لا تتفاجأ أبداً بما أكتبه. العالم راهناً، فيما أنا أكتب هذه الكلمات الجارحة، قيد عدالة تقتل. عدالة تظلم. عدالة ترتكب. عدالة خرساء. عدالة منحازة. أسوأ ما في هذا العالم ما يقال فيه إنّه عادل.. نموذج عدالة العالم راهناً، إنها تؤيد الإبادات والاجتياحات وكل أنواع الإجرام والاحتفال بالدماء والذبح.
غزة نموذجاً.
قيل:
“والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلةٍ لا يظلمُ”. وعليه، الظلم مزمن. منذ بدء الخليقة، حتى ما بعد هذه القرون السالفة.
أكمل ما جاء أعلاه:
احذف كل ما له علاقة بالصدق. الصدق مرتعه وخيم. البديل هو آلهة الكذب. خذ مثلاً الإعلام العالمي والمحلي والحزبي والديني. كذب فوق كذب.. كذب متقن ومفبرك. ويستحيل تكذيبه. والكذب كالفرق الدينية والأحزاب السياسية. كذب بوجوه متعددة. وعليه، الكذب هو العملة اللغوية الرائجة.. والمتبوعة.
باختصار: اكذب، سيُصدقك الكذّابون.
وعليه؛ أين نجد الصدق. عيب. حتى مدعي الأخلاق والقيم والمتعبدون والمصلون والأتقياء، يعيشون في بربرية الكذب وتوحشه. ما هو مقدس هنا، مطعون ومسفوك هناك.
المساواة.. احذفها. الحرية.. إنسَ. كل المنظومة الأخلاقية اشطبها. النزاهة.. ثم، كل ما اعتدنا عليه كذباً وابتداعاً، علينا أن نكشه من هذا العالم، لنفهم لماذا نحن في ذروة الهمجية الحديثة، التي لا تشبهها عصور همجية، “رحومة” بنسبة معقولة.
ضعوا القيم الإنسانية الرائجة كلامياً وإعلامياً، في سلال القمامة. وعلى الإنسان أن لا يكذّب على نفسه ويدعي أنه على حق. اندثرت الكتابة بالقلم، ليصير الشيطان الآلي، عبقري التأليف والامتاع والاندهاش..
اكسروا أقلامكم. مزقوا دفاتركم. ادفنوا كتبكم ومكتباتكم وصحافتكم.. الإعلام المنزل والمُقنّع، هو ما يسود اليوم وغداً وإلى دهر الآبدين.. إذاً، لا تعتمد على وحي وقيم وأخلاق. هو الدين المؤهل لإقناع العالم، بفضائل الإذلال والعمى.
سيلومني القراء على هذه المندبة المكتوبة بحبر. بكلمات ما تزال على قيد الحياة. بعدنا، سيتم توحيد اللغات ومعانيها وستتحول القيم إلى سلع لا أكثر أو نياشين على صدور آلهة المال وزبانيتهم
ماذا بعد؟
فضيحة السلام. فضيلة المساواة. فضيلة المحبة. فضيلة الخ. اخرس. افتح عينيك جيداً. البشرية عرفت سلاماً في السنوات بتعداد ستة آلاف سنة. عرفت 223 سنة سلام.. متباعدة. الحروب رئة الإنسان وهواءه ودواؤه وداؤه. حاولت الأديان أن تبث السلام والحب والعدل.. يا إلهي، تحوَّل الله في الممارسات الدينية إلى جزّار.
لذا، لا تحلموا بالسلام. وإذا حصل سلام ما، ذات تعب وخسائر فادحة، فعلى المنتصر أن ينتظر ثورة الخاسر.. البشرية متوحشة مع فارق جسيم. التوحش في الأزمنة السالفة، أي منذ البدء، منذ قايين، حتى القرن العشرين، كان شنيعاً باعتدال. أما راهناً، فإن الحروب أكولة. قنابل ذرية. غزو فضاء. تهديد بالفناء. سحق ومحق وإبادات.. راهناً، يبحثون عن جواب لسؤال جدي: سكان الأرض صاروا خائفين من عدّاد السكان المتمادي. فما العمل؟ استعدوا للإبادات الناعمة. إلى الإخفاء. إلى اعتبار أخلاقي جديد: الآلة أولاً، والإنسان أخيراً. قريباً جداً، سيصبح العاطلون عن العمل فائضاً سكانياً ووجودياً.. الحق مع الأقوياء وأصحاب المال والنفوذ والقوة.
