الديمقراطية متأصلة في طباع الموريتاني. فهو لو سكن الخيمة في مواسم التمر أو مواسم الخروج الى الصحراء، يترك الجهات الأربع في خيمته مفتوحة لكل زائر. ولو جلس الى مائدته العامرة مع ضيوفه في المدن والقرى، يترك أبواب بيته مفتوحة لكل ضيف. ولو ناقش بأمور البلاد والعباد، فالنقاش مفتوح الى أقصاه، لا يحدُّ منه الا أخلاقٌ توارثها جيل عن جيل، فكبير السن له الاحترام في المجالس حتى لو كان الفارق بينه وبين من يليه عاما واحدا، والكلام المنبوذ مفقودٌ، لا بل أن الرجل قد لا يُدخن أو يلقي نكتة في مجلسٍ لو كان أبوه أو أخوه أو ابن عمه ممن يكبرونه سنا بين الحضور.
الديمقراطية متأصّلة أيضا في طباع المجتمعات المتنوعة. فهنا لأهل الزوايا والقلم (العلم والدين) مكان الصدارة، يليهم أهل السيف، ثم أهل الفن. لكن الفنّان قد يرفع من شأنِ سياسيٍ أو يُخفّضه بقصيدة أو أغنية، لذلك فهو مُهاب. وقد سمحت الديمقراطية الحقيقية في هذه البلاد لفنانين بتبوء مناصب السياسة. نذكر على سبيل المثال لا الحصر المُبدعة الكبيرة المُطربة المعلومة بنت الميداح التي انتقلت من الغناء الى المعارضة ثم الى مجلس الشيوخ ولم تترك الفن، وحازت على احترام كبير في مجتمعها.
لا يتناقض التعلّق بالدين والأحاديث في موريتانيا، مع ممارسة أقصى أنواع الديمقراطية، بل على العكس يعزّزها ويُكرّسها، لأن الممارسة الدينية هنا لا تزال أصيلة كما كانت على عهد الرسول الكريم. أساسها صوفيٌّ وتنويعاتها معرفية تجمع بين علوم الدين وعيون الأدب والشعر والمعارف الحديث الأخرى.
وفي طباع هذا الشعب العربي الافريقي الأصيل، عشقٌ استثنائي لقضايا العرب وفي مقدمها فلسطين. فبعد سنوات على خطيئة الرئيس معاوية ولد الطايع في التطبيع مع إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها، اُطيح به، ثم جُرفت السفارة الإسرائيلية عن بكرة أبيها، وأقيم مجسّم للأقصى أمام السفارة الاميركية، التي سُميّ الشارع الذي تقوم على جانبه، ” شارع القدس”.
بين عبد العزيز والغزواني
بعد ولايتين من 10 سنوات، ضَبطَ فيهما الأمن وقاتل الإرهاب وطرد السفير الإسرائيلي وأحدث بداية نهضة اقتصادية واجتماعية جيدة وحافظ على استقلالية لافتة، سلم الجنرال محمد ولد عبد العزيز رفيق سلاحه ودربه (منذ كانا ضابطين وشاركا في انقلابين) محمد ولد الشيخ الغزاوني مقاليد السلطة. فبادر الأخير شعبه بخطابٍ واعد شدّد فيه على “وجوب وجود معارضة ليستوي الوطن دون تفرقة ولا عنصرية”، ومؤكدا على رفض أي املاءات خارجية.
لم يكن مشهد التسلم والتسليم مألوفا أيضا مع حضور رئيس وزراء المغرب د. سعد الدين العثماني ونظيره الجزائري نور الدين بدوي، وبينهما رئيس بوليساريو إبراهيم غالي. فموريتانيا تعترف بالجمهورية الصحراوية ورئيسها بينما المغرب يعتبرها من الأقاليم المغربية، وكان هذا ولا يزال سببا لحساسية مضبوطة بين نواكشوط والرباط. لعل هذه الوسطية سترسم معالم العهد الجديد بقيادة الغزواني المعروف بحزمه وهدوئه وحفاظه على واحدة من سمات الشعب الموريتاني العريق، أي الاعتدال حيال الصراعات الكبرى والالتزام بالقضايا العربية وبدعم فلسطين.
شهد عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز برودة بالعلاقات مع المغرب حيث لم يلتق الرئيس والملك ثنائيا طيلة العهد، وقُطعت العلاقات مع قطر حين جاءه أميرها ينصح باشراك الإسلاميين قبل وقوف نواكشوط الى جانب السعودية والامارات ( وثمة من يتحدث عن أسباب أخرى لها علاقة باستضافة الرباط والدوحة معارضين موريتانيين) لكن الرجل بقي صلبا في موقفه حيال سوريا، فلم يقبل بأقل من وضع العلم السوري في القمة العربية التي استضافتها بلاده، ولم يقطع العلاقات مع دمشق وفتح الأبواب لكل السوريين ( وثمة وفود برلمانية زارت وستزور دمشق.
الرئيس الجديد، رفيق وصديق وشريك في السلطة منذ سنوات طويلة لمحمد ولد عبد العزيز. ترافقا على مقاعد الدراسة ثم في معارج السلطة، فكان الغزواني عقلا عسكريا حازما لضبط الأمن وإعادة تشكيل المؤسسة العسكرية، بينما عبد العزيز العريق بالأمن والجيش أيضا راح يمارس دور الرئيس بامتياز. وحين كانت الأمور تاريخيا تنحرف عن مسارها كان الرجلان سويا هنا لقلب أي رئيس ينحرف عن المسار العام.
