لم يكن النّظام القديم للتقاعد يُوفّر حمايةً حقيقيّةً لكبار السّنّ الذين غالباً ما كانوا يستهلكون المبلغ المقطوع خلال فترةٍ وجيزةٍ، ما يُعرّضهم للفقر والعوز لاحقاً. ولهذا، فإنّ القانون الجديد يعتمد على نموذجٍ مختلطٍ يجمع بين التّوزيع والرَسْمَلَةِ (التّمويل)، حيث تُحَوَّلُ الاشتراكات الشّهريّة إلى حساباتٍ افتراضيّةٍ فرديّةٍ تُسْتَثْمَرُ وتنمو على مدى سنوات الخدمة، ليتمّ تحويلها لاحقاً إلى معاشٍ شهريٍّ يُحْسَبُ بناءً على العمر المتوقّع وأداء الصّندوق. ولكن بالرّغم من أهميّة المبدأ، فإنّ النّقاشات التي دارت حول تفاصيل هذا القانون كانت ساخنةً وحادّةً، كاشفةً عن عمق الشّكوك إزاء قدرة الدّولة اللّبنانيّة على تطبيق هذا “الإصلاح”.
في خضم المداولات داخل مجلس النّواب، برزت تعابير تعكس حدّة الخلاف على ضمانات هذا النّظام وقيمته الفعليّة. ومن أبرز هذه التّعابير كان وصف بعض النّواب للقانون بأنّه مجرّد “برودَكْت” (Product) أو “منتجٌ”. وعلى الرّغم من أنّ هذا المصطلح قد يُسْتَخْدَمُ في الأدبيّات الفنيّة الدّوليّة للإشارة إلى تصميم أنظمة التّقاعد (Pension Products)، إلا أنّ توظيفه في سياقٍ سياسيٍّ لبنانيٍّ يحمل دلالةً نقديّةً مزدوجةً لا يمكن إغفالها. فالمنتقدون يرون أنّ هذا الوصف يؤكّد أنّ القانون تمّ التّعامل معه كـ”صفقة إصلاحٍ” تُنْجَزُ لرفع العتب وتلبية شروط المؤسّسات الدّوليّة، وليس كـ”حقٍّ اجتماعيٍّ” يجب تحصينه. والأخطر من ذلك، هو الشّعور بأنّ هذا “المنتج” غير مكتملٍ، إذ ترك القانون الكثير من القضايا الجوهريّة، كآليات الاستثمار الدّقيقة وضوابط حماية أموال الصندوق وتشكيل مجلس الإدارة، للمراسيم التّنفيذيّة التي ما تزال غائبةً، مما يجعل القانون يبدو كعبوةٍ وُضِعَتْ لها تّسمية رّنانة بينما يغيب المحتوى الدّاخلي الحاسم وكأن وظيفته انتخابية، فيما تضغط الصناديق الدولية للتحرر من أعباء التقاعد ولا سيما في القطاع العام (أكثر من 120 ألف متقاعد).
قانون التّقاعد والحماية الاجتماعيّة في لبنان هو إنجازٌ تشريعيٌّ من حيث المبدأ؛ فهو يعترف بالحاجة الماسّة إلى نظام معاشاتٍ تقاعديّة. ومع ذلك، فإن نجاحه الحقيقيّ لن يُحَدَّدَ بالإقرار النيابيّ، بل بمدى قوّة وشفافيّة المراسيم التّطبيقيّة التي ستتبعه. ما لم تضمن هذه المراسيم استقلاليّة الصّندوق وحمايته من التّوظيف السّياسيّ، ووضع آليات تمويلٍ حقيقيّةٍ وفعّالة، فإنّ “المنتج” الجديد سيبقى مجرّد إطارٍ قانونيٍّ هشٍّ، وقد يتحوّل إلى عبءٍ إضافيٍّ على العمّال
وعلى صعيد متّصلٍ، تركّز الجدل بين الخبراء الاقتصاديين على نقاطٍ ثلاثٍ رئيسيّةٍ تهدّد نجاح القانون وتحوّل مبدأه النّبيل إلى نظامٍ هشٍّ: أوّلها، مخاطر التّمويل والرسملة؛ فالنّظام الجديد، بارتكازه على الاستثمار في حساباتٍ فرديّةٍ افتراضيّةٍ، يُعرّض المضمونين مباشرةً لمخاطر السّوق، وهذا أمرٌ مقلقٌ للغاية في بيئة استثمارٍ غير مستقرّةٍ تعيش انهياراً ماليّاً ومصرفيّاً. ويتفاقم هذا القلق بسبب التزام الدّولة بتسديد ديونها المتراكمة (مساهمتها) للصندوق الوطنيّ للضّمان الاجتماعيّ، وهي مبالغٌ ضخمةٌ لم تُوضَعْ لها خطّة تمويلٍ واضحةٌ ومضمونةٌ بعد، ممّا يترك مصير هذه الأموال معلّقاً بين الوفاء بالالتزام أو البقاء مجرّد “وعدٍ” على الورق. ثانيها، ضعف الضّمانات في وجه التّضخّم كعاملٍ مدمّرٍ؛ ففي حين أنّ قيمة المعاش التّقاعديّ الدّنيا التي يحدّدها القانون لا تتناسب مع الزيادة الفلكيّة في تكاليف المعيشة بالدولار، فإنّ النّص المتعلّق بربط المعاشات التّقاعدية بالتّضخّم جاء مشروطاً بأنّ يتمّ ذلك “عندما تتوفر الشّروط الاقتصاديّة المناسبة”. هذه العبارة الملتوية أعطت الحكومة منفذاً للتّهرّب من هذا الالتزام الحيويّ بحجّة الظّروف الاقتصاديّة، ممّا يهدّد بتآكل القيمة الشّرائية للمعاشات بشكلٍ مستمرٍ على المدى الطّويل. ثالثاً وأخيراً، أثار التّطبيق الإلزاميّ للقانون مخاوف لدى العمّال الأكبر سناً الذين كانوا يعتمدون على النّظام القديم كمبلغٍ مقطوعٍ يمكن استخدامه في الاستشفاء أو تسديد الدّيون، مما يضعهم أمام تحدّياتٍ ماليّةٍ جديدةٍ.
وفي الختام، يمكن القول إنّ قانون التّقاعد والحماية الاجتماعيّة في لبنان هو إنجازٌ تشريعيٌّ من حيث المبدأ؛ فهو يعترف بالحاجة الماسّة إلى نظام معاشاتٍ تقاعديّة. ومع ذلك، فإن نجاحه الحقيقيّ لن يُحَدَّدَ بالإقرار النيابيّ، بل بمدى قوّة وشفافيّة المراسيم التّطبيقيّة التي ستتبعه. ما لم تضمن هذه المراسيم استقلاليّة الصّندوق وحمايته من التّوظيف السّياسيّ، ووضع آليات تمويلٍ حقيقيّةٍ وفعّالة (بما في ذلك تسديد دين الدّولة بشكّلٍ مؤكّدٍ)، فإنّ “المنتج” الجديد سيبقى مجرّد إطارٍ قانونيٍّ هشٍّ، وقد يتحوّل إلى عبءٍ إضافيٍّ على العمّال بدلاً من أنْ يكون مظلة حمايةٍ مستدامةٍ لهم. يبقى المضمون اللّبنانيّ اليوم معلّقاً بين حلم المعاش التّقاعديّ الكريم، وبين مخاوف الوقوع في فخّ “المنتج” الذي لا يضمن أدنى مقومات الأمان الماليّ.
