ما تزال الغيوم السياسية كثيفة جداً في الأجواء الجزائريّة، وليس ثمة أفقٌ واضح لاستظهار أيّ مرشحين رئاسيين بإمكانهم أن يجدوا الوقت الكافي لعرض برامجهم ومشاريعهم الانتخابيّة على الشعب الجزائري خلال أسابيع قليلة. فالمسألة على ما يبدو تكمنُ في رغبة المؤسسة العسكريّة في “التحرّر” من السياسة والعودة إلى الثكنة، أو “مزاولة” النشاط السياسي بإيعازٍ خفيّ، بحيث تتغيّر المواقع على غرار ما سبقَ في تاريخ هذا البلد، مقابل استيقان المؤسسة العسكريّة وارتياحها إلى تأطير دور الرقيب على أعمال الرئيس المقبل.
إنّ هذه المدة القصيرة التي رأى قائد الأركان فيها كفاية زمنية للخروج من الأزمة والمرور إلى ما بعد الاستحقاق الانتخابي وفقاً للدستور، لا تعكس إلا مزاجين سياسييْن؛ أحدهما، لسان حال المعارضة وهذا الأول؛ والثاني، هو مبدأ الموالاة في التأسّسِ كطرفٍ أثيل في مركز الخصومة: فالأول، يقولُ بكفاية هذه الفترة للمؤسسات العسكريّة في دول ما قبل السياسة، لتكريس دور الجيش في التحوّل الجيني إلى عسكر، بصورة تجعلهُ يتمكّنُ من فرض إملاءاتهِ وتحديد شروطهِ وتكريس مقاساتهِ وحساب قياساتهِ، من أجل إحراج المدني والسياسي والدفع بهما نحو التسليم بواقع الحال العسكري.
أما الثاني، فهي الرغبة الملحة في المؤسسة العسكريّة في إنهاء التعويل الشعبي عليها، بوصفها أداة رقابة من داخل الحكم، والتعجيل بالنظر إليها كـ”مُرافِقة للشعب” في انتقاله الديمقراطي من خارج الإملاء والقسر الداخليين، من أجل استعادة الثناء الشعبي على الجيش في حمايته للحدود بدلاً من الانشغال بالردود كما كان عليه الأمر قبل سقوط نظام بوتفليقة، وبالتالي فالتعجيل بالانتخابات في عرف الموالاة؛ سُنّةٌ ديمقراطيّة وجب الحفاظ عليها، ونقلها من الهجر السياسي إلى الحلول الدستوري.
بيد أنّ هذه المدة غير كافية للمؤسسات السياسيّة في دول ما بعد العسكراتيّة لتأصيل نظام ديمقراطي كامل، ينقسم فيه الحكم إلى آلياتٍ محدّدة، تتجلّى فيها العلاقة السياسيّة بما يقتضيه الدستور المرن، ذلك الذي ينص على تعديل نفسهِ متى تغيّرت شروط اللعبة وطرأت متغيّرات على سير البلد، تحسّباً لأي فراغٍ ينجم عن هذا التغيّر.
بين المدني والسياسي
هذا الواقع يكشف عن مدى التباين الحاصل بين المدني والسياسي، ويشفّ عن طبيعة الافتراق المنهجي بينهما؛ ليس في السياسة فقط، وإنّما في شؤون الاجتماع السياسي برمتهِ بما انطوت عليه السوسيولوجيا السياسيّة من نقاشات شتّى في أكثر من موضوعةٍ سياسيّة واجتماعيّة وفكريّة.
وهنا بدا أنّ المأزق السياسي في الجزائر، ينصرفُ إلى هذا الاشتباك الرؤيويّ بين مدنيّ لا يقوى على احتمال عودة الجيش إلى السياسة، وعسكريّ لا يفتأ برهةً في تأكيد خروجهِ عن هذا الطوق، وتسريع هذا الخروج مهما كلّفَ الأمر، بشكلٍ لا يعفي المؤسسة من اتّهامها بالتستّر خلف من تراهم يؤمّنون سريان رؤيتها للسياسة في هذا البلد، بحسب ما يقولهُ معارضون، تمحّلوا سابقاً في مغازلة المؤسسة العسكريّة، وبعضهم استعان بها على قمع الإسلاميين في تشريعيّات 1991 الشهيرة.
