“الموساد” يُلاحق “الثعلب” محمود المبحوح: اقتلوه وحظاً موفقاً للجميع (126)

يختم الكاتب "الإسرائيلي" رونين بيرغمان كتابه "انهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية" بفصل عنوانه "نجاح باهر تكتيكياً، فشل كارثي استراتيجياً"، يتحدث فيه عن عملية اغتيال القيادي في حركة "حماس" محمود المبحوح في مدينة دبي الإماراتية، ويروي كيف أن العملية التي نُفذت بسهولة سرعان ما تحولت إلى كارثة مع انكشاف أمر المنفذين.

في روايته لتفاصيل العملية يقول رونين بيرغمان: دخل محمود المبحوح بهو فندق البستان -روتانا في دبي قبيل الساعة الثامنة والنصف مساء، مثل أي من ضيوف الفندق الذين يأتون ويذهبون. التقطته الكاميرات ذات الدائرة المغلقة فوق مدخل الفندق، كان يملك شعراً أسود اللون ولديه شارب أسود كث، وكان يلبس قميصاً أسود اللون ومعطفاً أكبر من حجمه بقليل، فقد كانت ليلة باردة نسبياً في دبي التي تكون حارة عادة. كان قد مرّ على وجوده في دبي أقل من ست ساعات، ولكنه كان قد التقى بمصرفي يساعده في ترتيب تحويلات مالية مختلفة مطلوبة لشراء معدات مراقبة خاصة لحركة “حماس” في غزة. كما كان قد التقى بصلة الوصل المعتادة بينه وبين الحرس الثوري الايراني الذي جاء أيضاً لتنسيق عملية تسليم شحنة من الأسلحة لحركة “حماس”.

كان المبحوح قد نفذ عدة أشغال عندما سافر إلى إمارة دبي في 19 يناير/كانون الثاني عام 2010، وكانت تلك زيارته الخامسة على الأقل في أقل من عام. كان يسافر بجواز سفر فلسطيني إلى الإمارات، وهي واحدة من الأماكن القليلة التي تعترف بوثائق صادرة عن السلطة الفلسطينية، برغم أنه كان يحمل اسماً مزيفاً ومهنة مزيفة. في الحقيقة كان المبحوح مسؤولاً عملياتياً رفيع المستوى في “حماس”، على مدى العقدين المنصرمين: فقبل عشرين عاماً اختطف المبحوح جنديين “إسرائيليين” وقتلهما، ومؤخراً بعد أن قام “الموساد” بتصفية سلفه عز الدين الشيخ خليل في دمشق بات المبحوح يتولى مسؤولية بناء ترسانة “حماس” بالأسلحة.

يتابع بيرغمان، على مسافة خطوة أو اثنتين خلف المبحوح كان هناك رجل يتحدث على الهاتف ويتبعه نحو المصعد، “آت الآن”، قال الرجل لمُحدّثه على الهاتف، ومن المحتمل أن يكون المبحوح سمع ذلك ولكنه لم يعط إشارة إلى أنه شاهد شيئاً، إذ لم يكن في الأمر أي شيء غير معتاد لسائح في دبي يُخبر صديقه أنه في طريقه إليه.

كان المبحوح بطبيعته رجلاً حذراً جداً، وكان يعرف أن “الإسرائيليين” يريدون قتله وقد أخبر تلفزيون “الجزيرة” في مقابلة معه في الربيع السابق للعملية “عليك أن تكون متنبهاً دائماً، وأنا والحمدلله يسمونني “الثعلب” لأنني أستطيع أن اشعر بما هو خلفي وحتى أستطيع أن أشعر ماذا يوجد خلف هذا الحائط. الحمدلله أنا امتلك إحساساً أمنياً عالياً، ولكننا نعلم جيداً الثمن الذي ندفعه للطريق التي قرّرنا السير به ولا مشكلة لدينا في ذلك. أمنُّ أن يمن الله عليّ بالموت شهيداً”.

توقف المصعد في الطابق الثاني. خرج المبحوح منه، وبقي فيه الرجل الذي كان على الهاتف، متجهاً إلى طابق أعلى، بالتأكيد كان سائحاً. اتجه المبحوح يساراً وتوجه إلى الغرفة 230. كان الممر خالياً، وبحكم  العادة تفقد المبحوح إطار الباب وآلية عمل قفله بحثاً عن أي شقوق أو خدوش أو أي شيء يوحي بعبث ما ولكنه لم يجد شيئاً. دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه. سمع ضجة فاستدار ليرى ما سببها، ولكنه تأخر.