سيصار إلى ترخيص الموت وتتفيهه واعتباره جائزة للبشرية المتبقية.
احذفوا الرحمة، العطاء، المساعدة، التنمية.. اتركوا البشرية تنهار كالقوافل الضائعة في الصحارى السالفة والتصحر القادم. احذفوا من يومياتكم منظومة القيم. القيمة العظمى الباقية والخالدة، هي أن نخدم الأقوياء فقط، حتى ولو كان الثمن هو البطالة أو التشرد أو الموت البطيء المُعمّم.
لا تنسوا “إرهاب” المنظمات الدولية. لا تعطي إلا لتأخذ أكثر. رغيف الخبز مقابل إنحناء جبهتك وتعطيل أخلاقك وإلغاء القيم. إقبل أن تكون مطيعاً. إنها “العبودية الفاضلة”.
سيلومني القراء على هذه المندبة المكتوبة بحبر. بكلمات ما تزال على قيد الحياة. بعدنا، سيتم توحيد اللغات ومعانيها وستتحول القيم إلى سلع لا أكثر أو نياشين على صدور آلهة المال وزبانيتهم.
ولمن يشك في صدقية هذه الكلمات، أن يلقي نظرة خاطفة وسطحية على الحروب المتناسلة، المستمرة والمزدهرة.. إبدأوا أولاً، من اللحظة الراهنة. من لبنان خال من العنف. إنّه على الأرض يا حكم. ولولا غداء الطائفية فيه، لمتنا جوعاً. الطائفية تحيي العصبيات وتُذخّر بالمواقف والقوة والمال القادم من الخارج، لخوض حرب بلا قتال.
سوريا.. يا حرام. مشلّعة، محتلة، مقتولة. بالكاد تتصل بماضيها “القومي”. صارت خياماً وملاجئ وجبهات و.. “شعوباً” برسم الإيجار.
العراق.. “شرحو”. موزع ومباع ومنهوب، ولكل “فيصل” أو “فيلق” طائفي أو مذهبي، حصته.. هذا ما تبقى من العراق العظيم. وغير مسموح أن يقف على قدميه. إنما، محبذ أن يستمر مفتوحاً لصفقات السرقة والنهب والإخصاء.
الأردن.. جملة مغلوطة في خضم بحر من القلق. لا يحمي أحداً إنما هو محمي ويجيد الطاعة.
مصر.. احذفوها راهناً. خلص. انتهى زمن النهوض منذ أكثر من قرن. توقف من زمن الخسائر والحروب المنكوسة. مصر لا تشبه ماضيها. ممنوع. أزمة سكانية. فليكن. أنجبوا. انتظروا فتات المساعدات والودائع. لا تسألوا لماذا صارت مصر محاصرة بالأزمات من كل الجهات (غزة، ليبيا، السودان، سد النهضة..).
ليبيا.. انسَ. السودان.. ماضٍ مضى. عراقة تدنَّت. التذابح مؤيد ومدعوم. العروبة.. ما هذه؟ ماذا بقي منها. القوميات. يا حيف. لم تولد لتموت. هي ماتت وتجرجرت إبان موتها الأول. بعد أول محاولة قومية فاشلة. المغرب.. الجزائر.. الجزيرة العربية؟
ماذا يقال غير: “إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا”.
لبنان، حصته محفوظة. إنه معجزة التناقضات وموطئ استفحال الوجود.
ماذا يبقى لنا كي نتشبث به؟
تبقى البيولوجيا. إنها البديل عن القيم الجميلة التالفة. عن الأماني الرائعة الممنوعة. عن التقدم بثمار يقطفها الآخرون. عن العلم والإبداع الذي ننفق منجزاته في مختبرات العالم المتقدم العدواني..
ماذا يبقى لنا كي نستحق هذا الوجود؟
لا أعرف.. إنما، أعوِّل على الإبداع. الفن. الحب. التآخي. الأفق القريب.. على اعتبار الإنسان، لا سواه أبداً، هو القيمة الأولى والعليا.
هل هذا قريب؟
صعب.
العواء الطائفي والمذهبي، احتل الحبر وشاشات الإعلام ووصايا السفارات.
إذا كان ذلك كذلك:
أجراس الحزن.. فلتُقرع.