يخفي هذا التباين أمراً بات مكشوفاً، مفادهُ استحالة التقاطع بين شكلين رؤيويين للسياسة، لم يفرزا أيّ تشابهٍ بإمكانهِ أن يُجسّر الفرق ولو قليلاً. فالواقع الشعبي بينهما ربما يدخل بوصفهِ عاملاً ثالثاً، لا يجد نفسهُ مجسّداً فيهما، لا سيما أنّ الضباب يلفّ مطالب الحراك كثيراً، بسبب تأخر التأطير أو انعدامهِ ونجاح النظام السياسي السابق في إفراغ الحياة الشعبية من أيّ محتوى سياسي، بسبب ميلهِ لمنح هامش تعبيري للصحافة والأحزاب والشعب، وقصّر رغبتهِ في الدخول إلى السياسة من خلال الأحزاب والجمعيات الفاعلة ذات الوجود الحقيقي، ففي بعض المجتمعات، تكون الحاجة إلى الحزب تعبيراً عن الحاجة إلى التعبير، أيّ اللجوء إلى الحزب من أجل الحماية وتأمين سياق سياسي يتيح مجالاً للتعبير “القانوني” عن الرأي السياسي.
ذلك أنّ الحزب بتعبير غرامشي، هو “المثقف الجماعي”، القادر على إثبات نفسه من خلال تعاطيه في الشأن العام الذي يخصّ مصيرهُ ويحدّد طبيعة وجودهِ ودوره في صناعة مآله ومساره بنفسه.
أزمة الهوية
هذه الفروق هي التي تجعل جزائر اليوم تقف على مفترق الطرق بقدرٍ كبيرٍ من الاستسهال، وبأفقٍ يشوبهُ الكثير من الغبش، لا يبشّر بأفقٍ مفتوحٍ على معرفة شاملة بما سوف تكون عليه البلاد مستقبلاً. هذا الاستسهال عكسهُ الجدل الفارغ حول مسائل الهويّة واللغة، والتسرّع في حصر المشكلة فيهما، بشكلٍ ينمُ عن قصور بالغ في اختصار المسافات والقفز على الحواجز الوهمية تحت ضغط الغرور الثوري، فالثورة ليست توزيع المياه على عطشى المسافات الطويلة، أو الاعتداد بهوية غير واضحةٍ كفاية، والبناء على ميلٍ غير ضروري لإحدى الهويتين (العربية أو الأمازيغيّة)، في حين أنّ الهوية ترفٌ للدول التي لم تحدّد شكل نظامها بعد، أو على الأقل يمكن التقدّم بأكثر من هوية دون أن تصبح جوهراً ومبتدأ للعراك الإيديولوجي في بلادٍ جزءٌ من سكانها أكبر من استقلالها، ولم يكن خطاب الهوية خطاباً في صلب التناول السياسي كما هو اليوم بالنسبة لشرائح واسعة من الشباب، أبانوا عن نزوعٍ ريفي نحو الاعتضاد بالهوياتِ غير المتحقّق من الانتساب إليها. فثمة في الجزائر من يكتشف حديثاً بأنّه أمازيغي من أصل عربي، وهنالك من يقول بأنّه عربي من أصل أمازيغي، وينشب نقاشٌ كوميدي على غرار هذه الاكتشافات الطريفة.
لم يكن خطاب الهوية خطاباً في صلب التناول السياسي كما هو اليوم بالنسبة لشرائح واسعة من الشباب
المجتمع العسكري
يُفردُ إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” هامشاً ضرورياً في فهم طبيعة وجود الحزب ضمن الثقافة والسياسة معاً بإيراد تمييزٍ لامعٍ قالهُ المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، وصفه سعيد بـ”الناجح” بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، فالمجتمع المدني ما كان قائماً على “وشائج وروابط اختياريّة، أو على الأقل عقلانيّة وغير قسريّة (المدارس، العائلات، النقابات..)، بينما يتشكّل المجتمع السياسي من مؤسسات الدولة والشرطة والجهاز المكتبي والمركزي” وطبيعة العلاقة بين المجتمعين قائمة على ما سمّاه غرامشي بـ”الإقرار”.
