

في هذه الأثناء، ارتفعت أصوات الأحزاب اليسارية الإيرانية المحسوبة على الإتحاد السوفياتي السابق وبدأت تبث في الشارع الإيراني فكرة شن هجوم على “أوكار التجسس” ولا سيما السفارة الأميركية في طهران. لم تكن الحكومة الإيرانية المؤقتة برئاسة المهندس مهدي بازركان قد بسطت نفوذها بالكامل على الداخل الإيراني حين احتل طلاب الجامعات الثوريين مقر السفارة الأميركية في طهران في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1979، أي بعد 289 يوماً من إنتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الخميني.
فشلت الجهود الديبلوماسية آنذاك في تحرير الديبلوماسيين الرهائن فقررت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر المجازفة بتنفيذ عملية “القبضة الحديدية” بهدف إنقاذ الرهائن ولكن هذه العملية التي يُعرّفها الإيرانيون باسم “حادثة طبس” باءت بالفشل.
بادرت الولايات المتحدة إلى تبني إجراءات سياسية وإقتصادية وأمنية وعسكرية مشددة على الساحتين الدولية والإقليمية ضد إيران، وجاءت المفاجأة من حيث لم يكن رجال الثورة ينتظرون. شنّ صدام حسين حرباً ضد إيران في الرابع من كانون الأول/ديسمبر 1980 أي بعد 321 يوماً من احتلال السفارة الأميركية في طهران. حربٌ استمرت ثماني سنوات وكلّفت إيران مئات آلاف الضحايا إضافة إلى خسائر مادية قدرت بمئات مليارات الدولارات.
وبرغم أن إيران لم تعرض أي وثائق أو مستندات تاريخية محكمة إلا أن العديد من الباحثين الإيرانيين يعتقدون أن أميركا لعبت دوراً في إندلاع تلك الحرب وهي من أعطت الضوء الأخضر لصدام حسين بهدف الإنتقام من احتلال السفارة الأميركية في طهران من جهة ومحاصرة إيران خارجياً من جهة أخرى.
بعد 105 أيام على إندلاع الحرب العراقية الإيرانية، لعبت الجزائر دور الوسيط بين إيران وأميركا وتم تحرير الديبلوماسيين الرهائن في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير 1980 بموجب “إتفاقية الجزائر”، ولكن إيران لم تُحقق في تلك المفاوضات أي مكاسب تذكر وخرجت كما يقال “بخفي حنين” حتى أن البعض في التيار المحافظ يصف إتفاقية الجزائر بأنها “إتفاقية مخزية”.
وقتذاك، تولى المساعد التنفيذي لرئيس الوزراء الإيراني بهزاد نبوي قيادة الفريق الإيراني المفاوض وما أن تم توقيع الإتفاقية، حتى إتهمه المتشددون “بإفتقاده للكفاءة والخبرة اللازمة في المفاوضات”.
مضت 45 سنة على تلك الواقعة وما تزال إيران تخوض مفاوضات تلو المفاوضات مع أميركا لكن هذه المرة برعاية سلطنة عُمان ويُراد لها أن تكون في مرحلتها الأولى غير مباشرة، حسب الإيرانيين، بينما يقول الأميركيون إنها ستكون مباشرة.
تأتي هذه المفاوضات استكمالاً لتلك المعروفة باسم “مفاوضات فيينا” وهدفها تحرير إيران من عقوبات أميركية وغربية مفروضة منذ أكثر من أربعين عاماً، أدت إلى محاصرة إيران وتكبيدها خسائر كبيرة جداً، فضلاً عن إفقار الشعب الإيراني وتدفيعه أثماناً كبيرة.
ترامب يُسقط الاتفاق النووي!
إنطلقت المفاوضات النووية رسمياً بين واشنطن وطهران في العام 2003 بإعلان صادر عن قصر سعد آباد (مقر رئاسة الجمهورية الإيرانية) وما تزال فعلياً مستمرة حتى يومنا هذا، ولكن بصورة متقطعة حيث تخللتها طلعات ونزلات وتميز الفصل الأول منها بالإعلان عن توقيع إتفاق العام 2015 (خطة العمل المشتركة) في عهد الرئيسين الأميركي باراك أوباما والإيراني حسن روحاني (مثّل محمد جواد ظريف الجانب الإيراني ومثّل جون كيري الجانب الأميركي في التوقيع)، إلا أن خروج أميركا من الإتفاق النووي بشكل أحادي الجانب خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب عام 2018 أعاد المفاوضات النووية إلى نقطة الصفر، وهذا ما دفع بإيران إلى التراجع عن التزامات منصوص عليها في الإتفاق النووي، مثل رفع مستوى تخصيب اليورانيوم إلى درجة 60%.
وبرغم أن إتفاق 2015 حقّق مكاسب جيدة بالنسبة لإيران إلا أن البعض في التيار المحافظ اتهم الفريق الإيراني المفاوض برئاسة محمد جواد ظريف بـ”الخيانة”!
