أذكر أنه لم يمض علينا صيف لم نقض بعضا منه في مصيفنا بضاحية سيدى بشر. هناك نضج الأطفال ليصيروا في عرف الكبار في العائلة شبابا. كنا نحن الأربعة شلة قوية التضامن. لم يخف على أحد منا ما يفعله أو ينوي فعله الآخرون. تلقينا معا على يد الدكتور فريد زوج شقيقتي، دروسا نحو فهم متعمق بعض الشيء لعوالم الحضارة الغربية والسلوك الاجتماعي المختلف نوعا ما عن السائد ودروسا في علوم الجغرافيا والموسيقى الكلاسيكية. بفضل هذه الدروس وأغلبها جري في البيت وبعضها في معمل الموسيقى بالطابق الأعلى في مبنى كلية التجارة، أقول بفضل هذه الدروس قبلت وأنا في الثامنة عشر التكليف بمهمة الإشراف على غرفة الموسيقى الملحقة بالمكتبة الأمريكية الواقعة في جاردن سيتي إلى جانب عملي كمتدرب في أقسام أخرى بالمكتبة. تخرجت من الجامعة بعد عام من بدء العمل في المكتبة واخترت التقدم لامتحان الملحقين الدبلوماسيين. جرى التحضير له والانتهاء منه خلال عامين تخللتهما حرب السويس.
***
كتبت هذه المقدمة الطويلة لسبب ولحاجة. أما السبب فهو أن نقاشا أكاديميا هاما يدور هذه الأيام حول موضوع الحنين للماضي، وقد لاحظت أنني عندما أكتب الآن عن فترة عشتها مع “شلة” العائلة كنت ألجأ لثلاثتهن أو إحداهن لأتأكد من أنني وصفت بالدقة اللازمة وقائع الماضي الذي أكتب عنه كما عشته، كانت النتيجة إن اهتم ثلاثتهن بما أكتب أكثر مما توقعت، خطر لي خاطر أو سؤال. أليس من حق كل منهن أن أنوه بدورهن والمساعدة التي قدمتها؟ هذا عن السبب أما عن الحاجة إلى كتابة هذه المقدمة فتعود إلى اكتشافي أنني كثيرا ما كتبت عن ماضي عشته بنفسي حرفيا ناسيا أو متجاهلا أن آخرين عاشوا هذا الماضي من بعيد أو من قريب ولهم رأي فيه، ساهموا في صنعه، أثروا في مجراه أو تأثروا به. لم يخطر لي أن أسالهم كيف تلقوا أخبار وتفاصيل ماضي عشته بدونهم في غربة طويلة وإن متقطعة. رحلت عن البلاد وبدأت تغيب عن كل منا تفاصيل كثيرة عن ماضي يجمعنا ولم نصنعه مجتمعين كعادتنا.
***
استجابة للسبب وتلبية للحاجة طلبت من كل من نبيلة وأميرة وقد تجاوزتا الثمانين من العمر كتابة ما يتذكران عن سنوات كنت فيها في الخارج وكانت حافلة بالمخاطر والمشكلات، وكيف تلقت العائلة وبخاصة أبي وأمي الصدمات والتغيرات والأزمات التي واجهتني وعائلتي الصغيرة خلال أيامي الأولي في العمل الدبلوماسي. إليكم ما كتبته نبيلة بأسلوبها وكلماتها:
“أنت يا أخويا يا حبيبي نشفت دم الأسرة ثلاث أو أربع مرات. أول مرة وأنت في سن المراهقة حين ذهبت في رحلة مع الجامعة إلى غزة وسحبك فضولك أنت ورفاقك إلى رؤية ما يحدث وراء الحدود. من هنا كانت المصيبة الكبرى بالنسبة للعائلة الكريمة إذ نزل الخبر على الوالدة وكأنها النهاية. بكاء مستمر وخاصة في حضور وفضول الصحفيين الذين توافدوا على البيت في شارع سامي فور إذاعة خبر الاختطاف. أما الوالد فكان دائم الدوران على أي معلومات مفيدة من جهات عليا.
المرة الثانية وكنت أنت وأسرتك في الصين ملحق سياسي في وزارة الخارجية المصرية وجاء وقت المرور على مصر في طريقكم إلى مقر عمل جديد في روما. كنا جميعا في انتظار رؤياكم وكان معاكم ضيف جديد وهو ابن أربعة شهور، وإذا بباب الشقة يخبط وتفتح أميرة الباب ومن خلفها وقف والدنا وأصعب خبر يسمعه أن الطائرة سقطت وبها أغلي الحبايب.