يتوقف بيرغمان عن رواية ما حصل ليعود بشريط الأحداث إلى الخلف فيقول، كانت خطة اغتيال محمود المبحوح قد أقرت قبل أربعة أيام، في 15 يناير/كانون الثاني خلال اجتماع رُتب على عجل في القاعة الكبرى قرب مكتب رئيس “الموساد” مائير داغان، بعد أن كانت الاستخبارات العسكرية “الاسرائيلية” قد اخترقت خادم البريد الالكتروني للمبحوح واكتشفت أنه حجز تذكرة سفر من دمشق إلى دبي في 19 يناير/كانون الثاني. خلال ذلك الاجتماع كان هناك حوالي 15 شخصاً جالسين حول طاولة طويلة، من ضمنهم ممثلون لأقسام التكنولوجيا والاستخبارات والأمور اللوجستية في “الموساد”. وكان الشخص الأكثر أهمية في الاجتماع بعد داغان المدعو “هوليداي” رئيس وحدة قيسارية، وهو رجل أصلع الشعر وممتلىء الجسم وقد أخذ على عاتقه أن يتولى شخصياً الأمرة في “عملية شاشة البلازما”.

كان المبحوح قد أصبح على لائحة المطلوبين للاغتيال لدى “الإسرائيليين” منذ زمن بعيد. وكان الوضع على الحدود مع قطاع غزة قبل عام قد تدهور بصورة سيئة إلى حد أنه في 27 ديسمبر/كانون الأول 2008 شنّت “إسرائيل” عملية “الرصاص المسكوب”، وهي كانت عبارة عن هجوم واسع النطاق لوقف “حماس” من إمطار “المجتمعات الإسرائيلية” بصواريخ القسام والكاتيوشا، وقد تمكنت “حماس” حينها من اطلاق عدد كبير من هذه القذائف من قطاع غزة، والفضل في ذلك يعود إلى عمليات شراء الأسلحة  وشبكات النقل التي كان يتولاها المبحوح بمساعدة من الحرس الثوري الإيراني.

كانت المعلومات الاستخبارية عن “حماس” تتحسن في السنوات القليلة التي سبقت، وكانت عملية “الرصاص المسكوب” قد بدأت بقصف جوي ضخم أعطي اسماً سرياً هو “الطيور الجارحة” واستهدف الصوامع التي كانت تخفي فيها “حماس” صواريخها. وقد علم “الموساد” أن الشبكة التي كان يُديرها المبحوح تمكنت من تعويض “حماس” عن الأسلحة التي خسرتها. كانت الأسلحة تُنقل من إيران إلى بورت سودان على البحر الأحمر ومن هناك يتم تهريبها عبر شبه جزيرة سيناء في مصر ومنها إلى قطاع غزة عبر أنفاق متعددة الاتجاهات في محاولة لتجنب حرس الحدود المصريين ودورياتهم.

تتبع “الموساد” الشحنات الإيرانية في البحر وعندما غادرت الشاحنات بورت سودان في يناير/كانون الثاني عام 2009 شنّ سلاح الجو “الإسرائيلي” هجوماً بعيد المدى ودمّر القوافل وقتل الرجال فيها. وينقل بيرغمان عن داغان قوله تعليقاً على هذا النوع من العمليات: “نشاطات مثل هذه تتسبب بضرر كبير لطرق التهريب من إيران إلى حماس. ليس ضرراً مطلقاً وليس كافياً لتحقيق أرباح فورية ولكنه يتسبب بانقاص ملحوظ (في الترسانة)”.

إقرأ على موقع 180  كتاب "تجربة الاختفاء".. سيرة إبداع المقاوم الفلسطيني

لسبب ما لم يسافر المبحوح في ذلك اليوم مع القوافل، يقول بيرغمان، ولكنه غادر السودان عبر طريق اخر، ولتصحيح ذلك طلب داغان موافقة (رئيس الوزراء ايهود) اولمرت على “عملية سلبية” ضد المبحوح (تعبير استخباري “إسرائيلي” يعني القتل المتعمد أو الاغتيال) وحصل عليها. وعندما تولى بنيامين نتنياهو المنصب خلفاً لأولمرت في مارس/آذار عام 2009 قام بتجديد الموافقة.

يتابع بيرغمان، كانت دبي المكان الأكثر مناسبة لقتل المبحوح، فالأماكن الأخرى التي كان يقضي فيها أوقاته – طهران ودمشق والسودان والصين – لديها أجهزة استخبارات فاعلة جداً قد تتسبب بمتاعب جمة لفرق الاغتيال في “الموساد”. بينما دبي كانت مكتظة بالسواح ورجال الأعمال الأجانب، ولديها بحسب ما كان “الموساد” يعتقد قوى استخبارية أضعف وقوى أمنية أضعف. وكانت دبي ما تزال دولة مستهدفة (معادية) ومن الناحية الرسمية دولة معادية لـ”اسرائيل”. ولكن في ذلك الحين كان “الموساد” قد قتل رجلاً في وسط دمشق (عماد مغنية) وقتل جنرالاً سورياً في فيلته (الجنرال محمد سليمان) في اللاذقية، وبالمقارنة فإن قتل مسؤول عملياتي لحركة “حماس” في مدينة دبي السياحية سيكون نسبياً هدفاً سهلاً.

