تدور أحداث مسرحية “الواد سيد الشغال” المصرية حول “سيد” الشاب الذي هرب من تنفيذ عقوبة السجن ولجأ إلى خاله الذي يعمل طباخا في بيت عائلة ثرية (الأستبلشمنت)، وصار مساعداً له في المطبخ.
هذه العائلة الثرية، لديها بطبيعة الحال والأحوال، شبكة من العلاقات والمصالح تجسدت في زواج ابنتها (الشعب) من رجل ينتمي إلى هذه الطبقة (الزوج). وبعد خلافات بين الزوجين بلغت حد الشجار، وقع الطلاق للمرة الثالثة، وهو ما استدعى محللا بحسب الشرع (الدستور الأمريكي). عندها، تم اختيار “الواد سيد الشغال” للقيام بالمهمة، ظنا من أصحاب البيت والزوج السابق بانه يمكنهم التحكم بتصرفات وقرارات “سيد”.
البحث عن فضيحة
الرئيس الأمريكي ترامب يذكرني بمسرحية “الواد سيد الشغال”، وهو ما حصل في الإقالة المثيرة الأخيرة لمستشاره للأمن القومي جون بولتون. سؤالي هذه المرة يتمحور حول آلية صناعة القرار في الولايات المتحدة، وهل هناك من تغيير في آلية صناعة القرار؟ أم أن الألية تتعرض للابتزاز من الرئيس ترامب؟ وأين أثر المؤسسة الأمريكية العميقة في هذه الآلية، وهي التي لطالما كانت بصمتها واضحة للمتابعين؟
ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن ترامب ومستشاره بولتون اختلفا حول خمس قضايا: أفغانستان وعملية السلام مع منظمة طالبان. كوريا الشمالية وخطر امتلاكها القدرات العسكرية الصاروخية. إيران وسعي ترامب لجلب النظام في طهران الى طاولة التفاوض. فنزويلا واسقاط الرئيس مادورو المعارض لسياسات واشنطن. وأخيرا روسيا التي يتهم بولتون رئيسها فلاديمير بوتين بالتدخل في الانتخابات الأمريكية.
هذه قضايا من الوزن الاستراتيجي الثقيل على أقل وصف لها. وبعيدا عن دقة الخبر المنشور في الصحيفة، يوحي الخبر للمتابع أن الخلاف شخصي ومحصور بين الرئيس ومستشاره. وأن لا دور للبنتاغون ووزارة الخارجية والأجهزة الأمنية والكونغرس ومجمع التصنيع الحربي والشركات العابرة للحدود وغيرها مما يصطلح تسميتها بـ”الأستبلشمنت”. وأن الرئيس ترامب مارس حقه الشرعي (الدستوري) بإقالة مستشاره.
صحيح أن منصب مستشار الأمن القومي لا يشترط موافقة الكونغرس من الناحية القانونية لتعيينه، ما يعني أن قرار إقالته بيد الرئيس. إلا أن إقالة ثلاثة مستشارين أمر غير عابر في عالم السياسية. كما أن اللجوء الى الحق الشرعي للرئيس الأمريكي لتفسير الاستقالة غير مقنع. نحن نتكلم هنا عن العلاقة بين مؤسسات الدولة، لا عن العلاقة بين رجال الدولة. ناهيك عن خطاب ترامب الذي لا يحمل مفردات المؤسسة التي تعبر عن مصالحها الاستراتيجية.
لنتفق أن ثمة شيء غير طبيعي يحدث داخل البيت الأبيض. ليس من المعقول أن يكون هناك إجماع على كل قرارات الرئيس. في المقابل، ليست مقبولة في قاموس السياسة الجفرسونية تصرفات الرئيس ترامب تجاه آلية صناعة القرار.
حسنا بين اللا معقول واللا مقبول، تصبح الفضيحة هي السمة الثابتة في عهد الرئيس ترامب. مع كل تغريده عبر تويتر ومع كل تصريح في الإعلام، يريد ترامب أن يوحي بأن آلية صناعة القرار شخصية لا استراتيجية. وهذا شيء فيه كثير من العبث التحليلي. ولا علاقة له بواقع تركيبة القوة الأعظم في هذا الزمن.
فتش إذاً عن الفضيحة
وكما في المثل الإنجليزي أنه “لا يمكن عكس دقة الجرس”. فكيف لنا القفز من فوق الدراما الدبلوماسية التي جرت في غرفة الحرب في البيت الأبيض قبل عدة أسابيع. وصوت ضربة يد رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي على الطاولة وهو يعلن رفضه التام توجيه ضربة عسكرية لإيران جراء اسقاط طائرة درون تابعة للجيش الأمريكي. جرس العم سام الذي يعلن بصخب أن المؤسسة العميقة موجودة في آلية اتخاذ القرار!
لعل العهد الذي يضاهي عهد ترامب الرئاسي لناحية الفضائح والمؤامرات والأعمال غير القانونية هو عهد الرئيس نيكسون
تعددت الفضائح والخطاب الترمبي واحد. والاستناد الى السمة الفضائحية لإدارة ترامب كمبرر لقرار الاستقالة، قد يكون أكثر ميلا لناحية معرفة ما يجري في واشنطن. كلما كثرت الفضائح الرئاسية، ازداد تدخل “الإستبلشمنت” في قرارات الرئيس. ومن خلال العلاقة الطردية بين الفضيحة وصناعة القرار يمكن الاقتراب من فهم ما يحصل في البيت الأبيض.
لنتذكر أن الرجل الأكثر شهرة في سجل المستشارين لرئيس أمريكي هو الوزير السابق هنري كيسنجر. ولعل العهد الذي يضاهي عهد ترامب الرئاسي لناحية الفضائح والمؤامرات والأعمال غير القانونية هو عهد الرئيس نيكسون، حتى أنه يوصف في الذاكرة الجماعية الأمريكية أنه عهد الدولة البوليسية والانحلال الأخلاقي.
فقد عمل كيسنجر مستشارا للأمن القومي طيلة فترة عهد نيكسون. وينسب له توصيفه عمل المستشار بأنه عبارة عن اسداء مشورة من داخل السياق الاستراتيجي للبلد وليس من خارجه. لذلك، كان حواره مع الصين الشعبية وانهاء الحرب الفيتنامية والدعم اللامحدود لإسرائيل في حرب عام 1973م، الا من هذا المنطلق.
بمعنى آخر أن جون بولتون، وفي خضم عاصفة الفضائح الترامبية، كان يشير بعكس ما تشتهيه سفينة “الإستبلشمنت”، ما شكل ضغطا إضافيا على رئيس يقاوم أمواج المعارضة من داخل إدارته والمؤسسة، ما جعله يقوم بالتضحية بمستشاره برميه من مركبه.
في الخلاصة، للإقالة أبعاد تتخطى الحق الشرعي لـ”الواد سيد البيت الأبيض”، قد تتصل بحدود تكاثر ضغط الفضائح حول البيت الأبيض. ويوما بعد يوم، يبدو طوق المؤسسة الأمريكية أكثر ضيقا في صناعة القرار. وأن الفضيحة لم تكشف عن هويتها بعد. فكل ساكن للبيت الأبيض يصب جهده في البحث عن حرب وفي تجنب الفضيحة، إلا ترامب. هو الرئيس الذي يبذل جهدا لتجنب الحرب ويبحث عن الفضائح، هذا إن لم يكن هو الفضيحة نفسها!
(*) كاتب سعودي