذا بخلاف ما أوحى به إعلام العدو من تعهد أميركي بتولي أمر حزب الله اذا تدخل في القتال ضد إسرائيل.

في الحصيلة، لا شك أن قطاع غزة يدفع تضحيات كبرى في المواجهة الراهنة، لكنها تعكس بشكل أو بآخر ضخامة المأزق الصهيوني إلى حدّ التفكير بإحداث “ترانسفير” من غزة إلى سيناء، والتلويح بـ”ترانسفير” لاحق من الضفة إلى الأردن. وتفتح هذه التصورات الجنونية الباب أمام انزياح شديد وتدهور للموقف قد لا يرغب به الأميركي لأسباب تتصل بحساباته لمجمل الوضع في المنطقة والعالم. وفي وقت يرفع محور المقاومة، وفي طليعته حزب الله، وتيرة الضغط على العدو وحليفه الأميركي، هناك رهان كبير على المقاومة الفلسطينية التي تحتفظ بقدرات دفاعية مؤثرة، وهي استطاعت في الأيام الأولى للهجوم البري الإسرائيلي أن تلحق بالعدو خسائر بدا مجتمعُه غير متقبّل لحدوثها، بالرغم من كل الحديث السابق عن أن المعركة تتطلب أثماناً باهظة.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  معادلة "ف ـ ا ـ س" بديلاً للسين سين