الرئيس الجديد هادئ الطباع، يوحي بقامته الطويلة ونظارتيه بانه بروفسور جامعي، يعرف عن المتنبي بقدر ما يعرف بالسياسة والأدب والعسكر كما يقول عارفوه المقرّبون. والده كان شيخا، وهو ابن عائلة صوفية عريقة، ما يعني أنه يُدرك تماما كيفية مخاطبة شعبه والتوازنات الدقيقة فيه أكانت قبلية او جهوية أو دينية في بلد كل أهله من المسلمين السنة المالكيين والمنفتحين على كل المذاهب الاخرى.
يُدرك الرئيس الموريتاني تماما كيفية مخاطبة شعبه والتوازنات الدقيقة فيه أكانت قبلية او جهوية أو دينية
الوسطية وعدم التفرقة في مجتمع متعدد الأعراق والألوان، تجلّت بأبهى صورها في حفل التنصيب. حيث أن رئيس المجلس الدستوري جالو مامادو باتيا الأسود البشرة والأبيض القلب والسريرة والموسوعي المعارف هو الذي وشّح الرئيس الجديد بالوسام الكبير، وكان الى جانبه نخبة من القضاة بينهم امراة في بلد صار للنساء فيه مكانٌ مرموق وكبير في كثيرة من الوزارات والإدارات والمؤسسات.
حسنا فعل مامادو باتيا، وحسنا فعل الرئيس الغزواني في خطابه الزاخر بالوعود حول وحدة العشب واللحمة الوطنية وعدم التفرقة والتمييز. ذلك ان ثمة من يُعدّ منذ سنوات لموريتانيا أساليب متنوعة للفتنة تركّز على العنصر الزنجي في البلاد. فهذه وزارة الخارجية الاميركية أصدرت قبل أيام من تنصيب الغزواني واحدا من تقاريرها المعلّبة للتأكيد على ان في البلاد عبودية وعدم احترام لحقوق الانسان. غاب مثل هذه التقارير تماما حين أقدم معاوية ولد الطايع على فتح علاقة مع إسرائيل. واللبيب من الإشارة يفهم، لكن من عنده كرامة يفهم ولا ينفذ املاءات خارجية، ويقال ان ولد عبد العزيز كاد يطرد السفير الأميركي مرة حين فاتحه بمواضيع كهذه ونصحه بالاهتمام بالشؤون الداخلية لأميركا وعدم التدخل في موريتانيا. ولن يُبدِ الغزواني حزما أقل في الكرامة الوطنية.
ولان الدول التي عندها كرامة يحترمها العالم ويقاطعها متخاذلو العرب، فقد حضر من أميركا جون ديفر الكسندر مستشار الرئيس دونالد ترامب لشؤون الطاقة والاستثمارات في بلد يعد بكثير من الثروة الغازية، وحضر من روسيا مساعد وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وبعث الرئيس الفرنسي جان جاك بريداي رئيس لجنة الدفاع الوطني والقوات المسلحة في البرلمان، كما حضر قادة كثيرون من الجوار الافريقي إضافة الى أكثر من ٥ ألاف مدعو، بينما كان الحضور العربي ضيئلا، وراحت بعض الفضائيات الناقمة تتحدث عن ملاحقات قضائية قريبة ضد عبد العزيز.
لا توجد مُدنٌ فاضلة عند العرب. ولا توجد أنظمة خالية من النواقص. ففي موريتانا ترفع المعارضة صوتها مرارا ضد السلطة. لكنها تُمارس كامل حريتها في الشجب والانتقاد والتصحيح. ومن يرى هذه الايام كثافة اللقاءات بين أجهزة الدولة من الحكومة حتى الشرطة مع المعارضة، يُدرك أن هذه البلاد المطبوعة على الحوار والنقاش، ستجد طريقها الجميل نحو ترسيخ الديمقراطية..
هذه البلاد المطبوعة على الحوار والنقاش، ستجد طريقها الجميل نحو ترسيخ الديمقراطية
لكن السؤال الأهم هو التالي: هل سيُسمح فعلا لبلد جرف السفارة الإسرائيلية ووضع مجسم الأقصى مقابل السفارة الاميركية في شارع القدس، ويرفض التدخلات العربية والأجنبية، وضرب الإرهاب دون هوادة، ويعد بثروات كبيرة من النفط والمعادن والاسماك أن يستقر وينتعش؟
ربما الجواب صعب، والحركة الدبلوماسية ناشطة منذ أسابيع ولا شك انها تحمل ضغوطا واغراءات، لكن الأكيد أن الممسكين بمقاليد السلطة يعرفون كل ذلك، ويدركون خصوصا أن الرياح منتظرة من بوابة تأليب الشعور العرقي عند بعض قطاعات المجتمع الذي يشهد زيادة ديمغرافية في عدد الحراطين (وهم عبيد سابقون سود البشرة) والافارقة مقابل البيضان.
من موريتانيا التي شهدت هذا التسلم والتسليم بين رئيسين منتخبين ديمقراطيا، الى الجزائر التي تحرّك ملايين الناس في شوارعها واطاحوا بعهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة دون إراقة نقطة دماء واحدة، الى تونس التي شهدت مناظرات تلفزيونية رائعة تُرسخ الديمقراطية فيها أثناء الانتخابات الرئاسية، الى المملكة المغربية التي تلقّف ملكها رياح الربيع العربي قبل ان تصل الى بلاده فأشرك الإسلاميين المعتدلين في السلطة من حزب العدالة والتنمية، يبدو المشهد في المغرب العربي واعدا بتحول ديمقراطي حقيقي ومستفيدا الى أقصى حد من دماء ودمار ما وصف زورا بـ”الربيع العربي”.