المرة الثالثة وكنتم في روما. مرت أيام كانت صعبة علينا قوي لما سمعنا إن أنت مريض وتعبان والدكاترة طلبوا إجراء عملية جراحية كبيرة لاستكشاف مصدر الألم اللي بتشكي منه وإجراء جراحة في المعدة إن لزم الأمر.. وإحنا في مصر بعيد عنك مش عارفين نعمل إيه. لكن بعد كده اتطمنا عليك وسمعنا من زملائك إن والدة زوجتك لبست الفرو بتاعها ونزلت تشحت في الشارع. الله أعلم دي كانت عندهم عادة لطلب الشفاء من الله، والحمد لله استجاب وطلع الأمر بسيط، ولكن بعد ما نشفت دمنا.
المرة الرابعة كانت في التسعينات وكنت في مصر وجاتلك حاجة في القلب على غفلة ونقلوك على مستشفى مصطفي محمود في المهندسين وكان يوم جمعة ولا في دكتور موجود. اتصلنا بالسيد حسنين هيكل وشرحنا له الوضع. جه على الفور هو وابنه كان طبيب. اتصلوا بالأطباء وحضروا. وطبعا إحنا كانت أعصابنا ما فيش خالص لحد ما ربنا طمنا وبعتوا جابوا حقن. والحمد لله ربنا يديك الصحة”.
***
إليكم الآن ما كتبته أميرة ابنة أختي، والأصغر من خالتها نبيلة بأشهر معدودة:
“الحقيقة هم ثلاث ضربات. الضربة الأولى بتاعة غزة. كنت صغيرة لقيت بيتنا وبيت نينة مقلوب، وبيقولوا مسكو جميل في إسرائيل. أنا كان مجرد ذكر اسمها بيعمللي هلع. وتليفونات بقى من العيلة والمعارف والدنيا مقلوبة، وكله بيدعي ربنا. وأذكر إن الجرايد ذكرت الحادث وأعتقد إنه نزللك صورة في أحد الجرايد. وكلنا فاكرين جدي الله يرحمه لما كان يقفلك في ركن البلكونة كل ليلة وأنت لسه في الجامعة يستناك ويدخل يجري علشان يقوللنا أنك وصلت.
الحكاية التانية، لما سافر خالي العزيز للهند ملتحقا بالسفارة المصرية وهو دون الثانية والعشرين. وبعد عدة أشهر أرسل لنا صورة لفتاة جميلة وكانت ابنة السفير السوري. يشاء ربك أن تعلن الجمهورية العربية المتحدة ليتمكن من الزواج بها. وكأن الوحدة تمت لإتمام هذا الزواج. انتقل الخال مع زوجته إلى الصين حيث أنجبت الحفيد والذي سمي باسم سمعته للمرة الأولى.. العزيز ولد الخال سامر.
الضربة التالتة: كنا في انتظار عودة الغالي وزوجته والحبيب سامر من الصين في طريقهم إلى إيطاليا. رن جرس الباب فتحت لقيت رجلين وبيسألوا دا بيت فلان.. أيوه يا فندم.. حضرتك إحنا مندوبي شركة طيران.. وبنبلغكم أن الطائرة وقعت فوق الهند، وإن جميع الركاب بخير.. وما أدراك ما حصل.. خوف ورعب ودعاء. وبعد عدة أيام وصلت العائلة الصغيرة وهم في حالة يرثى لها. موقف مهما حكيت لا يمكن تخيله…”.
وتستطرد نبيلة قائلة:
“إن نسيت مش ممكن أنسى اللي حصل بعد نص الليل في المستشفى. كنا في انتظار نتائج التحاليل ووسط الإشاعات وأعصابنا تعبانة، دخل علينا الله يكرمه قسيس سأل عن غرفتك وعن أقرب الأقرباء. دخل عليك وقعد جنبك في الغيبوبة. ضل يقرا ويقرا ويصلي . وأنت مش داريان. كلنا كنا مستغربين. بعد ما خلص رحت سالته مين بعت حضرتك. ما ردش علينا خالص غير إن ربنا معانا وسوف ينجو المريض. يظهر حد من أصحابك طلب منه زيارتنا عندما بلغه سوء حالتك. المهم ربنا نجاك ونجانا كلنا معاك”.