مع التطوّرات التي حدثت في القرن العشرين الذي سمّاهُ المؤرخ البريطاني إريك هوبسباوم بـ “القرن الوجيز الذي بدأ بحربٍ (الحرب العالمية الأولى 1914) وانتهى بنتيجة حرب 1991 (انهيار الاتحاد السوفياتي)” في حين عارضهُ المؤرّخ الفرنسي فرنان بورديل وسمّاه بـ “الزمن الطويل”، لأنّ الحروب تُوقف الزمن فيما السلام يمرّرهُ على عجل.. بات هذا القرن الإشكالي قرناً يفرض مجتمعاً جديداً قائماً على السيطرة والالتحام والتشنّج، هو المجتمع العسكري، وهو ذاتهُ المجتمع الذي يتعذّر عليهِ فهم المدني متى فرضت الصدفة المحسوبة أو المتروكة في الهامش المطلوق على عواهنهِ، اشتباكاً ناعماً في مستوى واحد لا مزيد عنهِ ألا وهو الثورة.
هذا المجتمع العسكري يختلف عن مجتمعيّ غرامشي (السياسي والمدني)، كونه لا يعتدّ بفكرة إيلاء الروابط قيمةً ناجزة، ذاك أنّ الروابط تتوخّى شيئاً من المرونة حتى لو كانت “إقراراً”، فيما لدى المجتمع العسكري لا تقوم المسائل ولا تُفكّ المعضلاتُ إلا بالقوة والقسر، وهما طبيعيان جداً، بالنّظر إلى أنّ الجيوش بعامة لا تستندُ إلى القوة كقيمة، وإنّما تقوم عليها كبنية، والعلاقة بينهما وجوديّة صرفة لا مشاحة فيها.
فُضّ الاشتباك البيرقراطي تماماً بين الجيش وبين المخابرات منذ وفاة محمّد العماري قائد الأركان السابق
شعب بلا مرجعية سياسية
والحال أنّ غياب الأحزاب كأحزابٍ وافرة الوجود في الشارع وفي السياسة، أدّى إلى غياب السياسة في الجزائر، وزهد الشعب في التعاطي مع سياسة أحزابهم أو التأكيد على نقدهم كأفراد للعمليات الحزبيّة، وفّر وجود سياسة عامة تخلو من مرجعيّة شعبيّة، ممّا مكّن من الحصول على شعبٍ بدون مرجعيّة سياسيّة! الأمر الذي اختزل النقاش كثيراً في ما يطابق مجموعاً صفرياً (Zero-sum game) يطرح الخاسر فيه من الرابح، حتى ينتهيان إلى صفر لكليهما.
هذا الضعف قابلهُ انتظام المؤسسة العسكريّة وتمثّلها في صورة الدولة البريتورية (Praetorian State)، تنظيماً وتأسيساً واكتمالاً، فضلاً عن مقدرتها على بلورة “دسبلين” خاص بها، يضمن وجود ولاءات إداريّة وتقنية داخل تركيبتها، ليست مبنية على ولاءات سياسيّة بالضرورة، وإنّما تتحدّد هذه الأسس وبشكل عضوي في تبنّي خيار سياسي تضمرهُ أو تظهره القيادة وفق أخلاقيّات مهنية (Professional Ethics)، لذلك فالجيش الجزائري جيشٌ نظامي لداخله، معنيٌّ بالعناوين الرئيسة للسياسة، ولا تعنيّه التفاصيل الصغرى، عكس جهاز المخابرات الذي كان مشغولاً بالتفاصيل الصغرى للأحزاب السياسيّة.
وقد فُضّ الاشتباك البيرقراطي تماماً بين الجيش وبين المخابرات منذ وفاة محمّد العماري قائد الأركان السابق، وهي النهاية الفعلية لرؤيته للجيش بوصفهِ الدولة الثكنة (GarrisonState)، أيّ الدولة التي تتحجّج بالحماية من أجل عسكرة المجتمع السياسي برمته، وتشكيل قرار دستوري خديج.