وبفضل الجهود الأوروبية، عقدت ست جولات تفاوضية في فيينا في في عهد روحاني ـ ترامب (الولاية الأولى) ولكن التشدد الأميركي من جهة والإجراءات التي تبناها المحافظون الذين سيطروا على البرلمان الإيراني من جهة أخرى، حالت كلها دون التوصل إلى إتفاق نهائي.
وفي الوقت الذي توقع فيه كثيرون إستئناف المفاوضات بسرعة أكبر مع تولي الرئيس الإيراني الراحل ابراهيم رئيسي في العام 2021 منصب رئيس الجمهورية وبالتالي إسناد مهمة رئاسة الوفد المفاوض إلى شخصية محافظة تتمتع بالخبرة، تم تعيين علي باقري كني رئيساً للوفد الإيراني المفاوض، وهو أحد المعارضين للإتفاق المبرم عام 2015، وهذا يعني أن معارضي الإتفاق النووي عام 2015 في طهران تولوا قيادة المفاوضات غير المباشرة مع أميركا والتي تخللتها صولات وجولات في مسقط والدوحة وعواصم أوروبية إلى أن قرّر الجانبان العودة مجدداً إلى فيينا، ولكن أزمة انعدام الثقة بين الجانبين وتردد إدارة جو بايدن وتشدد الفريق المحافظ في طهران كلها من العوامل التي ساهمت في تعطيل المفاوضات.
واللافت للانتباه أن اندلاع “طوفان الأقصى” في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تزامن مع محادثات كان تجري في عُمان والدوحة بين حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي وإدارة بايدن، لكن سرعان ما توقفت بسبب ما يُمكن تسميتها “الحقبة الجديدة” التي دخلتها المنطقة وما زالت تداعياتها قائمة حتى يومنا هذا.
ويتكوف وعراقجي وجهاً لوجه!
ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني/يناير 2025، تبدى منذ الأيام الأولى لولايته الثانية أنه يسعى للتوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، ملوحاً في الوقت نفسه بالخيار العسكري إذا فشلت المفاوضات.
وفي خطوة مفاجئة، أعلن ترامب قبل نهاية شهر آذار/مارس الماضي أنه وجه رسالة (عبر دولة الإمارات) إلى مرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي، يدعوه فيها إلى فتح صفحة جديدة من التعاون بين البلدين، وختمها بالتحذير من تفويت هذه “الفرصة العظيمة”.
وبالفعل، لم تمض عشرة أيام حتى كانت القيادة الإيرانية ترد على الرسالة الأميركية من خلال سلطنة عُمان، فاتحة الأبواب أمام التفاوض غير المباشر في مرحلة أولى، على أن يتحول الحوار إلى مباشر فور انتهاء هذه المرحلة.
وبشكل مفاجىء للرأي العام العالمي، أعلن الرئيس ترامب يوم الإثنين الماضي، خلال مؤتمر صحافي عقده في البيت الأبيض أثناء استقباله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن بلاده ستخوض مفاوضات مباشرة على أعلى المستويات مع إيران في سلطنة عُمان، مُرجحا احتمال التوصل إلى اتفاق وقال “إذا لم نتمكن من ابرام اتفاق مع إيران ستكون في خطر كبير”.
ومن المقرر أن يُمثل الإدارة الأميركية كبير مفاوضيها في ملفات الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، على أن تتمثل إيران بوزير خارجيتها عباس عراقجي، الذي اقترن اسمه بقيادة فريق بلاده في المفاوضات مع مجموعة (5+1) طوال 18 شهراً إلى أن أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي قبل نهاية ولاية باراك أوباما.
وبطبيعة الحال لن تقتصر مفاوضات عُمان المقررة يوم السبت المقبل، في جولتها الأولى على الملف النووي، بل ثمة ملفات عديدة ستكون مطروحة على طاولة البحث، بينها الصواريخ الباليستية وسلاح المُسيّرات والنفوذ الإقليمي.
هل هناك إرادة سياسية لدى الجانبين بالتوصل إلى اتفاق وكيف يمكن ردم الهوة الكبيرة بين الولايات المتحدة وإيران وكم سيحتاج المفاوضون الإيرانيون والأميركيون إلى وقت من أجل بناء مناخ من الثقة المتبادلة وهل يُمكن أن تكون هناك عناصر ضاغطة على المفاوضين من الجانبين للحيلولة دون توقيع أي اتفاق، وأين ستقف إسرائيل من فرضية الاتفاق وهل ستستفيد إيران من تجربة مفاوضات الجزائر التي استمرت لمدة 444 يوماً أم أنها سوف تُكرّر تلك التجربة فتخرج بسلة لا ثمار فيها؟
لننتظر ما ستحمل الأيام المقبلة من تطورات.