10 ملاحظات على “الحياد الناشط”: الراعي وعقدة التاريخ!

تميزت مذكرة "الحياد الناشط" التي أذاعها البطريرك الماروني بشارة الراعي من المقر البطريركي الصيفي في الديمان، بقراءة تاريخية غلبت عليها نبرة يمينية لا تمت بصلة إلى أدبيات بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق، وتذكّر ببعض أدبيات اليمين اللبناني إبان الحرب الأهلية في لبنان.

لا يريد البطريرك بشارة الراعي أن تنتهي ولايته من دون أن يُذكر إسمه في الكتب التي تروي تاريخ لبنان. بذلك، تستمر عقدة البطريرك الماروني الراحل نصرالله بطرس صفير مستحكمة بأدبياته، بالنظر إلى الدور التاريخي الذي لعبه سلفه على مدى ربع قرن من الزمن، وكابد خلاله ما كابد وقال خلاله ما قال، علماً أن الراعي نفسه ألمح الى ذلك في احدى عظاته عندما اشار الى ان البطريرك إلياس الحويك ذكره التاريخ بأنه بطريرك لبنان الكبير (1920)، مثلما أشار إلى أن البطريرك أنطون عريضة خُلّد بأنه “بطريرك الاستقلال” (1943)، ما يعني انه يريد ان يكون في الألفية الحالية “بطريرك الحياد”.

ثمة ملاحظات بديهية على مذكرة البطريرك الراعي يمكن سردها على الشكل الآتي:

أولاً، ثمة من يخلط بين الحياد والتحييد، فالقول ان الجميع وافق على الحياد في “اعلان بعبدا” (2012) غير دقيق. الصحيح ان المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني في عهد الرئيس ميشال سليمان قد وافقوا على تحييد لبنان عن ازمات المنطقة (النأي بالنفس)، ولذلك، ثمة كبير فرق بين الحياد والتحييد.

ثانياً، عندما تأتي مذكرة “الحياد الناشط” على ذكر اسرائيل بوصفها تمثل خطراً وأنها هجّرت الفلسطينيين الى لبنان، كان لافتاً للإنتباه أنها لم تلحظ ان خطر تهجير الفلسطينيين من أرضهم في فلسطين بدأ مع نكبة العام 1948، أي في السنوات الاولى للاستقلال اللبناني، وليس في العام 1969 مع توقيع اتفاق القاهرة في عهد الرئيس شارل حلو. وطالما أن تداعيات اللجوء الفلسطيني ماثلة على أرض لبنان كله (مخيمات اللجوء منتشرة في كل المناطق) وطالما أن هذا الخطر لم يعد خطراً على طائفة أو مذهب أو منطقة، كيف سيتم تحييد لبنان عن قضية اللاجئين الفلسطينيين أي عن قضية حق العودة إلى فلسطين؟.

ثالثاً، لم تأت المذكرة على ذكر خطر اللجوء السوري. بمعنى آخر، لقد خرج 35 الف جندي سوري من لبنان في العام 2005 وجاء نحو مليوني نازح سوري إلى لبنان منذ العام 2011 حتى يومنا الحاضر، وفي حال لم ينجح الحل السلمي أو ذهبت سوريا مجدداً الى موجات عنف وارهاب تنذر بالتقسيم واصبح على حدود لبنان دولة او دويلة يسيطر عليها الفكر الظلامي، كيف سيعيد لبنان النازحين السوريين وكيف سيتم تحييد لبنان عن هذا الخطر الوجودي؟.

رابعاً، ما طبع عهد الرئيس كميل شمعون (1952 ـ 1958) هو صراع الاحلاف. وقتذاك، حصل صدام بين رئيس الجمهورية كميل شمعون وبين البطريرك الماروني بولس المعوشي. نتيجة لذلك، تم إنتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيسا للجمهورية بناء على تسوية اميركية – مصرية، وفي بداية عهده، جوبه شهاب برفض مسيحي بسبب حياده الإيجابي لمصلحة العرب وجمال عبد الناصر.

خامساً، ثمة مقاربة غربية مختلفة للواقع المسيحي في اللبناني غابت عنه مذكرة الحياد الناشط. هنا تكفي الاشارة الى ما قاله الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي للبطريرك الماروني والجنرال ميشال عون كرئيس اكبر كتلة نيابية مسيحية، وفي قلب قصر الاليزيه. سأل ساركوزي كلاً من الراعي وعون: “كم عددكم أنتم موارنة لبنان ومسيحيي الشرق؟”، ولم ينتظر جواب الإثنين بل قال هو بنفسه “انتم كمية يمكن التغاضي عنها”.