ومع ذلك تطلبت العملية فريقاً كبيراً مقسماً إلى مجموعات صغيرة يكون بامكانها تحديد الهدف عند وصوله إلى دبي وابقائه تحت المراقبة فيما الآخرون سيكلفوا بتنفيذ عملية القتل في غرفة الفندق بطريقة يبدو معها وكأن المبحوح مات ميتة طبيعية. وكانوا يحتاجون لازالة كل الأدلة ومغادرة البلاد قبيل أن تكتشف الجثة وذلك تحسباً لأي أمر سيء قد يحدث خلال التنفيذ.

لم يكن الجميع مقتنعاً أن المبحوح مهماً بما يكفي لتبرير الجهد والأخطار لقتله، وحتى أن البعض قال لداغان إن المبحوح لا تنطبق عليه الشروط المطلوبة لـ”العملية السلبية” (الاغتيال). كل من في “الموساد” كان موافقاً أن المبحوح يستحق الموت، ولكن شن عملية في دولة مستهدفة كان يتطلب أن يكون الهدف مصدر خطر جدي على “إسرائيل”، وأن قتله من شأنه أن يترك تأثيراً كبيراً على ازالة هذا الخطر وأن يفقد العدو توازنه. في الحقيقة فإن المبحوح لا يتمتع بأي من الصفتين، يقول بيرغمان، ولكن بعد كل النجاحات السابقة كان داغان ومسؤولون آخرون في “الموساد” يتمتعون بثقة عالية بالنفس جعلتهم يمضون قدماً في قرار العملية.

بداية، لاحق فريق من وحدة قيسارية المبحوح في دبي في العام 2009، ليس بهدف قتله ولكن لدراسة تحركاته وبالأخص للتأكد أنه الشخص المعني. بعد أربعة اشهر، وتحديداً في نوفمبر/تشرين الثاني، ذهب فريق عملية “شاشة البلازما” مجدداً إلى دبي، هذه المرة لتصفيته. فقاموا بتسميم مشروب أحضر له إلى غرفته في الفندق، ولكن إما أنهم وضعوا الكمية الخطأ من السم أو أنه لم يشرب ما يكفي، فأغمي عليه فقط، وعندما استعاد وعيه قطع زيارته وعاد إلى دمشق حيث عزا الطبيب فقدانه وعيه إلى ارتفاع في أعداد الكريات البيضاء في الدم. تقبل المبحوح هذا التشخيص ولم يشتبه بأنه تعرّض لمحاولة اغتيال.

تسبب هذا الحادث باحباط داخل “الموساد”، فقد تم تعريض أناس وموارد كبيرة للخطر ومع ذلك لم ينجز العمل. أصر “هوليداي” أنه يجب ألا يكون هناك أي خطأ هذه المرة. وأن فريق الاغتيال لا يغادر دبي قبل أن يرى بأم العين بأن المبحوح قد أصبح ميتاً. برز اعتراض وحيد في الاجتماع الذي جرى في مكتب قريب من مكتب داغان في 15 يناير/كانون الثاني. فقسم الوثائق كان لديه مشكلة في اعداد جوازات سفر مزيفة جديدة يعتد بها لكل أعضاء الفريق. فقد كان هناك أكثر من 24 شخصاً يتوجب ذهابهم إلى دبي والبعض منهم سيكونوا في طريقهم لدخول البلد نفسه بنفس وثائق السفر ونفس قصص الغطاء للمرة الثالثة في مدة ستة أشهر تقريباً. خلال أيام قيادة هالفي (سلف داغان) الحذرة جهاز “الموساد” كان من شأن هذا السبب وحده أن يؤدي غلى الغاء العملية. ولكن داغان وهوليداي قررا أن يتحملا الأخطار ويمضيا في ارسال الفريق بالوثائق المتوفرة.

وعلى أية حال لم يكن هوليداي يتوقع أية مصاعب، وكان يعلم أن اكتشاف الجثة يُمكن أن يثير الشبهات ويمكن أن يؤدي ذلك إلى اجراء تحقيق، ولكن ذلك سيحدث فقط بعد وقت طويل من عودة الفريق إلى “إسرائيل” تاركاً للشرطة خلفه صفر أدلة للتعامل معها. وبالتأكيد لن يفشي أحد في “الموساد” سر المهمة كما أن أحداً لن يلقى القبض عليه، ما يؤدي إلى نسيان الأمر بسرعة.

أملى مائير داغان على كبار مساعديه القرار النهائي: “تم اقرار عملية شاشة البلازما للتنفيذ”.. وما أن غادر المشاركون، أضاف بصوت عميق “وحظاً موفقاً للجميع”!

Print Friendly, PDF & Email
سلطان سليمان

صحافي لبناني؛ كان يُوقّع مقالاته باسم "ماهر أبي نادر" لضرورات عمله

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إسرائيل تغتال الرنتيسي بعد ياسين.. ماذا عن عرفات؟ (112)