ثمة خشية أن تمهد طروحات الحياد اليوم إلى خيارات “الإنعزال” مستقبلاً، أي القول لاحقاً أن الحياد لم يقدم النتيجة المنشودة، فلنذهب إلى الفدرالية. بذلك، يكون من صاغ المذكرة قد قرر زج بكركي بخيارات لا تمت بصلة إلى تاريخها

سادساً، على سيرة “مذكرة الحياد الناشط”، هل طبق موارنة لبنان “الارشاد الرسولي” الذي يهدف لاعادة نهضة المسيحيين في لبنان، ولماذا سارعت الكنيسة المارونية الى عقد المجمع الماروني الذي قدم مقاربة متناقضة في بعض عناوينها مع “الارشاد”؟.

سابعاً، لا وجود لمصطلح “الحياد الناشط” في القانون الدولي. اما حياد او لا حياد. بهذا المعنى، يصبح طرح بكركي غير متناغم مع القانون الدولي الذي يقول بأنه يجب على الدولة ان تتقدم بطلب الى الامم المتحدة، اي لا يستطيع البطريرك الماروني نفسه أن يتقدم بمثل هذا الطلب، في ظل وجود دولة على رأسها رئيس جمهورية من الطائفة المارونية. الحري بسيد بكركي أن يطرح أفكاره على رئيس الجمهورية وأن يحاول اقناعه بها على ان تتبناها رئاسة الجمهورية كموقع سياسي وليس البطريركية كموقع روحي، بقطع النظر من هو رئيس الجمهورية ومن هو بطريرك الموارنة. كما ان الدول المحيطة بلبنان يجب ان توافق على حياد لبنان، وهذا الشرط غير محقق كونه لا حدود مرسمة، لا برا ولا بحرا، وتحديداً مع سوريا.

إقرأ على موقع 180  بايدن و"رحلة العودة النووية".. خمسة أشهر فقط!

ثامناً، تتناقض المذكرة وكل مواقف الفاتيكان لا سيما منذ عهد البابا ليون الثالث عشر حتى البابا فرنسيس الذي إستعاد مصطلح لبنان الرسالة غداة إنفجار مرفأ بيروت. كما تتناقض مع موقف البابا بنديكتوس الخامس عشر الذي وقّع على خريطة لبنان الكبير، وهي المرة الوحيدة التي يوقع فيها حبر اعظم على خريطة دولة معينة، اي ان هذه الدولة التي اسمها لبنان الكبير بمسيحييه ومسلميه قامت أيضاً ببركة الكرسي الرسولي في روما.

تاسعاً، ان يأتي رئيس فرنسا ايمانويل ماكرون ويقول بفصل لبنان عن ازمات المنطقة ولا يستخدم عبارة الحياد أو النأي بالنفس، لكأنه اراد القول للبنانيين حافظوا على دور لبنان ورسالته. ويسجّل لوزير الخارجية الفرنسية جان – ايف لودريان عندما زار لبنان مؤخراً، والتقى البطريرك الراعي أنه عندما سُئل عن طرح الحياد كان كلامه واضحا بأن اللبنانيين هم من استخدموا عبارة “النأي بالنفس”، وهي كلمة بلا معنى في علم السياسة!

عاشراً، لن يطول الوقت حتى يكتشف من صاغ مذكرة الحياد، أنه وضع بكركي في منزلة بين إثنتين: حياد الكنيسة عن التأثير في القرار الداخلي والخارجي اللبناني، وحياد الكنيسة المارونية عن الكنائس المسيحية الاخرى التي ترفض هذا الطرح الذي يلغي دورها في محيطهم والانتشار.

في كلمته الاخيرة، غداة إنفجار مرفأ بيروت، وجه البابا فرنسيس ثلاثة نداءات، الاول الى المجتمع الدولي لمساعدة واغاثة لبنان، والثاني الى الكنيسة عندما دعاها إلى سلوك طريق الفقر الانجيلي لان شعبكم يتألم ويتألم للغاية، والثالث الى اللبنانيين للحفاظ على لبنان برغم الواقع الهش.

وإذا كان البعض ممن صاغوا مذكرة “الحياد الناشط” يستشهدون بـ”البركة الفاتيكانية” التي أخذوها من السفير البابوي في بيروت الذي إطلع على كل الأفكار التي تضمنتها المذكرة، فإن بعض الأوساط القريبة من الفاتيكان تقول إنه ثمة خشية أن تمهد طروحات الحياد اليوم إلى خيارات “الإنعزال” مستقبلاً، أي القول لاحقاً أن الحياد لم يقدم النتيجة المنشودة، فلنذهب إلى الفدرالية. بذلك، يكون من صاغ المذكرة قد قرر زج بكركي بخيارات لا تمت بصلة إلى تاريخها.

ما لم تتضمنه مذكرة “الحياد الناشط” أن سيد بكركي يعطي من خلالها إشارة بأن لا عودة إلى الوراء في حمل راية الحياد. لكن السؤال المطروح في آن معاً: لماذا لم يتبنَ مجلس المطارنة الموارنة هذه المذكرة في إجتماعه الشهري ولماذا حرص الراعي على أن تبقى المذكرة عبارة عن وجهة نظر بطريركية؟

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الأزمة في السيولة.. وإحتياطي مصرف لبنان يحمي الليرة